«الصحفيين»: قواعد جديدة لانتساب العاملين بالخارج وأساتذة الصحافة والإعلام    رئيس هيئة تنشيط السياحة: تحسن العلاقات يقفز بأرقام السياحة التركية إلى مصر    متحدث الحكومة: وحدة حصر شركات الدولة تجري دراساتها بصورة محايدة    نقابة المهندسين بالإسكندرية: نسعى إلى إطلاع الأعضاء على أحدث تطورات مجال البناء والتشييد    «القاهرة الإخبارية»: توتر العلاقات لن يمنع أمريكا من متابعة حادث مروحية الرئيس الإيراني    اقرأ غدًا في «البوابة».. المأساة مستمرة.. نزوح 800 ألف فلسطينى من رفح    منتخب القليوبية يفوز على القاهرة 1/5 بدور ال 32 لدوري مراكز الشباب    وزير الشباب يكرم عمرو محمد لفوزه بالمركز الثاني عالميا في مجال الطاقة المتجددة    مدينتي تطلق الحدث الرياضي "Fly over Madinaty" لهواة القفز بالمظلات    خطوات التقديم للصف الأول الابتدائي 2024-2025    كيف هنأت مي عمر شقيقة زوجها ريم بعد زفافها ب48 ساعة؟ (صور)    أفلام مهرجان كان استحسان واستهجان.. كوبولا يثير انقسام النقاد في أحدث أعماله    متحف «طه حسين».. تراث عميد الأدب العربي    الخارجية التركية: نتابع بحزن تطورات حادث المروحية في إيران    داعية: القرآن أوضح الكثير من المعاملات ومنها في العلاقات الإنسانية وعمار المنازل    مستشار الرئيس عن متحور كورونا الجديد FLiRT: نتابع الأمر بدقة شديدة    السائق أوقع بهما.. حبس خادمتين بتهمة سرقة ذهب غادة عبد الرازق    بايدن: دعيت إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة    الحكومة تحتضن رجال الصناعة    هل يستطيع أبو تريكة العودة لمصر بعد قرار النقض؟ عدلي حسين يجيب    جامعة الأقصر تنظم قافلة طبية ضمن مبادرة حياة كريمة    ختام ملتقى الأقصر الدولي في دورته السابعة بمشاركة 20 فنانًا    حزب الريادة: مصر كانت لها اليد العليا فى دعم أهالي غزة وإدخال المساعدات لهم    بمناسبة مباراة الزمالك ونهضة البركان.. 3 أبراج «متعصبة» كرويًا (تعرف عليهم)    مدير بطولة أفريقيا للساق الواحدة: مصر تقدم بطولة قوية ونستهدف تنظيم كأس العالم    ليفاندوفسكى يقود هجوم برشلونة أمام رايو فاليكانو فى الدوري الإسباني    الرعاية الصحية: 5 ملايين مستفيد من التأمين الصحي الشامل بمحافظات المرحلة الأولى    جامعة حلوان تنظم قوافل طبية توعوية بمناطق الإسكان الاجتماعي بمدينة 15 مايو    «نيويورك تايمز»: هجوم روسيا في منطقة خاركوف وضع أوكرانيا في موقف صعب    رسائل المسرح للجمهور في عرض "حواديتنا" لفرقة قصر ثقافة العريش    أبرزهم «اللبن الرائب».. 4 مشروبات لتبريد الجسم في ظل ارتفاع درجات الحرارة    نائب رئيس جامعة الأزهر يتفقد امتحانات الدراسات العليا بقطاع كليات الطب    دار الإفتاء توضح ما يقال من الذكر والدعاء في الحرّ الشديد.. تعرف عليه    هل يجوز الحج أو العمرة بالأمول المودعة بالبنوك؟.. أمينة الفتوى تُجيب    بنك مصر يطرح ودائع جديدة بسعر فائدة يصل إلى 22% | تفاصيل    افتتاح أولى دورات الحاسب الآلي للأطفال بمكتبة مصر العامة بدمنهور.. صور    نهائي الكونفدرالية.. توافد جماهيري على استاد القاهرة لمساندة الزمالك    بايرن ميونيخ يعلن رحيل الثنائي الإفريقي    "أهلًا بالعيد".. موعد عيد الأضحى المبارك 2024 فلكيًا