أسعار السلع التموينية لشهر مايو 2024..تعرف على نصيب الفرد في التموين    ڤودافون مصر توقع اتفاقية تعاون مع الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات لدعم الأمن السيبراني    بروتوكول تعاون بين جامعة الفيوم والاتحاد العربى لحماية الحياة البرية والبحرية    خسارة للأمة الإسلامية.. كيف تفاعل حلفاء إيران مع مصرع رئيسها ووزير خارجيتها؟    الحكومة تكشف للنواب تبني مقترح نموذج محاكاة للأمم المتحدة    ترقبوا..نتيجة الشهادة الإعدادية 2024..تعرف على توزيع درجات الفصل الدراسي الثاني    تفاصيل عيد الأضحى 2024 ومناسك الحج: الموعد والإجازات    الإعدام لأب والحبس مع الشغل لنجله بتهمة قتل طفلين في الشرقية    حجز استئناف أحمد عز على إلزامه بدفع 23 ألف جنيه إسترليني لتوأم زينة    بعد طائرة الرئيس الإيراني.. هل تحققت جميع تنبؤات العرافة اللبنانية ليلى عبد اللطيف؟‬    "إطلالة أنيقة".. هيفاء وهبي تخطف الأنظار بأحدث ظهور لها والجمهور يعلق (صور)    6 نصائح لمواجهة الطقس الحار.. تعرف عليها    الوفد الروسي بجامعة أسيوط يزور معهد جنوب مصر للأورام لدعم أطفال السرطان    افتتاح دورة إعداد الدعاة والقيادات الدينية لتناول القضايا السكانية والصحية بمطروح    الليجا الإسبانية: مباريات الجولة الأخيرة لن تقام في توقيت واحد    استبدال إيدرسون في قائمة البرازيل لكوبا أمريكا 2024.. وإضافة 3 لاعبين    مدرب الزمالك يغادر إلى إنجلترا بعد التتويج بالكونفيدرالية    مصطفي محمد ينتظر عقوبة قوية من الاتحاد الفرنسي الفترة المقبلة| اعرف السبب    وزير الري: 1695 كارثة طبيعية بأفريقيا نتج عنها وفاة 732 ألف إنسان    البنك الأهلي المصري يتلقى 2.6 مليار دولار من مؤسسات دولية لتمويل الاستدامة    المؤشر الرئيسي للبورصة يتراجع مع نهاية تعاملات اليوم الاثنين    محافظ كفرالشيخ يعلن بدء العمل في إنشاء الحملة الميكانيكية الجديدة بدسوق    تأجيل محاكمة رجل أعمال لاتهامه بالشروع في قتل طليقته ونجله في التجمع الخامس    العثور على طفل حديث الولادة بالعاشر من رمضان    تأجيل محاكمة طبيب بتهمة تحويل عيادته إلى وكر لعمليات الإجهاض بالجيزة (صور)    سوزوكي تسجل هذه القيمة.. أسعار السيارات الجديدة 2024 في مصر    العمل: ندوة للتوعية بمخاطر الهجرة غير الشرعية ودور الوزارة فى مواجهتها بسوهاج    الحياة على كوكب المريخ، ندوة علمية في مكتبة المستقبل غدا    صورت أحداثه في 5 محافظات.. تفاصيل فيلم محمد إمام الجديد "اللعب مع العيال"    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    "النواب" يوافق على منحة لقومي حقوق الإنسان ب 1.2 مليون جنيه    إسبانيا تستدعي السفير الأرجنتيني في مدريد    «صحة الشرقية» تناقش الإجراءات النهائية لاعتماد مستشفى الصدر ضمن منظومة التأمين الصحي الشامل    «السرب» الأول في قائمة إيرادات الأفلام.. حقق 622 ألف جنيه خلال 24 ساعة    مسرح التجوال يقدم عرض «السمسمية» في العريش والوادي الجديد    نائب جامعة أسيوط التكنولوجية يستعرض برامج الجامعة