وزير التعليم العالي يوجه برفع درجة الاستعداد بالمستشفيات الجامعية خلال إجازة عيد الأضحى    وزيرة الهجرة تهنئ الطلبة المصريين أوائل الثانوية العامة في الكويت    ساحات صلاة العيد وأهم الأماكن العامة للتنزه في إجازة عيد الأضحى بالأقصر    سعر جرام الذهب صباح اليوم السبت 15 يونيو 2024    أضحية الخير ب 5 جنيه، أهالي بلاي في الغربية يطلقون مبادرة لشراء أضحية العيد لليتامى    قبل العيد.. أسعار اللحوم بمنافذ التموين والمجمعات الاستهلاكية في أسيوط (فيديو وصور)    إيقاف وإزالة 19 حالة بناء مخالف في حي شرق الإسكندرية    ارتفاع أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت بالأسواق (موقع رسمي)    وزير الإسكان: زراعة 46 ألف شجرة ونخلة مثمرة وغير مثمرة بمشروع الحدائق المركزية    وزير الإسكان: حملات لتحصيل المديونيات بمدن العبور والشيخ زايد وأسيوط الجديدة    إعلام عبري: مقتل 8 جنود إسرائيليين بغزة في حادث خطير    حزب الله اللبناني يستهدف مقر وحدة المراقبة الجويّة في قاعدة "ميرون" الإسرائيلية    بوتين يهنئ رامافوسا على إعادة انتخابه رئيسا لجنوب أفريقيا    عاجل:- كتائب القسام توجه رسالة إلى حجاج بيت الله الحرام    موقع إسرائيلى:مقتل 8 جنود فى قطاع غزة جراء احتراق عربة مدرعة    يورو 2024، التشكيل المتوقع لمباراة إسبانيا وكرواتيا    بعد لافتة ودية الأرجنتين وجواتيمالا، مارتينيز يوجه رسالة ل ميسي    اليوم.. سويسرا تصطدم بالمجر فى أولى جولات يورو 2024    أول تعليق من جوندوجان بعد الانتصار الكبير على إسكتلندا    صباح الكورة.. برشلونة يستهدف صفقة مثيرة في الميركاتو الصيفي وقمة إسبانيا وكرواتيا في يورو 2024    إجراء جديد ضد مدير صفحة لترويج أختام مقلدة لشعار الجمهورية في الفيوم    تجهيز 10 ساحات كبرى و202 مسجد لأداء صلاة عيد الأضحى فى الوادى الجديد    آراء الأئمة الأربعة حول وقت رمي الجمرات.. و«البحوث الإسلامية» يحسم الجدل    التصريح بدفن جزار توفي بسكين في الجيزة    فيلم «أهل الكهف» يحقق 725 ألف جنيه في دور العرض خلال 3 أيام    بعد الإعلان عن «سيكو سيكو».. صبري فواز يتحدث عن عصام عمر وطه دسوقي    على الحجار: صلاح عبد الله كتبلي أغنيتين ولم يأخذ أجرهما واعتبرهما إهداء لي    "ولاد رزق 3" يحقق 8 ملايين جنيه إيرادات في السينمات أمس    إعلام إسرائيلى: انفجار عبوة ناسفة فى آلية عسكرية إسرائيلية بغزة    «الخشت» يشارك في اجتماع المجلس العلمي الأعلى لجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية    المفتي يوضح معنى "يوم الحج الأكبر" الوارد في القرآن والسنة    المشهد العظيم .. تعرف على السر وراء تسمية عرفات بهذا الاسم    حكم صيام أيام التشريق.. الإفتاء تحسم الجدل    وزير «الأوقاف» يكلف إمام مسجد السيدة زينب خطيبا لعيد الأضحى    دعاء النبيين.. أهم الأعمال والأدعية المستحبة في يوم عرفة - فيديو    الصحة: إطلاق 33 قافلة طبية مجانية خلال عيد الأضحى    الرعاية الصحية: انعقاد غرفة الطوارئ المركزية لتأمين احتفالات عيد الأضحى    التضامن تنظم دورات تدريبية للعاملين في مجال حقوق الطفل    صحة السعودية توضح طرق الوقاية من الإجهاد الحرارى للحجاج    ميناء