عندما تتشابك الخيوط وتتعثر الرؤية، تكون إعادة قراءة التاريخ السبيل الأوحد لمحاولة الفهم والوصول لطرف الخيط والخروج من غياهب هذه المتاهة. هذا المنطلق فى البحث هو ما اتخذه الكاتب والقيادى اليسارى حسين عبدالرازق عند تناوله للملف العراقى المتخم بالأوراق والاشتباك، وهو الملف الذى أفاض فى الاهتمام بشجونه، ووجد أن الكتابة عنه «مغامرة محفوفة بالمخاطر»، لاسيما أن تعقيد الأوضاع الداخلية فى ظل الاحتلال الأمريكى والمقاومة والإرهاب والتدخلات الخارجية، يجعل محاولات الفهم والبحث عن الحقيقة أمرا بالغ الصعوبة، الأمر الذى جعله يعيد النظر إلى الوراء بحثا عن أصول هذا الارتباك والعبث فأعاد نشر سلسلة من المقالات والدراسات التى كتبها فى الفترة من سبتمبر 1990 وحتى ديسمبر 2008، أى ما يصل إلى 17 عاما من الكتابة المتصلة حول شأن واحد بتفاصيله المتواترة وذلك فى كتاب «العراق بين صراعات الداخل والخارج»، وكما اعتبر عبدالرازق أن الكتابة عن الشأن العراقى «مغامرة» فقد اعتبر أيضا أن كتابه محاولة لعرض الحقائق ووجهات النظر بعيدا عن الانطباعات والأحكام المسبقة التى تضع الجميع فى تصنيفات سهلة غير موضوعية إما فى خانة الوطنى أو الخائن والعميل. استهل حسين عبدالرازق كتابه بفصل موجع جعله هو رأس الفساد الذى أصاب الجسد العراقى وهو ما وصفه ب«الزلزال»، وهو قرار غزو الكويت وقال فى ذلك: «لم يكن قرار صدام حسين بغزو الكويت واحتلاله وضمه بعد ذلك مجرد اجتياح لدولة عربية تقف آثاره عند حدود دولتين عربيتين متجاورتين، أو منطقة الخليج، بل كان زلزالا وصلت آثاره إلى العالم كله، وطرح عددا من القضايا المتفجرة، بدءا من العلاقات بين الدول العربية بعضها البعض، وطبيعة الحدود بينها وما يقال عن الوحدة والحقوق التاريخية، وقضية توزيع الثروة بين دول النفط قليلة السكان والدول العربية الأخرى التى تتركز فيها الحضارة والكثرة العددية، وطبيعة أنظمة الحكم هنا وهناك والديمقراطية الغائبة بدرجة أو بأخرى على امتداد الأمة العربية، والاستقلال والتبعية وموقع القضية الفلسطينية والانتفاضة والعدو الإسرائيلى فى سلم الاهتمامات العربية، وصولا إلى موضوع النفط والسيطرة عليه، وأثره على السياسات العالمية والعلاقات بين الشمال والجنوب وموقع الاتحاد السوفييتى فى ظل ما يقال عنه توازن المصالح والتفكير السياسى الجديد، ومدى حرية السياسة الأمريكية على امتداد المعمورة، إلى غير ذلك من القضايا المهمة». خاض الكتاب، الصادر عن دار الثفافة الجديدة فى 285 صفحة، على مدار عدة فصول فى تبعات هذا الغزو وآثاره على العراق والمنطقة كلها، وتحدث عن مواجهة صدام لتعثر المفاوضات مع الأكراد والتهديد الأمريكى باستخدام القوة، حتى وصل إلى المحطة الأكثر ترويعا وهى الحرب الأمريكية على العراق وسقوط بغداد. على الرغم من أن فصول الكتاب كُتبت على مدار مدى زمنى طويل فإن كاتبها احتفظ بأسلوب عرض مميز جعل من هذه الفصول المنفصلة وحدة متناغمة تقدم رؤية تاريخية متسلسلة، لاسيما أن فصول الكتاب كانت تبدأ غالبا بأسلوب خبرى يؤرّخ بالسنة والشهر واليوم بل وبالساعة أيضا لتطورات الأوضاع السياسية والحربية فى العراق، وأضفى على هذا الجهد ملامح إنسانية تفاعلية واضحة، ففى مقدمة فصل بعنوان «المقاومة العراقية تفاجئ أمريكا «كتب حسين عبدالرازق» أول ما أقوم به فى السادسة من صباح كل يوم، وقبل مغادرة الفراش الاستماع إلى إذاعة «بى بى سى» لمتابعة أخبار الغزو والمقاومة فى العراق، فى السابعة انتقل إلى القنوات الفضائية الجزيرة وأبوظبى تحديدا وحتى التاسعة، ثم انتقل إلى