في مصر وموعد وقفة عرفات    مصرع شخص غرقًا في ترعة بالأقصر    رئيس «قضايا الدولة» ومحافظ الإسماعيلية يضعان حجر الأساس لمقر الهيئة الجديد بالمحافظة    منها مزاملة صلاح.. 3 وجهات محتملة ل عمر مرموش بعد الرحيل عن فرانكفورت    «الجوازات» تقدم تسهيلات وخدمات مميزة لكبار السن وذوي الاحتياجات    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    10 نصائح للطلاب تساعدهم على تحصيل العلم واستثمار الوقت    إصابة 4 أشخاص في مشاجرة بين عائلتين بالفيوم    نائب رئيس "هيئة المجتمعات العمرانية" في زيارة إلى مدينة العلمين الجديدة    وزير العمل: لم يتم إدراج مصر على "القائمة السوداء" لعام 2024    أول صور التقطها القمر الصناعي المصري للعاصمة الإدارية وقناة السويس والأهرامات    «الرعاية الصحية»: طفرة غير مسبوقة في منظومة التأمين الطبي الشامل    ضبط 100 مخالفة متنوعة خلال حملات رقابية على المخابز والأسواق فى المنيا    ياسين مرياح: خبرة الترجى تمنحه فرصة خطف لقب أبطال أفريقيا أمام الأهلى    مدينة مصر توقع عقد رعاية أبطال فريق الماسترز لكرة اليد    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأحد 19-5-2024    سعر السكر اليوم.. الكيلو ب12.60 جنيه في «التموين»    ولي العهد السعودي يبحث مع مستشار الأمن القومي الأمريكي الأوضاع في غزة    عرض تجربة مصر في التطوير.. وزير التعليم يتوجه إلى لندن للمشاركة في المنتدى العالمي للتعليم 2024 -تفاصيل    ضبط 34 قضية فى حملة أمنية تستهدف حائزي المخدرات بالقناطر الخيرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدكتور حسين حمودة: نعم.. هناك استسهال صحفي ونقدي يشيع أن الاحتفاء بنجيب محفوظ سببه حصوله على نوبل

محفوظ ظل مسكونا دائما بروح المغامرة التى قادته إلى الكتابة فى أخريات حياته بطرائق مختلفة تماما
يجب تجاوز عبارات احتفاء مناهج التعليم بمحفوظ والاهتمام بتدريس نصوصه نفسها
هناك وهم كبير يشيعه البعض أن محفوظ كان عقبة أمام غيره من الكتاب والأدباء
محفوظ هو مؤسس الرواية العربية الناضجة
«عرفت نجيب محفوظ ضمن كثيرين جدا عرفوه، واقتربت منه ضمن كثيرين عرفوه أيضا، وترك فى عالمى أثره البالغ الذى تركه فى عالم كلّ من عرفه كذلك.. وخلال اقترابى منه، طيلة أكثر من اثنى عشر عاما، شهدت معه، وبجانبه، مشاهد لا تمحى أبدا من ذاكرتى ولا من روحى.. وفى كل مشهد كنت أرى فى صفحة وجهه ملمحا إنسانيا جديدا يستحق التأمل، ويستحق الاستعادة».. هكذا عبر الدكتور حسين حمودة، أستاذ الأدب العربى بجامعة القاهرة، فى شهادة منشورة بجريدة الشروق منذ 3 سنوات، هو أحد أصدقاء نجيب محفوظ المقربين، سمتهم الأساسية حب محفوظ وما يثيره من دهشة متجددة حين يتحدثون عنه. دكتور حسين حمودة واحد من أبرز النقاد الذين تصدوا بالدراسة والبحث فى أعمال عميد الروائيين العرب، وكان يتولى رئاسة تحرير دورية بالغة الأهمية رصينة هى دورية «نجيب محفوظ»، قبل أن يتعثر للأسف إصدارها. عن نجيب محفوظ فى ذكرى ميلاده وعن تأثيره ربما الممتد حتى الآن فى شخوص المقربين له ومنهم دكتور حسين حمودة، متواضع القلب المحب لمحفوظ، نجرى حديثا معه لنتعرف عن قرب عن محفوظ «كاتب الإنسانية» السمة الغالبة فى كتابات الأديب العالمى.