شرق بورسعيد يستقبل ثالث سفينة تعمل بوقود الميثانول الأخضر    بمناسبة عيد ميلاده| رسالة خاصة من ليفربول ل محمد صلاح    العثور على جثة أحد الطالبين الغارقين في نهر النيل بالصف    5 أطباق بروتين للنباتيين في عيد الأضحى.. «وصفات سهلة ومغذية»    الدفاع السعودية تستضيف ذوى الشهداء والمصابين من القوات المسلحة بالمملكة واليمن لأداء الحج    «تقاسم العصمة» بين الزوجين.. مقترح برلماني يثير الجدل    وزير النقل السعودي: 46 ألف موظف مهمتهم خدمة حجاج بيت الله الحرام    أستاذ ذكاء اصطناعي: الروبوتات أصبحت قادرة على محاكاة المشاعر والأحاسيس    مصطفى بكري: وزير التموين هيمشي بغض النظر عن أي حديث يتقال    القيادة المركزية الأمريكية تعلن تدمير قاربين ومسيرة تابعة للحوثيين في البحر الأحمر    هبوط اضطراري لطائرة تقل وزير الدفاع الإيطالي بعد عطل طارئ    محمد علي السيد يكتب: دروب الحج ..سيدي أبوالحسن الشاذلي 93    موسيالا أفضل لاعب في مباراة ألمانيا ضد اسكتلندا بافتتاح يورو 2024    السيطرة على حريق بمستودع أسطوانات بوتاجاز غربي الأقصر    كرة سلة - سيف سمير يكشف حقيقة عدم مصافحته لمصيلحي    «العلاج الطبيعي»: غلق 45 أكاديمية وهمية خلال الفترة الماضية    «زي النهارده».. وفاة وزير الداخلية الأسبق النبوي إسماعيل 15 يونيو 2009    حظك اليوم برج الأسد السبت 15-6-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    ألمانيا تسحق إسكتلندا بخماسية في افتتاح يورو 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد المخزنجى يكتب: بيانو فاطمة
نشر في الشروق الجديد يوم 22 - 01 - 2010

(يستخدم الكاتب فى هذه القصة تقنية «التخييل الذاتى» المفضلة لديه فى معظم كتاباته الأدبية، فهو يحكى بضمير المتكلم، المُسمَّى لدى بعض نٌقاد الأدب «الضمير الأول»، ويتكئ على أسماء حقيقية لأشخاص وأماكن، متطلعا إلى مزيد من الإحساس بالحميمية عند الكتابة، وآملا فى حميمية تالية لدى القارئ، لكن، يظل «واقع الحرفى» مختلفا بالضرورة عن «الواقع الفنى» الذى ينشده الأدب).
كبر عندى الشك بعد أن أكملت قراءة الخبر المنشور تحت عنوان «بيانو يتنبأ بالهزات الارتدادية»، وفى تفاصيل الخبر: «كتبت ياسمين الشرقاوى: فى قاعة الموسيقى بمدرسة الفرينسسكان ببنها، اكتشف العاملون والتلاميذ ظاهرة عجيبة ترتبط بجهاز بيانو مما يستخدم فى دروس الموسيقى، فبينما يكون البيانو مغلق الغطاء ولا أحد يجلس عليه.
فجأة يصدر عنه عزف لنغمة مستمرة تشبه هدير طاحونة دوّارة، ومع استمرار هذه النغمة لدقائق قليلة يأخذ الصوت فى الارتفاع حتى يتحول إلى ضجيج مزعج يأخذ فى الاشتداد، وعند هذه النقطة تهتز الأرض فى واحدة من هذه الهزات الارتدادية التى لم تنقطع منذ الهزة الكبرى لزلزال 12 أكتوبر الماضى.
وقد أثارت هذه الظاهرة استغراب العاملين فى المدرسة ووصل الاستغراب إلى حد الرعب لدى مُدَرِّسة الموسيقى بالمدرسة روزا عازورى التى لم تعد تقترب من هذا الجهاز، فيما تُردِّد «أم أيمن» العاملة بالمدرسة والتى تدخل غرفة الموسيقى فى نطاق خدمتها، أن هذا «البيانو» «مسكون»، لكن الرعب من البيانو وهاجس أنه مسكون لم يمنع مديرة المدرسة فيولا أندراوس من توظيف هذه الظاهرة الغريبة.
