يشعر الصغير «لى» بنوع من الاختلاف فى مجتمعه الفرنسى الضيق بمدينة ليون. بعينيه المنغوليتين الضيقتين وشعره الكستنائى الكثيف وبشرته البيضاء الناصعة، يبدو الطفل للوهلة الأولى كبوتقة انصهرت فيها أجناس المعمورة. رغم سنوات عمره التى لا تتعدى الثمانية أعوام، يجد الصغير نفسه فى ملتقى الثقافات: الثقافة الآسيوية التى تفرضها عليه أصول أمه الفلبينية وجذور أبيه المغربية الأمريكية، فضلا عن ثقافة المجتمع الغربى الذى يعيش فيه. وبين وجبة السوشى التى يعشقها والتى قد لا يتردد أن يضع عليها بعض الصوصات الفرنسية وأطباق الحريرة المغربية، تبدو مائدة أسرة «لى» ذات طابع خاص جدا. ولا يضاهى عشقه للجودو سوى كرة القدم الفرنسية على طريقة زين الدين زيدان. منذ نعومة أظافره أدرك «لى» أنه مختلف عن أقرانه، تسللت إلى أذنيه باكرا كلمة «ميتيس» (مختلط الأنساب والأصول)، وربما استشعر فيها رنة عنصرية... ثار فى البداية لاختلافه، لكن الأمر لم يعد يؤرقه كثيرا. فهو اليوم يبدو مقتنعا للغاية بحكمة زميله الكونجولى مامادو والذى بدوره يبدى إعجابا خاصا بتوليفة منزله، فأبوه فى لون الشيكولاتة، بينما تظهر أمه الفرنسية بلون الفانيليا، أما هو فيبدو كالكراميل. على منتدى Doctissimo تتبادل أسر أطفال الزواج المشترك الخبرات فى مجال التربية لمواجهة المشكلات التى قد تنشأ عن تلك التعددية الثقافية. تقول الناشطة الاجتماعية شهندة مقلد التى يحمل أحفادها الجنسيتين المصرية والروسية: إن أطفال الزيجات المشتركة يواجهون تحديا كبيرا، إذ يتأرجحون بين عالمين ونسقين حضاريين مختلفين، مما ينتج عنه نوعا من الازدواجية. لذا قد تكون رحلة البحث عن الذات مضنية بالنسبة لهؤلاء.. يشعرون بالاغتراب ويتخبطون، بينما قد ينجح آخرون فى التأقلم والتعايش. وهى ترى أن الطفولة من أهم المراحل التى تحدد نتائج التجربة، فالتعليم فى الصغر كالنقش على الحجر. الكثير من الأسئلة ما زالت تؤرق الصغيرة زينة (9 سنوات)، فهى ثمرة زواج (مصرى سودانى) و(جزائرى فرنسى). وهى تطرح كل هذه التساؤلات على أمها: لماذا لون بشرتى يبدو مختلفا عن أمى؟ ولماذا شعر أمى ناعم بينما شعرى مجعد؟ وربما أثار ذلك فى نفسها شعورا غامضا بالغيرة تجاه الأم، شعورا تضاعفه تعليقات الناس فى الشارع التى تؤكد لها أنها جميلة «لكن سمراء»! هذا الإحساس بعدم التماثل وأحيانا بالدونية لا يقتصر على السمر وأصحاب البشرة الداكنة، بل يمتد أيضا إلى الأطفال «البيض»! يروى عصام (30 سنة ومتزوج من أوكرانية)، أن طبيعة ابنه الشقراء سببت له مشكلة: «الكثيرون قد يبدون إعجابهم بالبشرة البيضاء الناصعة والشعر الصفر، مما يعطى الطفل شعورا بالتميز دون معنى حقيقى، الأمر الذى يؤثر عليه سلبا». يوضح الدكتور أحمد عادل إخصائى علم النفس أن الطفل فى المراحل الأولى يكره أحيانا أن يبدو مختلفا عن الآخرين، فهو يحتاج أن ينتمى لجماعة يتجانس معها ويشعر بالأمان فى ظلها. قد يكون أكثر قدرة على تقبل هذا الاختلاف عندما يصبح ناضجا لكن شعوره بذلك فى سن مبكرة يحتاج من الأبوين لنوعية معينة من التربية، لذا تلجأ، ليلى، 38 سنة لعدة وسائل تساعدها على مواجهة التعليقات الخاصة بلون البشرة وهى تقول: «عندما أشاهد فيلما أجنبيا وأرى سيدة سمراء أحاول أن أبدى إعجابى الشديد بها كى أزيد من ثقة ابنتى فى نفسها وأحاول أن أجعلها تقبل ملامحها. وفى بيت أمى عندما تجتمع مع أولاد خالتها وأولاد خالها نحرص على ألا نشعرها بأى تمييز بل قد نبدى الإعجاب بملابسها و طريقة تصفيف شعرها، و كثيرا ما أهمس فى أذنيها أننى لم أكن أتمنى طفلة أجمل منها». حيرة الكلمات تعتبر اللغة من التحديات الكبرى التى قد تواجه الأسر ذات الزيجات المختلطة. فالصغير، سيف (4 سنوات) لا يستطيع أن يقول لأمه إنه يحبها كثيرا فى جملة واحدة بالعربية. فما زال سيف يتخبط بين المصطلحات بلغات عدة يسمعها داخل المنزل، خليط من العربية والألمانية والإنجليزية. وهو يعانى من حيرة بين الكلمات ولا يستطيع الربط بين دلالات الأشياء، لذا تعثر قبوله فى المدرسة. وتقول سوسن، إخصائية تخاطب: «أبناء الأسر المشتركة قد يتأخرون نوعا ما عن أقرانهم فى التخاطب، لذلك ننصح عادة الأسرة