** إلى أى مدى ترى أدب نجيب محفوظ «إنسانيا» إن جاز التعبير.. أو لماذا يبقى أدبه إلى الآن نابضا بالحياة فضلا عن عدم تركيزنا على هذه النقطة؟
لعل حضرتك تقصد بعدم التركيز أو الاهتمام بهذه الهموم الإنسانية ما يرتبط بالقراءات النقدية لأعمال محفوظ، وعدم التوقف فى بعض هذه القراءات بقدر كاف عند هذه الجوانب الإنسانية.. طبعا لا يمكن القول بأن قراءات أعمال محفوظ قد استكشفت كل أبعاد هذه الأعمال.. وطبعا ليست هناك كلمة ختامية يمكن أن تغلق الأبواب أمام القراءات الممكنة المقبلة لعالم محفوظ الغنيّ، متعدد الطبقات والدلالات.. لعل القراءات القادمة، فى الزمن المحتمل، تستكمل هذا النقص.. لكن المؤكد أن محفوظ اهتم دائما فى أعماله بالهموم الإنسانية، وتساءل كثيرا عن مصير البشرية، وتوقف بطرق متنوعة عند قضايا المصير الإنسانى المرتبطة بكيفية تحقيق العدل والحرية والمساواة والسعادة على هذه الأرض.. وفى أكثر من عمل له، كما نعرف جميعا، طرح هذه القضايا، وأثار ما يتصل بها من أسئلة كبرى.. وعلى هذا كله يمكن القول بيقين وباطمئنان إن مشاغل الإنسانية فى عالم محفوظ وفى أعماله تجعل هذه الأعمال «إنسانية» بامتياز..
أما فيما يخص تفسير بقاء أدب محفوظ حتى الآن نابضا بالحياة؛ فيمكن التفكير فى أن هذا الأدب لم يقنع بالوقوف عند المشكلات والهموم والملابسات التى ارتبطت بالفترات التى كتب عنها محفوظ.. محفوظ توقف عند مشاغل زمنه الحاضر، ولكنه أيضا ربط بين هذا الزمن وبين المسيرة التاريخية الطويلة التى قطعتها مصر، والتى قطعتها البشرية كلها.. ومن وجهة أخرى، يمكن أيضا التفكير فى أن الاهتمامات الجمالية والفنية فى عالم محفوظ انبنت على قدر من الرحابة ومن التجدد.. صياغات محفوظ الفنية، وأبنيته لعوالمه، لم تكن مرهونة بذائقة وقتية يمكن أن تنقضى أو يمكن أن تتلاشى أو حتى يمكن أن تتراجع من فترة لأخرى.. هو راهن على استكشاف جماليات أدبية حقيقية وجوهرية تسهم فى جعل أعماله متجددة باستمرار.. فضلا عن أنه ظل يطور وينمّى هذه الجماليات خلال رحلته الطويلة، ويضيف إليها ويستكشف لها أبعادا جديدة.. ولعلنا جميعا نلاحظ أنه ظل مسكونا دائما بروح المغامرة التى قادته إلى الكتابة فى أخريات حياته بطرائق مختلفة تماما عن الطرائق التى كتب بها فى فترة الستينيات أو السبعينيات، وطبعا مختلفة تماما عن طرائق كتابته فيما قبل ذلك.. محفوظ كان ينطلق من انشغال مصرى موروث، منذ عصر الأسرات، بأسئلة الخلود والبقاء ومقاومة الزمن.. وهذا الانشغال قاده إلى صياغات تجعل أعماله تنبض دوما بأسباب الحياة.