أمام تعليم النواب    ورشة عمل عن مبادئ الإسعافات الأولية ب"طب الفيوم"    شيخ الأزهر يستقبل سفير بوروندي بالقاهرة لبحث سبل تعزيز الدعم العلمي والدعوي لأبناء بوروندي    بروتوكول تعاون بين التأمين الصحي الشامل وكلية الاقتصاد والعلوم السياسية لتطوير البحث العلمي فى اقتصادات الصحة    في طلب إحاطة.. برلماني يحذر من تكرار أزمة نقل الطلاب بين المدارس    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    شكرى: الاحتياجات ‬الإنسانية ‬للأشقاء ‬الفلسطينيين ‬فى غزة ‬على رأس أولويات مصر    وزيرة الهجرة: نتابع تطورات أوضاع الطلاب المصريين فى قرغيزستان    تفاصيل أغنية نادرة عرضت بعد رحيل سمير غانم    فتح باب التقدم لبرنامج "لوريال - اليونسكو "من أجل المرأة فى العلم"    رئيس جامعة بنها يشهد ختام فعاليات مسابقة "الحلول الابتكارية"    مرعي: الزمالك لا يحصل على حقه إعلاميا.. والمثلوثي من أفضل المحترفين    باحثة سياسية: مصر تلعب دورا تاريخيا تجاه القضية الفلسطينية    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    ماذا يتناول مرضى ضغط الدم المرتفع من أطعمة خلال الموجة الحارة؟    عواد: لا يوجد اتفاق حتى الآن على تمديد تعاقدي.. وألعب منذ يناير تحت ضغط كبير    الأسد: عملنا مع الرئيس الإيراني الراحل لتبقى العلاقات السورية والإيرانية مزدهرة    ماذا نعرف عن وزير خارجية إيران بعد مصرعه على طائرة رئيسي؟    روقا: وصولنا لنهائي أي بطولة يعني ضرورة.. وسأعود للمشاركة قريبا    دعاء الرياح مستحب ومستجاب.. «اللهم إني أسألك خيرها»    وسائل إعلام رسمية: مروحية تقل الرئيس الإيراني تهبط إضطراريا عقب تعرضها لحادث غربي البلاد    إعلام إيراني: فرق الإنقاذ تقترب من الوصول إلى موقع تحطم طائرة الرئيس الإيراني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد المخزنجى يكتب : بيانو فاطمة ( 3 )
نشر في الشروق الجديد يوم 05 - 02 - 2010

ملخص ما نُشِر: قرأ الراوى خبرا عن بيانو فى إحدى مدارس الراهبات ببنها يتصاعد منه ذاتيا لحن كهدير طاحونة دوارة يستبق حدوث هزات ارتدادية من توابع زلزال القاهرة الكبير عام 1992، ويستشعر أن هذا البيانو هو نفسه الذى كان اشتراه من روسيا لشقيقه الموسيقى وطالب طب الأسنان، وكان أصلا لفاطمة الجميلة من الجنوب اللبنانى التى زاملته أثناء دراستهما العليا هناك وربطتهما صداقة خاصة، تطورت مع رحلة البيانو قبل شحنه وعودة الراوى إلى مصر إلى حب متردد من جهة فاطمة الخائفة من الفوارق الطائفية وفقرهما المشترك ولوعة الحنين إلى أهلها ووطنها لو ارتبطت به، وبينما الراوى يتحرّى أعجوبة بيانو التنبؤ بالزلازل فى مصر، تستدعى ذاكرته أطياف ذلك الحب البعيد لفاطمة العذبة الذكية الخدوم وذات الهمة، فيروى عن اقتراب مرهف فى غابة يستحضرون منها شجرة لعمل صندوق يحتوى البيانو عند شحنه إلى مصر، ويتكرر الاقتراب بينما فاطمة تكشف عن فاصل جديد من جمالاتها وهى تعزف على البيانو للتأكد من سلامته قبل شحنه، تعزف لحنا لأغنية فيروزية مشعة بالحب، ومنذرة بالفراق.
