لا نستطيع أن نستعرض جميع المعضلات التى تثيرها العمارة المصرية، لأنها كثيرة ومتشعبة. ولكن سنتناول هنا مسألة خاصة جدا، وهى إقامة المسلات الجرانيتية، لأن الباحث إذ أراد مشاهدة الأهرام يتعين عليه أن يذهب إلى مصر، لكن المسلات موجودة فى كثير من البلاد الأوروبية، حتى فى نيويورك فكيف صنعت؟ المعروف أن جميع المسلات الجرانيتية قطعت من محاجر أسوان شمالى الشلال الأول، ويمكن اليوم فحص المحاجر التى أخذت منها هذه المسلات، وهى فى الواقع من الأمكنة التى تجتذب إليها كثيرا من السياح، ولاسيما أن فى استطاعة الزائر أن يرى مسلة ضخمة متروكة فى موضع قطعها، بسبب صدع سرى فى صخرتها، ولو كان من المستطاع استخراجها وإقامتها لغدت أعظم المسلات جميعا، إذ يبلغ ارتفاعها 137 قدما، كما يبلغ وزنها 1168 طنا. واستطعنا بفضل هذه المسلة المتروكة أن نتصور كيف عمل المهندسون المصريون فى إزالة الطبقات العليا من الجرانيت، وكيف كان تحديد الكتلة الحجرية المطلوب تخليصها، ثم فصل هذه الكتلة الحجرية عن أمها من جميع الجهات. وشرح عالم المصريات ريجنالد أنجلباخ جميع هذه المسائل، مستعينا بجميع المعلومات المتوافرة فى أسوان وغيرها، كما شرح طريقة نقل المسلة المقطوعة على الزحافات إلى شاطىء النيل، وطريقة وضعها فى سفينة، ثم إخراجها إلى البر، ثم نقلها إلى المكان المعين لإقامتها، ثم إقامتها. على أن أنجلباخ لم يستطع تفسير كل ما هنالك من مسائل، برغم تجاربه الأثرية والهندسية المكنية، فمثلا ما هو نوع الأدوات التى استعملها المصريون فى قطع الصخر البالغ الصلود؟ لعلهم استخدموا كرات من حجر الدولوريت، وكثير منها يوجد فى مواضع أعمال القطع، لتهشيمه لا لقطعة ولكنهم احتاجوا إلى أدوات أخرى يرجع أنها مصنوع من المعدن، ولكن من أى معدن؟ ثم كيف نقشت النصوص الهيروغليفية المطولة المعقدة على حجر الجرانيت الصلد؟ ويدل التحديب الواضح فى أضلاع المسلة المصرية المقامة فى باريس على مدى أناقة المهندس المعمارى المصرى، كما تدل إقامة المسلة نهائيا فى العصور القديمة على عملية دقيقة بالغة، خاطر المهندس فيها بسمعته وربما بحياته. ذلك أنه إذا لم تهبط المسلة رويدا رويدا يحتمل أن تنكسر، ويضيع مجهود السنين هباء، وإذا لم يحكم وضعها على قاعدتها كما ينبغى، فإن الخسارة لا تعوض ويضيع منظورها المعمارى ولهذا كان العمل معقدا ممتلئا بالصعوبات الخفية، لدرجة أن الإنسان لا يملك إلا أن يسأل: أكان المصريون قد جربوا هذا العمل فى نماذج صغيرة أولا، لكى يحددوا وزن المسلة من المسلات ومحور ارتكازها واختبروا كذلك عملية الإقامة، ليتحاشوا احتمالات الفشل. وعلى أية حال أدرك المعماريون وأولياؤهم من الملوك أنهم أهل خبرة بأعمالهم المعمارية، وسجلوا ذلك بكثير من الفخر. ومن مهندسى المسلات ستة نعرفهم بأشخاصهم، لأنهم كوفئوا على عملهم بالسماح لهم بتشييد مقابرهم فى جبانة طيبة، فضلا عن إقامة تماثيل لهم فى المعابد. وتدل نصوص هذه المقابر والتماثيل على إقامة المسلات، ولكنها للأسف لا تشرح كيف تم ذلك العمل، ولعل ذلك لأن الشرح يشغل حيزا كبيرا، أو لأنه لم يكن ذا أهمية إلا للمهندسين، وهم فى غير حاجة إليه، وهذا ينطبق على ما نفعل فى العصر الحاضر، فإننا عندما نضع لوحة تذكارية على قنطرة من القناطر مثلا، لا نحاول أن نشرح حتى فى أقصر عبارة كيف شيدت تلك القنطرة. وهنا استحضر اثنين من أولئك المهندسين المعماريين، أولهما سنموت رئيس مهندس الملكة حتشبسوت (1495 1475ق.