فى بعض مقالات الدكتور زكى نجيب محمود، التى كان ينشرها كل أسبوع بصحيفة «الأهرام»، تحدث مرات عن رؤيته النقدية لبعض روايات محفوظ، كما ذكر د.زكى فى أحد مقالاته ب«الأهرام»، أنه لم يقرأ رواية من الأدب العربى أو من الأدب العالمى، وتحدث عنها أمام محفوظ -فى جلسة توفيق الحكيم فى مكتبه ب«الأهرام»– إلا وجد محفوظ قد قرأها، وله رأى ثاقب فيها. فعندما قرر الأستاذ أن يترك الدراسة الأكاديمية للفلسفة، ويتفرغ للأدب، آخذ فى دراسة الأدب بمنهج علمى منظم، فمن خلال كتب تاريخ الأدب العالمى، تَعرّف أهم كُتّاب الأدب، وأعظم الشعراء، عبر مختلف العصور، وآخذ يقرأ بعناية عيون الأدب الإنسانى، مسرحا ورواية وقصة وشعرا. وفى هذه المرحلة، التى بدأت فى عام 1936م، كان محفوظ يتصور أنه بدأ فى دراسة الأدب دراسة منهجية فى سن متأخرة! إذ كان فى نحو الخامسة والعشرين، وكان يرى أن أمامه الأدب العالمى كله، ولا بد أن يقرأه قراءة دقيقة، ويستوعب جمالياته وفنونه. وقد قرأ الأستاذ معظم الأدب العالمى باللغة الإنجليزية، وقرأ بعضه باللغة الفرنسية، إلى جانب ما تُرجم منه إلى اللغة العربية. وهذه القراءة المنظمة للأدب العالمى، لم تمنعه من مواصلة قراءة الأدب العربى قديمه وحديثه. وشعور الأستاذ بأنه بدأ دراسة الأدب متأخرا، جعله يختار لكل كاتب عملا واحدا، أو عملين فقط، وفى ما ندر أن يقرأ لكاتب واحد عددا أكبر من أعماله، وكذلك لم يتمكن من قراءة رواية واحدة مرتين! مهما أُعجب بالرواية وكاتبها، فعلى سبيل المثال، أحب الأستاذ «ألف ليلة وليلة»، ولكنه قرأها مرة واحدة، رغم أنه استوحى منها روايته البديعة «ليالى ألف ليلة»، التى أرى أنها أفضل وأعمق كثيرا من الكتاب الأصلى. وكذلك فعل مع روايات كثيرة أحبها، ولم يستطع أن يكرر قراءتها، مثل «الحرب والسلام» لروائى روسيا الأعظم ليو تولستوى، ورواية «موبى ديك» للروائى الأمريكى هرمان ملفيل، و«الجريمة والعقاب» و«الأخوة كارامازوف» لديستويفسكى، و«البحث عن الزمن الضائع» لمارسيل بروست، و«الشيخ والبحر» لهيمنجواى، فقد كان الأستاذ يسميها باسمها الصحيح، ولا يقول «العجوز والبحر»! كل هذه الروايات التى أحبها كثيرا، وغيرها أيضا، لم يتمكن من قراءتها غير مرة واحدة. لكن هذه القراءة الواحدة، فى غاية الدقة والعمق، إذ كنا أحيانا نتحدث فى تفاصيل رواية قرأها الأستاذ منذ نحو نصف قرن، فإذا به يعبر عن رأيه الثاقب فى أدق تفاصيلها! وظل الأستاذ طوال حياته، يهتم غاية الاهتمام بمتابعة ما يصدر من كتابات جديدة، وبخاصة كتابات الشباب، فالروح الشابة التى يتمتع بها محفوظ، جعلته قادرا على تذوق أعمال كل الأجيال الأدبية، بسعة صدر مدهشة، ودون أى إحساس بالتعالى الذى كثيرا ما نشاهده فى نظرة الجيل الأكبر إلى الأجيال الأصغر منه.