بعدما نهضت فاطمة عن مقعد العزف دار نقاش جذل بينها وبين مشرفى المتجر، وهم لم يكونوا مجرد بائعى أدوات موسيقية، بل موسيقيين متقاعدين، وعارفين بأسرار الآلات وابتكارات العزف، فهمت أن فاطمة أدت اللحن كله بابتكار خاص بها وفريد فى رأيهم، فقد استخدمت حليات وزخارف نغمية من مفاتيح النصف الأيمن للبيانو المكرسة للنغمات الأصفى والأرق، على عكس نغمات مفاتيح النصف الأيسر ذات النغمات الغليظة الجهيرة، قالت لهم فاطمة إنها مطبوعة على الميل لدفء الربع تون فى الموسيقى العربية، وأنها بالفعل أضافت للّحن حليات وزخارف يسميها الموسيقيون العرب: «عُرَب».
وعندما حاول الموسيقيون مشرفو المتجر تكرار كلمة «عُرَب» وراء فاطمة، لم تخرج من أفواههم المتلوية والمتقلصة غير «أوراب. أوراب»، وعبثا استعصى عليهم نطق حرف العين، فضحكوا، وضحكت فاطمة، وأنا ضحكت، بينما كانت روحى تتطوح على موج لحن رخيم دافئ أقرب إلى الشجن، ولم أر فاطمة طوال ذلك اليوم إلا لحنا عربيا صافيا، شجيا، ترنيمة أنثوية صافية وساحرة، لكنها لم تتركنى لأثمل فى متجر الآلات الموسيقية، فقد كانت منتبهة للخطوة التالية المطلوبة لشحن البيانو: التوقيع على سلامة ودقة
دبّرت فاطمة سيارة نقل صغيرة جاءت إلى مسكنى فى موعد محدد وأخذت حقائبى وربطات الكتب، وفى يوم الشحن كان هناك صندوق خشبى ضخم، مُفصّل تبعا لحجم متعلقاتى التى بينها صندوق البيانو، أنزلوا صندوق البيانو أولا فى صندوق الشحن ومن حوله رصوا ربطات الكتب والحقائب، ونبهتهم فاطمة فأنزلوا عدة ربطات وضعوها فوق صندوق البيانو خشية أن ينكسر خشب الصندوق أثناء النقل وتهوى ربطات الكتب الثقيلة على غطاء البيانو فتكسره وترتطم بالمفاتيح فتتلف انضباط الجهاز كله، وربما إلى درجة يصير معها مُتعذَّر الإصلاح وبلا فائدة. إنه بيانو فاطمة منذ مولده وحتى وصوله إلى مصر.
أبرقوا لى من ميناء الإسكندرية يخبروننى بوصول «الشحنة» الخاصة بى، وحددوا لى موعدا لتسلم الشحنة فى الجمرك، ولم أجد معى فى الإسكندرية فاطمة، لكن صديقى عماد الشهاوى كان يعرف قلة حيلتى فى مثل هذه الأمور، فاتصل بصديقه محفوظ أبوكيلة فى ميناء الإسكندرية، فكأن ظلال فاطمة كانت تحرسنى من الهجير وهى تتولى رعاية معزفها لاتزال. وبعد أن فتحوا الصندوق واطمأنوا إلى محتوياته، وحددوا المبلغ الذى كان علىّ أن أدفعه كجمرك، ودفعته، أحضرت سيارة نصف نقل صعد إليها البيانو محمولا على ذراع أحد الأوناش، صعد عاريا من صندوقه، صعد فى هالة من نسيم الغابة وسرحة مياه البحيرة العذبة وطيران البط وهبوطه على سطحها.
فشعرت فى فمى بطعم الحليب بالقرفة، ومن حول البيانو كانت الحقائب وربطات الكتب كامدة وصماء بشكل ما، وطالت الرحلة من الإسكندرية إلى المنصورة، لكن طيف فاطمة همس فى أذنى قبل أن نغادر الإسكندرية، بأن شمس مصر حامية والبيانو حساس، ولونه الأسود الزجاجى يمتص الحرارة ويؤثر على الأوتار المعدنية التى تضرب عليها المطارق الموصولة بالمفاتيح، فهبطْتُ فى ميدان الرمل واشتريت ملاءتى سرير دثرت بهما البيانو جيدا، ورجوت السائق ألا يتعجل.