م) وهو الذى شيد مسلاتها ومعبدها العظيم بالدير البحرى، وهو المربى لابنتها الكبرى نفرورع، وهو فى تمثالة ممسك بها فى حجره، وثانيهما بكنخسو الذى عاش بعد ذلك بقرن من الزمن، وهو مهندس المسلة التى انتقلت إلى باريس، وربما كان هو أيضا مخترع فكرة التحديب، ويحمل تمثاله نصا طويلا يقص تاريخ حياته، وهو محفوظ الآن بمتحف الجلبتوتيك بمدينة ميونخ فى ألمانيا. وانتقلت مسلات كثيرة من مصر إلى روما واستنبول ثم إلى باريس ولندن وغيرها من المدن حتى عبر الأطلنطى إلى نيويورك. وكان الرومان وهم الخبيرون بالصعوبات الهندسية أول الناقلين للمسلات المصرية من مواضعها الأصلية فى مصر، وأكبر مسلة قائمة فى العصر الحاضر هى المقامة أمام سان جيوفانى باللاتيران، وهى مسلة بدأها تحتمس الثالث وأكملها تحتمس الرابع (1420 1411ق.م.) بمعبد الكرنك، ثم انتقلت إلى الإسكندرية عام 330 ميلادية بأمر من قسطنطين الأكبر الذى أراد أن يزين بها القسطنطينية ثم نقلها ابنه قسطنطين الثانى عام 337م إلى الميدان الكبير بمدينة روما، حيث اكتشفت مكسورة إلى ثلاث قطع عام 1587م. وفى السنة التالية أقام هذه المسلة فى مكانها الحالى المهندس دومينكو فونتانا وأحرز فونتانا هذا شهرة أخرى بإقامة مسلة أخرى فى ساحة الفاتيكان، وهى أصغر حجما لكنها سليمة. ولم يتمم المصريون صنع هذه المسلة، بدليل أنها لا تحمل شيئا من النقوش الهيروغليفية، ولذا فتاريخها غير معروف، غير أنها نقلت من هليوبوليس، بأمر الأمبراطور كاليجولا (37 41م) ثم أقيمت فى ميدان نيرون، ثم أمر البابا سكتوس الخامس بنقلها إلى ميدان القديس بطرس، بإشراف فونتانا عام 1586. وأخذت مسلة باريس من مدينة الأقصر، ونقلت إلى مكانها الحالى بمعرفة المهندس البحرى ليبا عام 1836م، وأما مسلتا نيويوركولندن، فأقيمتا أولا فى هليوبوليس، حيث نصبهما تحتمس الثالث (1501 1448ق.م) ثم نقلها الرومان حوالى عام 22ق.م إلى الاسكندرية، حيث رآهما المؤرخ عبداللطيف البغدادى قائمتين وكتب عنهما فى النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادى، على حين رأى بير بيلون (1517 1564م) الذى زار الاسكندرية منتصف القرن السادس عشر الميلادى واحدة منهما فقط، بعد أن سقطت الأخرى فى أكوام الرمل المحيطة بها، ولحسن الحظ حالت أكوام الرمل التى تراكمت حول هذه المسلة دون كسرها، فبقيت سليمة حتى أخذت إلى لندن وأقيمت على ضفة نهر التيمز عام 1878م أما المسلة التى ظلت قائمة فأخذت من مكانها إلى نيويورك حيث أقيمت فى سنترال بارك عام 1881م، وكان المهندس المسئول عن نقلها إلى أمريكا وإقامتها فى نيويورك هو هنرى هنيتشرش جورنج (1841 1885م).