فما إن يبدأ البيانو فى عزفه الذاتى لنغمة الطاحونة الدوارة هذه، حتى يتم قرع جرس المدرسة كإنذار عاجل، ويتم إخراج التلاميذ من الفصول بخطة إخلاء مدروسة، ليتجمعوا فى الحوش حتى تنتهى الهزة الارتدادية الصغيرة الخاطفة التى لم يخطئ البيانو فى الإنذار المبكر بها سوى مرة واحدة من خمس مرات».
اتصلت بالجريدة محاولا محادثة الصحفية التى كتبت الخبر، لكنها لم تكن موجودة، وحصلت على رقم هاتفها النقال من زميل لها كان يعرفنى، وحادثتها محاولا الحصول على تفاصيل أكثر، لكنها لم تضف إلى ما كتَبَتْهُ أى جديد.
شكرتها، ورجوتها أن تعطينى رقم تليفون مُدرِّسة الموسيقى بالمدرسة، لكن لم يكن لديها غير رقم المدرسة، ووصفت لى عنوانها وكيف يمكننى الوصول إليها.
اتصلت بالرقم، ورد علىّ صوت أنثوى ناضج، فطلبت من صاحبة الصوت أن أحادث مُدَرِّسة الموسيقى روزا عازورى، وعندما جاءت هذه إلى التليفون وما إن بدَأْتُ بسؤالها عن البيانو وأعجوبته تمهيدا لسؤالها عن ماركة هذا الجهاز وشكله، حتى أوصدت فى وجهى كل النوافذ والأبواب بصوتها الحاد الرفيع المرتعش، كان واضحا أنها مذعورة بالفعل من هذا الجهاز وما يحدث منه، حتى إننى لم أحصل منها إلا على فلتة لسان عرفت منها أن الجهاز روسى.
وهذا مما أذكى وهج فضولى، وقررت أن أسعى بنفسى للحصول على تفاصيل أكثر عن البيانو الذى تمكّن منى هاجس أنه هو نفسه الذى أعرفه، وكان لابد من سفرة إلى بنها، وبموازاتها كانت هناك سفرة أخرى.. فى الذاكرة.
بعد ثلاث سنوات عشتها دارسا وطبيبا عاملا فى العاصمة الأوكرانية «كييف» على زمن السوفييت، هبَطَت علىّ ثروة جاءت فى وقتها، سبعمائة دولار أرسلتها دار لينوس بزيورخ مكافأة نشر أولية لكتاب لى ترجمه إلى الألمانية هارتموت فاندريتش.
وهو نفسه من تطوع مشكورا لإرسال الشيك بالمبلغ المذكور على عنوانى حيث كانت هناك مراسلات ودية بيننا، لأننى تقريبا كنت باكورة ترجماته من العربية إلى الألمانية والتى صارت مع الزمن مكتبة كاملة ترجمها هذا المستعرب السويسرى النشيط، الذى كان شابا وأصلع قليلا ويرتدى نظارة طبية وله لحية أتذكر أنها كانت حمراء.
سبعمائة دولار جاءت وأنا أحزم حقائبى عائدا إلى مصر بشهادة الاختصاص، وبأحلام غائمة وضاحكة قليلا، أن يتحسن وضعى الوظيفى كطبيب إخصائى فى وزارة الصحة، وأن أفتح عيادة، وأتزوج، وأنجب أطفالا، وكانت الدولارات السبعمائة، إضافة لثلاثمائة دولار كانت معى، أى ألف دولاركانت تتيح لى أيا من هذه الخيارات :
1 أن أشترى سيارة لادا صغيرة بالسعر الرسمى مع التمتع بالإعفاء من الجمارك المقرر للمبعوثين بعد إنهاء دراستهم، وأن أبيع هذه السيارة فى مصر وأبدأ مشروع تجهيز شقة الزوجية وشقة العيادة.