فاكر ماركة «بيانو فاطمة» يا على؟ اتصلت بأخى الذى كان يعرف حكاية البيانو، أسأله قبل أن أعاود الكرة وأذهب إلى المدرسة فى بنها، فاستغرب أن أتذكر ذلك البيانو الآن، وأخذ يلح علىّ أن أبين له سبب سؤالى، وضحك عندما عرف حكاية البيانو الذى يعزف ذاتيا وينبئ عن الهزات الارتدادية. واستبعد أن يكون هو «بيانو فاطمة»، فبيانو فاطمة كما درجنا على تسميته، اشترته، بعد ملابسات مدهشة، مَدْرَسة راهبات فى طنطا وليس فى بنها. وأمام إصرارى أن يحاول تذكُّر اسم البيانو وأية مواصفات دقيقة أخرى به، رجَّح أن يكون البيانو ماركة «تشايكوفسكى» مكتوبة بالنحاس المذهب المجفف فى غطاء الصدر، كان لونه أسود بطبقة مينا زجاجية لامعة.
وتذكر جيدا أن مفتاح ال «رى» كان به مشكلة، وأن إحدى دواساته الثلاث معوجة قليلا، وعلى الأغلب هى الدواسة اليسرى. وكان على لا يصدق ما رويته له عن ذلك البيانو عجيب النذير فى بنها. وأنهينا المكالمة ونحن نضحك. لكننى كنت جادا فى تعقُّب الأعجوبة، والمضى خلف أريج الحليب الفواح بالقرفة، والطعم البعيد الحلو فى فمى، وفى روحى.
دخلت السيارة نصف النقل شارعنا الترابى فى المنصورة على مهل، على مهل شديد، ثم توقفت أمام بيتنا، ولما كنت أقفز هابطا من الكابينة إلى جوار السائق، وقف الخلق ينظرون ماذا أحضر «الداكتور» من «بلاد بره»، تجمعت النسوة أمام الأبواب والبنات فى الشبابيك والرجال والعيال تحلقوا نصف النقل. لم يجدوا ما يلفت النظر فى الحقائب التى رجحوا أنها تضم ملابسى وأشياء المعيشة، ولم يلتفتوا إلى ربطات الكتب التى راح العيال يحملونها مثل طابور من النمل ويصعدون بها إلى بيتنا فى الطابق الثانى فوق الورشة.
ثم أُُزيحت الملاءات عن البيانو فحبس الخلق أنفاسهم وحملقت العيون. هذا الشىء الراسخ العالى الذى يبرق سواده تحت الشمس فيشع بانعكاسات عشرات النجوم فى رائعة النهار، ماذا يكون؟ جهاز أشعة على المخ؟ مطبعة توماتيكية تطبع الكتب التى يحبها الداكتور كثيرا؟ وتحولت الأسئلة الحائرة إلى معضلة حقيقية عندما تعذر على خمسة رجال أشداء إنزال الجهاز عن ظهر السيارة حيث لم يكن هناك ونش.
كان البيانو أثقل مما يوحى به مظهره البراق، فهو مصنوع من خشب أشجار التايجا التى لا تعبأ ببرد الشتاء الجليدى قرب القطب، خشب بكثافة الفولاذ ووزنه وقوته لكنه صادح القلب كأنه قصبة ناى. ثقيل وزاده دهان المينا الزجاجى السميك ثقلا. وصار الرجال الخمسة من حوله فوق ظهر نصف النقل ثمانية. ثمانية من أفتى فتوات الحتة وأشدهم بأسا نجحوا بعد تهليل وتكبير وامتقاع فى إنزال البيانو إلى الأرض أمام باب بيتنا. وبعد استراحة نصف ساعة وشرب شاى ثقيل انتقلوا إلى مرحلة إدخال البيانو إلى بئر السلم ومحاولة الصعود به على الدرج. وأبدا لم يصعد.