** وكيف تنظر لتعامل الدول العربية ومنها مصر مع أدب نجيب محفوظ؟
هذا التعامل متفاوت من بلد عربى لآخر.. أغلب المثقفين والمبدعين العرب، فى كل البلدان العربية، يعرفون قيمة محفوظ.. ولكنى أتصور أن السؤال ينصرف إلى «التعامل الرسمى» وليس إلى اهتمام الأفراد.. وعلى هذا المستوى هناك طبعا ندوات ومؤتمرات عقدت وتعقد عن محفوظ.. وهناك بعض المقررات الدراسية فى بعض البلدان العربية تهتم بأعمال لمحفوظ.. من ذلك مثلا تدريس رواية (اللص والكلاب) فى مرحلة البكالوريا (الثانوية) بالمغرب.
** هل نجيب محفوظ يعتبر رائد الرواية العربية؟
موضوع «الريادة» وهل هى مرتبطة بأسبقية تاريخية أم بأسبقية فنيّة يمكن أن يمثل قضية قابلة للاختلاف حولها. رواية (زينب) لمحمد حسين هيكل اعتبرها كثيرون رواية رائدة على المستوى الفنى، وأنها ليست كذلك على المستوى التاريخى، فهناك روايات سبقتها بكثير أشهرها رواية فرانسيس فتح الله المراش (غابة الحق).. نجيب محفوظ، من الوجهة التاريخية ليس رائدا.. لكن روايات محفوظ، حتى المبكرة منها، تجاوزت رواية (زينب) على المستوى الفنى تجاوزا واضحا، وأسست لطرائق إبداعية سوف تنمو وتمتد وتتناسل ليس فى أعمال محفوظ التالية فحسب ولكن فى مسيرة الرواية العربية بوجه عام.. ومن هذه الناحية يمكن أن نعتبر كتابة محفوظ كتابة «تأسيسية».. دعنا نقول إن محفوظ هو مؤسس الرواية العربية الناضجة، وليس رائدا.
**ما نقاط التفرد فى أدب نجيب محفوظ.. وهل يمكن اعتباره نقطة فاصلة فى تاريخ الرواية العربية؟
نقاط التفرد فى أدب محفوظ أكثر من أن تحصى، وأكبر من أية محاولة للإجابة عنها فى حديث قصير مهما طال.. محفوظ هو المؤسس الأكبر والمطوّر الأكبر لفن الرواية فى الأدب العربى الحديث.. وهو المحتفى الأجلّ بقيمة «التعدد» فى الرواية، التى توازى الاحتفاء بقيمة التعدد فى المجتمع كله بكل أطيافه.. وهو المستكشف العظيم لطرائق جمالية متجددة دوما فى التعبير.. وهو المتعمق فى كل معنى أو سلوك مهما كان بسيطا، الملتقط لمستويات عديدة فيه.. وهو صاحب المسيرة الحافلة التى ظل فيها محتفيا بقيمة التساؤل عن ذاته وعمن حوله وعن البشر كلهم، بجانب الاحتفاء بالتساؤل عما كتبه وعما يمكن أن يكتبه، مما جعله يجاوز نفسه باستمرار وتتجدد معالم كتاباته دائما.. وهو القارئ العظيم للتاريخ، المستنبط لحكمة مسيرة هذا التاريخ.. وهو الكاتب الذى عاش حياته كلها مخلصا لوجه الجمال.. لهذا كله، ولغيره، هو لا يعدّ نقطة فاصلة فى تاريخ الرواية العربية فحسب.. وإنما هو مرحلة كبيرة متجددة من مراحلها.
** ما محددات تطور أسلوب نجيب محفوظ الأدبي؟
أتصور أن هناك قيمة كبرى حكمت تطور أسلوب محفوظ الأدبى، تتمثل فى أن هذا الأسلوب لم يكن واحدا، ولم يكن مفروضا على أى عمل روائى أو قصصى فى هذه الأعمال من خارج هذا العمل.. أسلوب محفوظ كان متغيرا من عمل لآخر، ومن مرحلة لأخرى، انطلاقا مما تستدعيه العوالم الروائية والقصصية التى يتناولها.. ورحلة محفوظ الطويلة، ومسيرته الممتدة المتنامية، ومغامراته الإبداعية المتجددة، كلها قد وازاها استجابات محفوظ الرهيفة لما يقترحه عليه كل عمل يكتبه من طريقة لكتابته.. وعلى ذلك، لم يكن هناك أسلوب واحد فى كتابات محفوظ، وإنما أساليب متعددة جدا، وإن ظلت فيها «روح محفوظية» واحدة.. وبالإضافة لهذه القيمة، التى تمثل محددا من محددات تطور أسلوب محفوظ، هناك محددات أخرى ترتبط بأسس حافظ محفوظ عليها دائما: أن يكتب بالفصحى الحية المتجددة تجدّد الحياة نفسها، وأن يستلهم ميراثا أدبيا إنسانيا ومحليا غنيا، وأن يرنو إلى إمكانات التوصيل والتواصل مع القارئ، وألا يغالى فى «تجريب» معزول عن أسباب الحياة... إلخ..