2 أن أشترى أثاث شقة كاملة صغيرة من خشب «الكونتر» الروسى الفاخر كانت معروضة بحوالى ربعمائة دولار، ومعها ثلاجة روسية مبتكرة لا تصدر صوتا لأنها مصممة لتعمل بلا موتور، بل بتدوير ديناميكى حرارى لغاز الفريون، مع فرن كهربائى وميكروويف وحلتى ضغط وطاقم سرفيس، أى مستلزمات مطبخ شبه كامل، هذه كلها كانت لاتتجاوز الألف دولار، أى تجهيزات كاملة لشقة يبقى أن أستأجرها فى مصر، وأتزوج، ولتنتظر العيادة حتى إشعار آخر.
3 أن أفعل مثلما يفعل كثير من المبعوثين المصريين والعرب إلى الاتحاد السوفييتى، أى أشترى بضائع تُباع بأسعار زهيدة جدا فى روسيا وأشحنها معى إلى مصر، ومن ثم أبيعها فى مصر بأضعاف أضعاف أسعارها فى روسيا، وأستثمر العائد فى مشاريع الاستقرار التى كنت أحلم بها، وكانت الألف دولار يمكن أن تتحول بهذه الطريقة إلى عشرين ألف دولار لو أننى استثمرتها.
تبعا لآراء الخبراء من المبعوثين العرب، فى تشكيلة من سيجار هافانا ومثاقب الحديد المسننة ببودرة الماس الصناعى، وكاميرات كييف الاحترافية لتصوير البوسترات، وبعض المناظير الليلية، وأشياء أخرى أعطانى أحد الخبراء العرب قائمة بها.
كان الخيار الأول معقدا ويتطلب أوراقا من هنا ومن هناك، وهى مهمة مُروِّعة بالنسبة لى، لهذا استبعدت هذا الخيار. وكان الخيار الثالث بذيئا ولطالما أثار امتعاضى ممن يقومون به لتحولهم من طلبة دكتوراة إلى تجار شنطة، فشطبته ومزقت القائمة السحرية للثراء الموعود. وظل الخيار الثانى قائما، فهو إنسانى وغير مبتذل، خاصة وقد استبعدت منه الحلل والطناجر والمغارف برغم الجودة المشهودة للصلب الروسى، بينما بدت الثلاجة المبتكرة وفرن الميكروويف أشياء بها وجاهة علمية وحداثية تبعد عنها شبهة الفظاظة.
لكننى لم أكن أعرف بالضبط ما يمكن أن يروق للمرأة من خيارات أثاث البيت المدمج المتكامل التى كانت هناك عدة نماذج منها معروضة فى مكان واحد، «جوم» أو مركز تجارى كبير يشبه المولات التى نعرفها الآن. وكان لابد من الاستعانة بصديق، بل صديقة!
كانت صاحبتى الأوكرانية مسافرة إلى بلدتها، وكانت تحمل معها فى تلك السفرة حقيبة زوابع ثقيلة هاجت بيننا، مما جعلنى أفكر بعمق فى استبعادها كزوجة. فكيف أستدعيها لتختار معى أثاثا لبيت الزوجية. «لا»، أكدت ذلك لنفسى المستمرة فى الغضب. و«نعم»، قلتها عندما تمثَّلت أمامى «فاطمة».
وفاطمة لبنانية جميلة، بل رائعة الجمال مظهرا وجوهرا، طالما جمعت بيننا علاقة أعمق قليلا من مجرد الصداقة، كانت تدرس اختصاص طب الأطفال، وكانت فائقة الذكاء لدرجة أنها حصلت على «كراسنى دبلوم»، أى الدبلوم الأحمر، وهو أعلى درجة على سلم التفوق الدراسى السوفييتى، لا ينالها إلا النادرون من الدارسين السوفييت المتفوقين أنفسهم، وردة حقيقية من الجنوب اللبنانى بلون الحليب بالقرفة، شيوعية بلا إلحاد ولا تلوث ذكورى أو حنجورى، خدومة وذات همة، مثقفة ثقافة حقيقية بلا أى ادعاء، وتقرأ الأدب فى اللغات الثلاث التى تجيدها غير العربية، فهى تعرف الفرنسية والإنجليزية، والروسية طبعا. وكانت مستشارتى فى شئون اللغة الفرنسية إذا اقتضت الظروف استشارة، وكنت أخلق الظروف وأختلق الاستشارة لأذهب إليها أو تأتى هى إلىّ.