بالتحدث معهم بلغة واحدة فى البداية، ومع ذلك أثبتت بعض الدراسات الحديثة أن الطفل كالإسفنج يختزن المعلومات و يبدأ فى استخدامها بعد فترة، ويفسر ذلك أن أطفال الأسر المختلطة قد لا يتحدثون فى عمر الآخرين لكنهم بعد فترة قصيرة يتمكنون من التواصل بأكثر من لغة». فى بيت الصغيرة عالية تزين صورة العذراء أعلى فراش والدتها، وهى تشاهد والدتها كل مساء ترتل آيات الإنجيل قبل النوم، وأحيانا ترافقها للكنيسة يوم الأحد. فأم عالية فرنسية الجنسية إلا أنها حريصة على تعليم ابنتها مادة الدين الإسلامى فى المدرسة وتحاول الإجابة عن تساؤلات ابنتها عن الله التى تفاجئها أحيانا دون أن تخلق صداما. «لا أركز على مساحات الخلاف حول كينونة الله وإنما أسعى للحديث مع ابنتى حول المساحات المشتركة، خاصة الأخلاقيات جوهر الأديان.. فسنوات عمرها القليلة لا تحتمل الصدامات، وعندما تكبر وتنضج سيكون لها حق الاختيار والمفاضلة». هذه البساطة التى تتعامل بها الأم كورين مع موضوع شائك كالدين فى غاية الأهمية لتوازن طفل الزواج المشترك، فبالنسبة للبعض مثل شريف (صحفى، 39 سنة) هذه هى المعضلة الحقيقة فى زواج الأجانب. يقول شريف ابن لأم فرنسية وأب مصرى: «الدين فى المجتمعات الشرقية يعتبر من التابوهات التى لا يمكن المساس بها، بينما الوضع يختلف فى المجتمعات الغربية حيث يمكن انتقاد الدين». ويضيف: «أستطيع حاليا أن أتفهم العقلية الشرقيةوالغربية، لكن قبل سنوات كنت أشعر أننى أمام شخصين يحاول كل منهما أن يصرخ فى الآخر دون أن يفهم أى منهما هذا الآخر». وقد يكون ذلك ما دفع هالا أوكرانية الأصل إلى إشهار إسلامها حتى تجنب أولادها هذا الصراع. وهى تروى: «طالما سأعيش فى بلد مسلم وسيكون أولادى مسلمين فلماذا لا أعتنق الإسلام. ربما فكرت بشكل مختلف لو كنت سأعيش فى الخارج، خاصة أن المسلمين يواجهون صعوبات فى الغرب أحيانا». أرفض الاختلاف! اختلاف طريقة التفكير والسلوك يمثل تحديا كبيرا لتلك الزيجات وبالذات فيما يتعلق بتربية الأطفال وتوجيه سلوكهم، لأن كل طرف يعمل على غرز مفاهيمه وأفكاره وقيمه فى الأولاد، و تحديدا الرجل الشرقى الذى يعتبر الولد امتدادا له على أكثر من صعيد. تشعر إلينا أحيانا بالغربة سواء فى مجتمعها الشرقى التى تأتى إليه فى إجازات أو فى أمريكا حيث تعيش مع أهلها. فقد تبدو مضحكة لزملائها فى الدراسة لأنها مازالت تحتفظ بعذريتها بعد بلوغها سبعة عشر عاما، وهمست بالفعل فى أذنيها إحدى الصديقات ضاحكة أن البنات هنا «يغيرن عذريتهن مع تغيير أسنانهن». هى لا تقتنع فعليا بحجة والدها المصرى الجنسية والذى يردد دوما على مسامعها ضرورة وضع حدود لعلاقتها بالآخرين، لكنها فى الوقت نفسه ترفض النهم الجنسى لدى الغرب وتجد صعوبة فى اختيار شريك حياة مصرى قد لا يفهم جيدا أن ملابسها التى تكشف عن ذراعيها لا تعنى أنها فريسة سهلة. صراع دامى يبلغ ذروته فى فترة المراهقة، مما قد يدفع البعض إلى وضع نهاية للتجربة. قرر سيد والد الطفلة ليلى فى العاشرة من عمرها أن يأتى إلى مصر لأن ابنته على أعتاب المراهقة. فبعد أن انفصل عن زوجته الفرنسية المغربية قرر أن يترك فرنسا التى عمل بها كعامل دهانات، وأتى للقاهرة على طريقة المافيا مختطفا ابنته خلال زيارته الأسبوعية دون إخطار والدتها التى ما زالت تبحث عنها منذ عامين. يرفض سيد أن تتصل ابنته بالشرطة كى تخبرها أن والدها يمنعها من إقامة علاقات جنسية مع زميلها. تعلق الزوجة: «زوجى السابق كان يرغب فى العيش فى فرنسا لكن بعقلية طنطا مسقط رأسه. بدأت مشكلاتى معه عندما بدأت البنت تكبر. وكان يردد أنه لا يريدها أن تكون مثل البنات التى يراها فى الشارع، ذلك كونه منبهرا بالحياة الفرنسية». تنصح الدكتورة نادية رضوان أستاذة علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة عين شمس المقبلين على تجربة الزواج المشترك أن يسعى كلا الطرفين لتفهم ثقافة الآخر وأن يسعى كل منهما للعيش لفترة ما كمقيم وليس كزائر فى بلد الآخر ليتفهم ثقافته ويختبر مدى قدرته على الاندماج معها.. فالوصول لصيغة مشتركة مهم جدا لتربية الأولاد وتدريبهم منذ الصغر على تبنى نظرة نقدية تجاه المجتمعات المختلفة.