** هناك أوهام كثيرة ارتبطت باسم نجيب محفوظ، منها علاقته بالمرأة والدين وأنه «كاتب الطبقة المتوسطة»، تلك الأوهام زادت وتشعبت حتى أصبحت «إساءة لقراءة أدب نجيب محفوظ».. إلى أى مدى ترى كيفية التخلص من تلك الأوهام؟
التخلص من هذه الأوهام شأنه شأن التخلص من أى أوهام أخرى، يمكن أن يتم بإعمال العقل وبالنظر وإعادة النظر.. وأتصور أن هذا يتحقق بدرجة كبيرة وإن ببطء.. هناك أوهام كثيرة فى حياتنا، وفى حياة البشر عموما، وكثير منها يسقط بمزيد من المعرفة والتأمل والاهتمام بقيمة طرح الأسئلة وليس الاستنامة إلى الإجابات الجاهزة.. الأمر فى الحقيقة ليس مقتصرا على قراءة أو إساءة قراءة أدب نجيب محفوظ.. وإنما يجاوز هذا إلى العديد من جوانب حياتنا.
** كيف نقرأ أدب نجيب محفوظ مرة أخرى؟
أتصور أننا نقوم بهذا بالفعل.. أعمال محفوظ لا تزال تطبع وتنشر وتترجم ويتم تلقيها على نطاق واسع.. ويتم تداول بعض عبارات منها على وسائط الاتصال الحديثة من قبل بعض الشباب.. والمؤكد أنها بذلك تخرج من السياقات التى كتبت فيها لتدخل فى سياقات أخرى جديدة مرتبطة بزمننا هذا.. وخلال هذا تكتسى دلالات أخرى تسمح بها الطرائق التى أبدعها بها نجيب محفوظ.. ليست هناك، ولا يجب أن تكون هناك، كيفيات يمكن بها «توجيه» قراءات محفوظ.. تتحقق هذه القراءات نتيجة الاهتمامات المتجددة، فى السياقات المتجددة، كما أنها تتحقق بحرّية كاملة.. وأستطيع أن أقول، مرة أخرى، إن أعمال محفوظ لا تمنح لنا، وللقراء الجدد، هذه الحرية فقط.. وإنما تتطلبها منّا أيضا.
** بوضوح لماذا لم يكتب محفوظ سيرته الذاتية؟
نجيب محفوظ نفسه أشار إلى ما يلوح نوعا من الإجابة عن هذا السؤال.. أشار إلى أنه قد «قال» مذكراته ولم يكتبها.. وكان يقصد طبعا الكتابين اللذين رصدا وقائع حياته وذكرياته: كتاب رجاء النقاش (نجيب محفوظ: مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته) وكتاب جمال الغيطانى (نجيب محفوظ يتذكر).. والآن يمكن أن نضيف إلى هذا «كراسته» التى كتبها فى فترة مبكرة من حياته، وعنونها ب(الأعوام)، وسار فيها على خطى طه حسين فى كتابة (الأيام).. وقد ألمح إليها فى غير حديث له.. وقد نشرتها مؤخرا «دار الشروق» مع دراسة لمحمد شعير.. وبعد رحيل محفوظ توالت كتابات أخرى (منها كتاب إبراهيم عبدالعزيز «أنا نجيب محفوظ»).. لكن، بجانب هذا، يمكننا أيضا التفكير فى أن نجيب محفوظ، بتواضعه المعروف المعهود، لم يكن يريد أن يضع نفسه أبدا فى موضع «المركز».. وكتابة السيرة الذاتية، ابتداء، تنطلق من هذا الوضع: أن تكتب سيرتك معناه أنك تتصور نفسك مركزا بمعنى ما.. وربما يمكن كذلك التفكير فى أن محفوظ كان مدركا لهامش الحرية المتاح لأى كاتب فى عالمنا العربى، وأن هذا الهامش لن يكون كافيا أبدا لكى يتحدث عن حياته الشخصية بحرية كاملة وبصدق مطلق.. وأن عليه أن يقول أشياء عن سيرته وأن يتجنب الحديث عن أشياء