يلتفون حوله، وهيلا بيلا هووووب، يرفعونه عن الأرض ويعبرون به مترى بئر السلم ويتجهون إلى الدرج، وهى درجة.. درجة واحدة أبدا لم يستطيعوا تجاوزها إلى الثانية، فما أن يرتفع طرف البيانو الصاعد حتى ينتقل مركز ثقله إلى طرفه الآخر فتكل أيادى الرجال عند هذا الطرف ويحزقون ويصيحون، يحفزون أنفسهم دون جدوى، فيصرخون طالبين إنزاله، فينزل.
إن حاولوا زيادة عدد الرجال الحاملين يضيق بهم حيز الدرج، وإن تناقص عددهم يعجزون عن الحمل. وهزم بيانو فاطمة الرقيقة العذبة سواعد ثمانية رجال أشداء كان آخر ما استطاعوه هو ترييح هذا الجبل الصغير الثقيل الأسود البراق لصق الحائط الأيمن لبئر السلم وراء ضلفة الباب التى لم تكن تنغلق أبدا فتم تسميرها لتدارى الكنز الغامض الرابض خلفها حتى نجد له حلا. لكن الكنز راح يبوح بأسراره لأضعف خلق الله، وصار ظاهرة الشارع الترابى على امتداد شهور عديدة قبل أن يختفى من مكانه.
كنا نغلق باب البيت الذى لم يتعود أبدا على الإغلاق طوال عشرات السنين، ليتمكن أخى من العزف على البيانو وهو فى مكانه ببئر السلم، مقعد صغير ولمبة صغيرة تضىء المكان، ويرفع أخى غطاء البيانو، فيصعد بيتنا فى سماء الليل وسط غيمة من النغم. نغم غامر ومشع صار مفاجأة الليل فى الشارع الترابى الذى ينام مبكرا. وتكررت المفاجأة خمس أو ست مرات سئم بعدها أخى وقرر أن يعود إلى جيتاره سهل الحمل والذى يذهب معه إلى حيث يريد، لا أن يضطر هو للذهاب إلى المَعْزَف وحبس نفسه فى زنقة بئر السلم والتسمُّر على مقعد صغير فى حيز خانق ليعزف. وفَصَّلنا غطاءً من قماش سميك للبيانو يغفو داخله حتى نجد لمشكلته حلا، لكن البيانو بدلا من أن يغفو وجدناه ينتفض مستيقظا...
لم يكن ممكنا غلق باب بيتنا طوال الوقت، وهناك بشر يدخلون ويخرجون كيفما راق لهم وفى أى وقت من النهار والليل، هكذا كنا، وهكذا كان أقاربنا وضيوفنا، بل هكذا كان معظم الناس فى تلك السنوات الأكثر رحمة، ثم إن أخى زهد فى العزف على البيانو ولم يعد يهبط ليحوِّل بئر السلم إلى غرفة عزف بائسة على ضوء مصباح أصفر ضئيل، وكان الغطاء القماشى المفصّل السميك الذى ارتداه البيانو يُشكِّل حاجزا نفسيا رادعا للفضوليين، أو هكذا حسبنا.
مضت عدة أيام والبيانو يقبع صامتا راسخا ومستورا بنصف الباب الموصود فى بئر السلم، ثم انبثق النغم الأول ذات ليل. فى لحظة سابغة السكون قرب منتصف الليل، وعندما أطللنا من الشرفة وجدنا أربعة أو خمسة أولاد صغار يجرون هاربين بفعلتهم. كانت أرجلهم مقوسة ويجرون بطريقة غريبة لكن فى سرعة، سرعة يصاحبها ضحكهم الطفولى المختلط بالخوف والشقاوة والبؤس. وقال أخى وهو يضحك: «عيال نحمده»!.
ونحمده امرأة لم نرها أبدا إلا حامل، وحامل فى الشهور الأخيرة، فقيرة وزوجة لسائق حشاش ومزواج، يظهر عندها يوما كل عدة أسابيع أو عدة أشهر، يضربها فنسمع صراخ استغاثاتها فى النهار، ويشبحها فى الليل فيملأ صوت غنجها السكون ويُشعل الظلمة، ونراها حاملا بعد ذلك، كأنها تعبر الزمن أو تختصره فتصل بحملها إلى الشهور الأخيرة فى بضعة أيام.
