«أحيانا يدهشنى أننى لم أكن قادرا على أن أضع داخل قصصى كل الأفكار التى قدرت أنها تستحق الاستكشاف: اللحظات الغريبة، ومشاهد الحياة اليومية التى أردت مشاركتها مع الآخرين، والكلمات التى تنبعث منى بقوة وفرحة عندما تكون هناك مناسبة لها فتنتها وسحرها.. وكل مرة أبتسم وأقول: ذات يوم سوف أكتب كتابا مصنوعا من شذرات متفرقة وهاهو هذا الكتاب». بهذه الكلمات قدم الأديب التركى الأشهر حاليا «أورهان» باموق لكتابه الأحدث والأول الذى أعده الكاتب بعد حصوله على جائزة نوبل للآداب قبل ثلاث سنوات فى خريف عام 2006، عن مجمل أعماله التى بلغت ثمانى روايات بالإضافة إلى كتاب جمع فيه ذكرياته وتأملاته حول مدينته الأثيرة اسطنبول. كتاب «باموق» الذى صدرت طبعته العربية مؤخرا عن دار «الشروق» بترجمة بديعة للقديرة «سحر توفيق» ضم ما يزيد على السبعين مقالة، بالإضافة إلى بعض المقابلات الصحفية التى أجريت معه حول إبداعاته، وقصة قصيرة جديدة، ومقالا أو كلمة مطولة هى التى ألقاها الكاتب أمام الأكاديمية السويدية فى معرض تسلمه لجائزة نوبل، كاشفا النقاب عن مبدع آخر تسبب ربما دون قصد فى إيصال «أورهان باموق» إلى هذا المحفل ليتسلم الجائزة التى تمنى «باموق» لو أن هذا الشخص كان يشهد تسلمه إياها. وكما وصف الكاتب مقالاته فإنها الشذرات التى سقطت من أعماله الروائية ونشرتها صحف ومجلات ربما لا يكون أغلب جمهورها من قراء أدب «باموق» لكنهم فازوا باللحظات واللمحات الأكثر قربا وصدقا من تلك التى تضمنتها كتب الحكايات المحبوكة، وليس ذلك تقليلا من روعة وإنسانية الكتابات الأدبية «الأورهانية» إن صح التعبير، ولكن لأن هذه المقالات باعتراف أورهان باموق ذاته هى نوع من السرد الذاتى الذى كثيرا ما يعود إليه صاحبه كما يعود إلى صوره القديمة، فيعيد قراءته وهو الذى نادرا ما يعيد قراءة رواياته. ولهذه المقالات اختار كاتبها ومحررها الذى تمنى على القارئ الحساس أن يولى اهتماما لتحريره المبدع لها بنفس القدر الذى يلتفت إلى المجهود الذى وضعه «باموق» فى كتابتها، اختار عنوان «ألوان أخرى» كاشفا عن ولعه بالألوان التى استحوذت على عناوين العديد من رواياته ك«القلعة البيضاء» و«الكتاب الأسود» و«اسمى أحمر» التى نال عنها جائزة «دبلن» الأدبية عام 2003، وربما قصد بذلك الإشارة لكونها لونا إبداعيا مغايرا للفن الروائى الذى يؤثره «باموق» بشدة. ولم يخرج عنه إلا فى كتابه التأملى «اسطنبول: الذكريات والمدينة» وهذا الكتاب «ألوان أخرى» الذى لم تكن موضوعاته حين كتابتها معدة لتنشر ضمن كتاب واحد. أيضا ربما آثر الكاتب هذه التسمية ليفلت من تقديم شذراته المحببة على أنها سيرة ذاتية وإن تضمنت الكثير من ملامح السيرة لكنها أيضا لم تكن مكتوبة لهذه الغاية. هى فقط شذرات، لقطات ولحظات ولمحات، وألوان أخرى لحياة وأفكار وهواجس كاتب صار كل ما ينطق به حاليا مثار اهتمام وجدل، خاصة فى بلاده التى تكاثرت فيها المهاجمات والمزايدات عليه بعد إدانته لمقتل آلاف الأكراد والأرمن فيها، ودفاعه عن حقوق هؤلاء. فى كتابه يصطحبنا «أورهان باموق» فى جولة بانورامية حول حياته والعالم فى آن، فيقدم لنا أباه الأديب السرى الذى ينخطف من حياة أسرته للأدب، ويهرب من الأدب للحياة، يرسم لنا ملامح هذا الأب الوسيم المثقف الميسور الحال، المحب لأبنائه وللكون، والذى أثار بعيد موته غيرة ابنه الذى صار أديبا مشهورا عندما فتح حقيبة أوراق والده. ليجد فيها ما يستدعى غيرته منه على نفسه وغيرته من الموت على إبداع والده الدفين، هذا السر نطق به الابن أمام لجنة «نوبل» متمنيا لو كان أبوه بينهم حينها ليرى نتاج تشجيعه له بقوله دائما: «فى يوم ما ستكون باشا!»