أخرى، بحكم أن هذه السيرة سوف تتقاطع بالضرورة مع «شخصيات» غيره لم تمنحه الحق فى أن يتحدث عنها بصراحة كاملة.. ومع ذلك كله.. لنا أن نفكر فى أن محفوظ، فى غير عمل له، تطرق إلى جوانب من سيرته فى بعض نصوصه الأدبية، بمنطق الإبداع وليس بمنطق الالتزام «السيرى» المباشر برصد الوقائع الحرفية.. وكما نعرف جميعا، نستطيع أن نجد هذا فى أعمال مثل (الثلاثية) و(المرايا) و(حكايات حارتنا) و(قشتمر) و(أصداء السيرة الذاتية) و(أحلام فترة النقاهة).
** هل تتوقع وجود أعمال لا تزال غير منشورة لنجيب محفوظ حتى اليوم؟
نعم! إذا قصدنا بتعبير «غير منشورة» أنها لم تنشر فى كتب.. هناك قصص قصيرة كثيرة كتبها محفوظ فى الثلاثينيات ونشرها فى دوريات متعددة ولم يضمها إلى مجموعته الأولى (همس الجنون).. وقد أعيد نشر بعضها فيما بعد.. ولكنى أتصور أن البحث عن هذه القصص والعمل على إعادة نشرها، فى كتاب مثلا، يجب أن يخضع لاعتبارات كثيرة.. من هذه الاعتبارات أن محفوظ نفسه قد استبعدها من مجموعته الأولى بسبب عدم رضاه عن مستواها الفنى.. لأنه كتبها فى فترة مبكرة جدا، وفى سياق أدبى وبلاغى تقليدى، انطلق منه ووضعه فى اعتباره خلال كتابتها.. وأتصور أنه فى حالة نشر هذه القصص يجب أن تنشر للدارسين، مصحوبة بما يوضح ذلك، وبإشارات واضحة إلى موقف محفوظ منها.. وبجانب هذه القصص القصيرة هناك طبعا الأحاديث الثقافية والصحفية المتعددة التى أجريت مع محفوظ، وبعضها مهم جدا، وأتصور أن جمعها يحتاج إلى جهد كبير وأن الكثير منها يحتاج إلى توثيق مع نشرها فى كتب.. وبجانب هذا ربما هناك بعض المقالات التى كتبها محفوظ خلال الثلاثينيات وتحتاج إلى بحث لجمعها.. وجزء منها قد جمع وأعيد نشره، وخصوصا المقالات الفلسفية، ومن ذلك كتابان للأستاذ رئوف سلامة موسى والدكتور أحمد عبدالحليم.
**هناك استسهال صحفى وربما نقدى أن أدب نجيب محفوظ تم تلقيه بحفاوة بسبب حصوله على جائزة نوبل رغم أن محفوظ يكتب من الثلاثينات وحصل على عدة جوائز مهمة قديرة قبل نوبل.. تعليقك؟
نعم.. هذا مجرد استسهال.. هذا هو التعبير المناسب!.. محفوظ كان يستحق التقدير قبل نوبل بكثير، وقد قوبل بحفاوة مشهودة قبل نوبل بزمن طويل.. وجزء من هذه الحفاوة ارتبط بكتابات مهمة عنه، منذ الخمسينيات وإلى حد ما قبلها.. ومن ذلك كتاب كامل كتبه الأب جاك جومييه بالفرنسية عن «الثلاثية« فى نهايات الخمسينيات، أى بعد سنوات قليلة من صدور «الثلاثية«.. ثم إن حيثيات نوبل لم تقف عند كل أعماله المهمة، ومنها أعمال قد كتبها قبل حصوله على هذه الجائزة.. مثلا (ملحمة الحرافيش) التى تعدّ أهم أعماله (وقد كان هذا تصوره هو نفسه عندما سألته عن رؤيته لأهم عمل له) لم تكن قد ترجمت بعد عند حصوله على نوبل.. نجيب محفوظ نال شيئا كثيرا من الحفاوة والاهتمام قبل نوبل وبعدها، ونالهما بعيدا عنها.. وهو يستحق هذه الحفاوة وهذا الاهتمام بغض النظر عن نوبل..