لم نستطع عد أولادها وبناتها أبدا فهم مثل قطيع من الماعز، متقاربين فى السن وفى الشكل، حفاة دائما، ويرتدون أسمالا، وتكون سيقانهم مقوسة تقوسا يوحى بالكساح فى سنواتهم الأولى، لكن سرعان ما تستقيم هذه السيقان عندما يبلغون السابعة، عندئذ يختفون فى النهار إذ تُلحقهم أمهم بالعمل فى الدكاكين والورش القريبة، لهذا لايمكن معرفة عدد أولادها على وجه الدقة، ولعلها هى نفسها لا تعرف، لكن يمكن عد الأولاد والبنات الذين يسرحون فى الشارع حفاة وأشباه عراة طوال النهار، لم يِقِلّوا أبدا عن ستة. معظمهم ذكور، وبينهم بنت أو بنتان. وهؤلاء المقوَّسو السيقان هم الذين كشفوا ستر البيانو.
تحولت نغمة منتصف الليل التى تُسارع بالفرار إلى نغمات، يد أو أيادى صغيرة ترفع ذيل كسوة القماش، وتزيح غطاء المفاتيح وتضرب بسرعة عدة مفاتيح بعشوائية الخوف والمغامرة، وتن تن تن ترا را تم تم، وتركض السيقان المقوسة الصغيرة فيما تصخب الضحكات الطفولية. ولم نجد، لا أنا ولا أخى شيئا يبعث على الغضب فى ذلك، فهى مغامرة طفولية طفولة بائسة اكتشفت شيئا مبهجا يجعلها تسهر له حتى أنصاف الليالى. ثم إنها لحظة عابرة تومض فى الليل دقيقة وتختفى. ولم نعد نطل عليهم من الشرفة مهددين، ولا حتى متفرجين، فقد حفظنا منظرهم، وكنا نبتسم عندما تنبثق النغمات، ونتخيل حفنة الأولاد الذين يجرون ضاحكين بأقدام حافية وسيقان مقوسة « عيال نحمدو «. لكن الأمر لم يظل وقفا على عيال نحمدو.
كنا قد كففنا عن إعادة تغطية البيانو الذى نراه مكشوفا فى الصباح، بل تركنا الغطاء ملقى على الأرض إلى جوار البيانو لأن تلبيسه كان مجهدا قليلا. ثم جاء من سرق الغطاء وصار الجهاز عاريا، لكن هذا لم يزعجنا لأنه ثقيل إلى درجة تقطع باستحالة سرقته.
وبدأنا نفكر فى بيعه، خاصة بعد أن بدأ أحد المجاذيب المتشردين فى الشوارع يعرف طريق الجهاز، وتصل يداه المتخبطتان إلى سر الكشف عن المفاتيح، ثم الكشف عن رنين الاصوات التى تصدر عندما تخبط يداه وأصابعه هذه المفاتيح. وأخذ المجذوب يشق طريقه يوميا إلى البيانو، ويرتمى عليه مستميتا فى ضرب مفاتيحه حتى تتفجر ضوضاء لا تُحتمل.
وبصعوبة شديدة نتمكن من انتزاعه وإبعاده وهو يولول ويعوى ويبكى ويتملص بين أيادينا ليعاود الالتحام بالبيانو وضرب مفاتيحه حتى تصوِّت. وصار المجذوب الواحد مجذوبين. بل اتسعت رقعة مجاذيب البيانو لتشمل شابا منغوليا ضاحكا كنا نتساهل معه، ومتسولة عوراء كانت فظيعة فى دق نغماتها. وأكثر من ذلك انضم بعض العقلاء من الصنايعية والصيع إلى أمواج ضاربى البيانو مدفوعين بفضول الاكتشاف، وإن كان هؤلاء يستأذنون.
وكنا على مضض نأذن لهم. ولم يعد هناك مفر، لابد أن نتخلص من هذا البيانو، وبأسرع وقت ممكن، ليس فقط إزاحةً للإزعاج، لكن لأن هذه الاستباحة كانت كفيلة بتدميره فى أقصر وقت ممكن لو ظل الحال على ماهو عليه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.