فى متجر الأثاث الكبير ذى الطوابق المتعددة صعدت وهبطت ودرت مع فاطمة بين نماذج البيوت الكاملة، وكانت متحمسة بصفاء مذهل، صفاء نفس طيبة حلوة، تسألة عن المكونات والضمانات وتتفقد بدقة الأرفف والأدراج وتتلمس المقابض، وتنهمر بسيل من الأسئلة الباحثة عن تفاصيل التفاصيل، كأنها تشترى أثاث بيت لها، وأوحت لى هذه الصورة بأن أتفرغ لتأملها وهى تفعل ذلك باستغراق آسر، ورأيتها أبدع ماتكون. ماذا أريد أجمل من ذلك؟ عربية، وجميلة، ومتفوقة، وذكية الروح، وبنت مهنتى، وتقرأ الأدب بثلاث لغات. وفوجئت بها تنتزعنى من شرودى ملتفتة تسألنى: «شو رأيك ؟».
كانت تشير إلى نموذج أعجبها بين النماذج المعروضة فى صالة المتجر الشاسعة، ووجدت نفسى أسألها «شو رأيك نتجوز»، فأبصرْتُ فاطمة الواضحة المحددة البيضاء بلون الحليب بالقرفة تحمر وترتبك وتتلعثم، لكنها كصاحبة عقل اعتاد التفوق الحاسم، سرعان ما تماسكت مستعيدة لونها الناعم وكلماتها الواضحة، وضحكتها الرقيقة الجادة، وأشارت لى كشرطى مرور يحدد مسار السير عند المفارق «تعا»، فتبعتها.
كانت هناك «استلوفيا» أو مقهى لطيف من مقاهى أرصفة شارع الكريشياتيك فى قلب كييف، ووجدنا مكانا تحت مظلة برتقالية وزرقاء مبهجة، بينما كان هناك رذاذ من مطر الصيف العذب يصنع حولنا أقواس قزح صغيرة شفافة متعددة. وبادرتنى فاطمة ونحن نلحس قمعين من أقماع الجيلاتى الروسى الشهير، أو البوظة تبعا للهجتها اللبنانية: «شو قلت هلا ؟». فكررت سؤالى الذى رشقتها به فى الجوم، ببطء، ومترجَما إلى لهجتها اللبنانية: «شو.. رأيك.. نتجوز (بتعطيش الجيم) ؟!».
وإذ بعقل الدبلوم الأحمر يتجلى كأنها كانت تجيب عن سؤال ممتحن فى أحد الاختبارات الإكلينيكية الشفوية، وإن بعربية وسط بين الفصحى والعامية، بل العاميتين المصرية واللبنانية :
أولا، أنا لبنانية بنت جنوب (بتعطيش الجيم أيضا) ولا يمكن أعيش غير فى الجنوب مو قضية وطنية بس، لا، لأن الجنوب عندى أجمل أرض وأطيب ناس فى الدِنى.
ثانيا، أنا شيعية وأنت سُنِّى، وهادا ما بيهمنى، لكن باعرف إن هادى مشكلة عنكم.
ثالثا، انت معتّر، يعنى فقير، وأنا فقيرة، وأنا تعبت من الفقر والتعتير ومقررة أتجوز واحد غنى، غنى كتير، يعمل لى بيت كبير جميل ع الجبل، وعيادة، ونقضى الإجازات فى باريس.
كانت لحسات الجيلاتى لذيذة، وكانت فاطمة نوعا من البشر يصعب أن تفقده مهما كانت درجة الخلاف، لأنها تتكلم بشفافية ورهافة وصدق، ووجدت نفسى أقول لها باللغة الروسية دون أى انفعال سلبى، ودون أن أنقطع عن لحس الحليب الشهى بالفانيليا:
«واضح.. أنت لاتحبِّينى».
وأجابت بالروسية أيضا، وأيضا دون أن تتوقف عن لحس بوظتها التى بالشيكولاتة:
«أنت مجنون».