** وكيف كنت ترى علاقة نجيب محفوظ بالنقاد.. وهل كان يهتم بالكتابات النقدية الجادة؟
اهتمامه بالكتابات النقدية عن أعماله اختلف فيما بين الفترة المبكرة من مسيرته إلى الفترات اللاحقة.. فى البداية كان مهتما بهذه الكتابات، لأنه كان يشعر بالحاجة إليها، وهذا أمر طبيعى تماما.. ولكنه فيما بعد كان يهتم بهذه الكتابات النقدية فى حدود أنها تقدم له وسيلة مثلى للتعرف على الكيفيات التى يتم بها تلقى أعماله.. وإن لم يصل به هذا الاهتمام إلى تغيير طرائق كتابته، ولا إلى تعديل المسارات التى خاضها فى إبداعه.. وقد ذكرت من قبل أنه رأى فى كثير من كتابات النقاد عن أعماله قيمة كبيرة جدا.. وأنه أعجب ببعضها.. وعلى رأسها كتاب إبراهيم فتحى (عالم نجيب محفوظ الروائي).. وطبعا هناك كتابات أخرى انطلقت من أهواء أو من نزعات غريبة، كتبها بعض «النقاد» (لا أحب أن أشير إليهم!).
** رغم أن الأستاذ نجيب كان شديد اللطف إلا أنه لاقى هجوما كبيرا من نقاد وكتاب جيله..لماذا؟
نجيب محفوظ لاقى طبعا هذا الهجوم من «بعض« محدود من الكتّاب والنقاد، ولكن أغلب الكتاب والنقاد احتفى به وقدّر إبداعه كما نعرف ونرى.. وأتصور أن هذا الهجوم، غير المنصف، ارتبط ببعض الأسباب.. جزء من هذه الأسباب كان له أبعاد ذاتية واضحة (من ذلك مثلا تجد هجوما من ناقد مدفوع بالغيرة، لم يتحقق روائيا ولم يكتب سوى رواية واحدة لم تجد صدى ملحوظا).. وجزء من هذه الأسباب ارتبط ببعد سياسى.. وقد كانت هناك موجة من الهجوم على محفوظ بسبب أراء سياسية يمكن الاختلاف حولها، ولا علاقة لها بمشروعه الأدبى.. ولكنها انسحبت على هذا المشروع فاعتبره واحد من النقاد وياللغرابة «كاتبا مبتدئا« أو يقع فى أخطاء المبتدئين (وقد كان هذا فى تاريخ متأخر من مسيرة محفوظ)!!.. ثم هناك صيحات من هذا الهجوم كانت مجرد بحث عن مكافأة منظورة أو غير منظورة أيام كان الهجوم على محفوظ يجلب بعض المكافآت.. ثم هناك صيحات أخرى قليلة كانت بحثا عن مجرد تصفيق عابر..
.. المؤكد أن هذا الهجوم، وهو محدود بالقياس للاحتفاء الكبير كما أشرت، لم يكن مستندا لأى أسباب موضوعية، وأنه لا يوازى «تقدير« أعمال محفوظ والقيم الكبيرة التى أرساها وطورها فى مسيرة الرواية العربية..