العمل لأمضى وقتا ليس بالقليل مع الصحف، وأعود إلى المنزل لأستأنف الاستماع للراديو والتنقل بين القنوات الفضائية العربية والأجنبية التى تذيع بالإنجليزية حتى منتصف الليل، وتتكرر هذه الرحلة كل يوم منذ 20 مارس 2003، تاريخ بداية العدوان الأمريكى»، ويصف عبدالرازق هذه الحالة المراقبة عن بُعد وكثب فى آن واحد بقوله «أتساءل أحيانا هل هذه الساعات الطوال التى أقضيها فى الاستماع والمشاهدة والقراءة هى مجرد بحث عن الأخبار ومحاولة لمعرفة ما يجرى، أم هى نوع من المشاركة عن بعد والسعى لهزيمة الإحساس بالعجز والإحباط فى ظل تواطؤ أو صمت رسمى عربى، وحكومات بوليسية مشغولة بقمع مواطنيها ومنعهم من التضامن مع العراق وإعلان موافقتهم على كل ما يجرى، واعتقال شبابها وساستها وأعضاء فى برلماناتها تجاوزوا خطوطها الحمراء الكثيرة، وتلفيق قضايا ومحاضر وتحريات مصطنعة لهم، حكومات ينطبق عليها قول الشاعر (أسد علىَّ وفى الحروب نعامة). بنفس صيغته الخبرية التأريخية كتب حسين عبدالرازق فى مقدمة أحد فصول كتابه «فى الثامنة والنصف من مساء السبت 13 ديسمبر 2003، وبعد ثمانية أشهر من احتلال القوات الأمريكية وحلفائها للعراق، ألقى القبض على الرئيس العراقى السابق صدام حسين فى حفرة فى كوخ ريفى صغير فى بلدة الدوار التى تبعده 51 كيلومترا عن تكريت مسقط رأسه وعلى مرمى البصر من أحد قصوره الفخمة». قدّم مؤلف الكتاب فى هذا الفصل رؤية بانورامية لردود الأفعال المحلية والإقليمية والدولية حيال هذا المشهد المهيب، ونقل تعليقات عدد من الكُتاب البارزين من بينهم تعليق الأستاذ سلامة أحمد سلامة الذى قال عندها «كان الشعب العراقى أشد ما يكون حاجة إلى قدر من اليقين بأنه لا يقاوم دفاعا عن صدام حسين ولكن عن حريته وسيادته واستقلاله». ورد إقليم كردستان على مدار فصول الكتاب أكثر من مرة، حيث سافر إليه حسين عبدالرازق عام 2000 فى رحلة من هذا الإقليم إلى سوريا دامت تسعة أيام بلياليها للمشاركة فى الاحتفال بمئوية الشاعر العربى الكبير «محمد مهدى الجواهرى»، وقال فى وصفه لبكاء الشاعر العراقى محمد سعيد الصكار على ظهر إحدى الزوارق التى كانت تقلهم أثناء هذه الرحلة فى نهر دجلة «هزنى بشدة هذا المشهد الحزين، وأدركت أكثر من أى وقت عمق المأساة التى يعيشها هذا المثقف العربى العراقى، وآلاف المثقفين والكتاب والفنانين والصحفيين العراقيين الذين ينتمون إلى أجيال مختلفة أجبرتهم وحشية السلطة وعنفها فى بغداد على ترك عراقهم منذ سنوات بعيدة والعيش فى المنافى العربية، نحو 5 آلاف مثقف من بين 4 ملايين مهاجر خارج العراق». تحدث عبدالرازق عن إقليم كردستان من جديد فى فصل خصصه حول مشاركته فى أسبوع ثقافى فى أربيل عاصمة إقليم كردستان عام 2007، وعرض لأبرز الأطروحات التى دارت خلال هذا الأسبوع ومن بينها مسألة الهوية التى قال فيها «لم يعد للعراق هوية واضحة، وتفوقت الهوية القومية أو الطائفية على الهوية الوطنية العراقية، والمجتمع العراقى «مجتمع دولة.. ودولة لا مجتمع»، فكل ما لدينا مجموعات وجماعات متصارعة، وتتحمل المدارس والتيارات الفكرية مسئولية هذا الوضع منذ عام 1921 سواء المدرسة الإسلامية أو المدرسة القومية أو المدرسة الماركيسية، فهذه المدارس لا تؤمن بالدولة الوطنية أو بالمواطنة، وتعود جذور هذه الأزمة للنظام السياسى الذى وضعته بريطانيا عند تأسيس العراق، فبريطانيا لم تنظر للعراق أبدا كأمة وفرقت بين الشيعة والسنة فخلال الفترة من عام 1921 وحتى عام 1985 تشكلت 65 حكومة، ولم يكن من بين رؤساء هذه الحكومات إلا خمسة ينتمون إلى الشيعة».