لم أفهم بالضبط المعنى الذى تقصده بجنونى، هل أننى مجنون لأننى أطلب حبها، أم أننى مجنون لأننى يمكن أن أتصور أنها لا تحبنى. طبعا فضلت الاختيار الثانى، راضيا بأى شكل من الحب يمكن أن تكنه لى مخلوقة رائعة مثل فاطمة. وغير غاضب أبدا، بل بارتياح صاف قررت أن أنسى حكاية أثاث البيت هذه، وكان علىّ أن أبحث عن شىء آخر أنفق فيه الألف دولار. وبالارتياح الصافى نفسه، لم تبخل فاطمة بمشاركتى فى البحث، فاقترحت أدوات وتجهيزات عيادة.
وكانت هذه لاتتجاوز الخمسمائة دولار، فماذا أفعل بالخمسمائة المتبقية؟ طرحت أنا السؤال، وألحقت به شرطا يناسب طبعى النزق: أن يكون ما أشتريه غير مثقل بالتفاصيل، وحبذا لو كان شيئا واحدا له قيمة وغير متوافر فى مصر، وهتفت فاطمة «بيانو»، وأى بيانو ؟ إنه بيانو حجزته لنفسها، لأنها تجيد العزف عليه وتحب الموسيقى، لكنها قررت ان تتخلى عنه لى لأنها ستسافر بعدى، ومن ثم أمامها وقت، ويوم أذهب لتسلم البيانو المحجوز، تأخذ منى ثمنه وتحجز آخر لها. وهنا بدأت رحلة البيانو!
خلال الأسبوعين أو الثلاثة، قبل سفرى، وهى الفترة التى لازمتنى فيها فاطمة، لم أكف عن الإحساس بالخسارة لعدم التمكن من الاقتران بمخلوقة مثلها، فهى إضافة لكل جمالاتها التى لم تكف عن التجلى، كانت عملية بشكل رائع، وهو جانب أفتقده تماما، وظللت أتحسّر وأنا أتملاها فى صحبتى، لو كنت حسن الحظ لكانت زوجة مناسبة لى تماما، جميلة وذكية ولذيذة، تدير شئونى وترحمنى من إجراء الحسابات التى لم أُجدها ولن أجيدها، وتُدبر شئون حياتى بهمتها النشيطة والنقية هذه.
لعَنْتُ الطائفية والفقر والحنين للأوطان، وأسلمت قيادى لفاطمة لتدبر شئونى إلى أن أسافر. هى التى حصلت لى على تذكرة بسعر مخفض، وهى التى حجزت لى موقعا فى طابور شحن متعلقات سفرى، وكان البيانو أثمن قطعة فى هذه المتعلقات، ليس فقط من حيث ثمنه وقيمته، ولكن لأنه جاء كهدية مناسبة لأخى الأصغر «على»، الموسيقى وطالب طب الأسنان. فلطالما كان هذا الولد الطيب هو شقيقى الأقرب، فبعد مرض الوالد وتراجع دخل ورشته إلى ما يقارب الصفر.
وجدت نفسى معه فى مأزق حقيقى، ولم يكن ممكنا حل مأزقنا المشترك إلا بتعاون عجيب، فأنا براتبى الحكومى المتواضع، وهو بعائد مشاركاته فى العزف على جيتار ضمن «باند» محلى يحيى حفلاته فى صالات وكازينوهات المدينة والمدن المجاورة، استطعنا أن نعيش على الساندوتشات وندخن مايكفينا من سجائر ونشترى مايلزمنا من جرائد ومجلات وكتب. فأن أعود إليه ببيانو، كان ذلك يسعده بالتأكيد، وبالتأكيد يُفرِح قلبى، ويجعل هذا القلب ينحنى امتنانا لفاطمة، «شكرا يا فاطمة» قلت لها فى نوبة وجد حقيقى، فالتفتت تقول لى بدهشة : «على شو؟» .
شكرا على الكثير، والكثير جدا، الذى بدونها ما كان ممكنا أن أقوم به وحدى، وفيما يخص البيانو تحديدا، كانت تدابير نقله معقدة جدا، وعجيبة، متاهة فى دهاليز البيروقراطية السوفييتية، المركبة جدا، والدقيقة أيضا. عشرات الأوراق وعشرات الأماكن المتباعدة للحصول على إذن الشحن، ودفع تكاليف الشحن، وإعداد تجهيزات الشحن، والتى كان أعقدها وأطرفها تجهيز البيانو.. قبل الشحن!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.