وهل ترى أنه منع ظهور غيره من الأدباء والكتاب كما يقال ويشاع؟
هذا أيضا وهمٌ من الأوهام التى أحاطت بتجربة نجيب محفوظ: «أنه كان عقبة أمام غيره من الكتاب والأدباء».. محفوظ لم يكن عقبة أمام أحد.. ظهر معه كتّاب روائيون وقصاصون مهمّون ومجيدون، وظهر بعده كتاب كثيرون جدا، مهمّون ومجيدون أيضا، كل منهم استقل بعالمه وبتجربته وقدم إنجازاته الخاصة.. أتصور أن السؤال ينصرف إلى مقدار اهتمام القراء والنقاد، وأيضا الإعلام والسينما، بأعمال محفوظ أكثر من غيره.. وهذا صحيح.. ولكن محفوظ لم يسع أبدا إلى شيء من هذا الاهتمام.. والحقيقة أن هذا الاهتمام انبنى على ما يقدمه عالم محفوظ الأدبى لكل هؤلاء: انبنى على رحابة هذا العالم، وعلى تعدد مستوياته، وعلى قدرته التوصيلية الهائلة، وعلى التقاطه لتجارب وقضايا كبيرة، وعلى تناول محفوظ لهذه التجارب والقضايا بطرق متنوعة تسمح بتلقيها وتمثّلها بأشكال لا حصر لها.. محفوظ لم يكن عقبة أمام أحد.
** وما الفرق بين النقد العربى والغربى فيما يخص رؤيتهما لأدب نجيب محفوظ؟
النقد الغربى حول محفوظ، مثله مثل النقد العربى، ليس واحدا.. بل هو متنوع جدا.. والأمثلة على ذلك تفيض عن إمكانات الحصر.. الكتابات النقدية الغربية عن محفوظ، لجاك جومييه، وأندريه ميكيل، وروجر آلن، وفاليريا كيربتشنكو، وإيزابيلا كامرا دافليتو، وهارتموت فاندريش..، مثلا، لا تسير فى وجهة واحدة أبدا.. وكذلك طبعا الكتابات النقدية العربية عن أعمال محفوظ.. ولكن طبعا هناك حضور لتوجهات عامة، إن صح التعبير، فى قطاع كبير من النقد الغربى لأعمال محفوظ، يتمثل فى الاهتمام بالطابع المحلى الذى يكشف عن الروح المصرية فى هذه الأعمال، من ناحية، ويتصل بتميزها عن الكتابات الروائية والقصصية الغربية من ناحية أخرى.. كذلك يمكن أن يكون بعض هذا النقد الغربى قد أفاد إفادات أكبر من المناهج النقدية الحديثة فى قراءات محفوظ.. وإن كانت هذه الإفادات واضحة أيضا فى قطاع من النقد العربى لأعمال محفوظ، خصوصا فى المغرب العربى.
على كل حال، هذا التنوع كله مقترن بإمكانات أعمال محفوظ نفسها، التى تسمح بمقاربات متنوعة لها، من وجهات واهتمامات وطرائق وكيفيات متعددة جدا.
** وهل لنا أن تتخيل تلقى ومكانة أدب نجيب محفوظ بعد مائة عام من الآن.. أو كيف ترى الوضع السليم لتلقى أدب محفوظ فى التعليم والحياة الثقافية؟
يمكننا تخيل سيناريوهات كثيرة، من بينها أن أعمال محفوظ ستدخل فى كيفيات ووسائط جديدة للتوصيل وكيفيات جديدة للتلقى.. وأتصور أن أعمال محفوظ مع هذه الكيفيات سوف تظل تمثل قيمة كبيرة.. والوضع السليم لتلقى أعمال محفوظ فى التعليم يجب أن يبدأ بتجاوز الاكتفاء بالعبارات الاحتفائية التى يتم وضعها فى مقررات هذا التعليم، والاهتمام بتدريس نصوصه نفسها، وبالتحليلات التى تليق بهذه النصوص.. وهذا المعنى يمكن أن يمتد إلى تلقى محفوظ فى الحياة الثقافية بوجه عام.. حيث يجب تزايد الاهتمام بأعمال محفوظ نفسها، وليس بالوقوف عند بعض القضايا المفتعله التى تولّدت عنها أقاويل، واقترنت بها أشكال من إساءات القراءة.. بل ووجهت إليه اتهامات هو برىء منها.. محفوظ هو أعماله التى كتبها.. والاهتمام الحقيقى بمحفوظ يجب أن ينصبّ على هذه الأعمال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.