، دون أن يعرف الأب أن ابنه الأديب الكبير قد عاش بعده بقناعة أن «كل رجل يبدأ موته بموت أبيه». مع أخيه وعبوات العلكة «اللبان» التى تحتوى أغلفتها على صور المشاهير، روى الكاتب منمنمات طفولته الرائقة، وهلعه من تطعيمات المدرسة، وغيرته على فريق كرة القدم الذى يفضله، ونصائح أمه وجدته، وحنو أبيه، ومع ابنته حكى الطفل الذى صار أبا تفاصيل علاقته الرهيفة بابنته «رؤيا»، بوجهها وألعابها وضفائرها، وبحزنها الذى يستدعى على الفور حزنه هو أيضا، يقول: «أتعلمين يا حبيبتى؟ عندما تكونين حزينة هكذا، أكون حزينا أيضا. وكأن هناك غريزة مدفونة فى مكان عميق داخلى فى جسدى، فى روحى حسنا، فى مكان ما: عندما أراك حزينة أصبح حزينا. وكأن داخلى يوجد كمبيوتر يقول: عندما ترى رؤيا حزينة، فاحزن أنت أيضا». وبنفس حميمية علاقته بالشخوص كانت علاقة «أورهان باموق» بالأماكن، بالجغرافيا الحائرة لبلاده المتوسطية، الإسلامية، والمتاخمة لأوروبا، الواقفة على حدود الغرب تخشاه ولا تخفى إعجابها وغيرتها منه، لكنه كان ودونما قصد شرقى أصيل، ليس لأنه ادعى ذلك أو حتى أخفاه، ولكن لأنه كان يشبهنا نحن الشرقيين فى انفعالاته وارتباكاته وهواجسه، وفى حيرته الجغرافية. وحتى فى عقدة التفوق العرقى التى بدت ملامحها فى طفولته حيال الطفل الأمريكى الذى كان يجاور مسكنه، والمقارنات المتواصلة التى عقدها ما بين هيئته وهيئة ذلك الطفل ومابين ألعابه وكراته الزجاجية المستوردة «البلى» ومثيلاتها التى يلعب بها هو مع أخيه، بالإضافة إلى محاولاته الحذرة والدءوبة لاستكشاف أوروبا وأمريكا وكأنها لعبة معقدة زاهية الألوان. على أن انحياز «باموق» الأكبر فى كتابه كان للكتابة نفسها وللجنس الأدبى الروائى تحديدا، فقد اختصها بقسم مستقل من بين الأقسام الستة التى تضمنها كتابه، فتحدث عن كتاب مثل: لورنس ستيرن، ودستويفسكى، وتولستوى، وفيكتور هوجو، وألبير كامو، وتوماس برنار، وماركيز، ويوسا، وحتى سلمان رشدى وآياته الشيطانية المحظورة، كما تحدث عن العديد من الأعمال الأدبية الرائدة كألف ليلة وليلة وعلاقته الملتبسة بها، والتى تراوحت على مدار مراحله العمرية ما بين الكراهية والمحبة والنفور والانبهار. هذا بالإضافة إلى أفكاره عن الكتابة، كتابة الأدب ذاتها والهدف منها، ولمن تكتب ولماذا تكتب، والتى أفاض فى وصفها والحديث عنها فى كلمته الرائعة أمام هيئة جائزة نوبل والتى اختتم به كتابه قائلا: «أنا اكتب لأننى أشعر بحاجة داخلية لأن أكتب. أنا أكتب لأننى لا أستطيع أن أقوم بعمل عادى مثل الناس الآخرين. أنا أكتب لأننى أريد أن أقرأ كتبا مثل تلك التى أكتبها. أنا أكتب لأننى غاضبٌ منكم جميعا، غاضب من الجميع. أنا أكتب لأننى أحب أن أجلس فى غرفة طوال اليوم أكتب. أنا أكتب لأننى لا أستطيع أن أقوم بدور فى الحياة الحقيقية إلا بتغييرها. أنا أكتب لأننى أريد آخرين، كلنا جميعا، العالم كله، أن يعرف أى نوع من الحياة عشناها، ونستمر نعيشها، فى اسطنبول، فى تركيا. أنا أكتب لأننى أحب رائحة الورق والقلم والحبر. أنا أكتب لأننى أومن بالأدب وبفن الرواية، أكثر مما أومن بأى شىء آخر. أنا أكتب لأنها عادة وعاطفة. أنا أكتب لأننى أخشى أن يطوينى النسيان. أنا أكتب لأننى أحب المجد والاهتمام اللذين تجلبهما الكتابة. أنا أكتب لأكون وحدى. ربما أنا أكتب لأننى آمل أن أفهم لماذا أنا غاضب جدا، جدا، منكم جميعا، غاضب جدا. أنا أكتب لأننى أحب أن يقرأنى الآخرون. أنا أكتب لأننى متى بدأت رواية، أو مقالا، أو صفحة أريد أن أنهيها. أنا أكتب لأن الجميع يتوقع منى أن أكتب. أنا أكتب لأن داخلى اعتقادا طفوليا بخلود المكتبات، وبالطريقة التى تجلس بها كتبى على الرف. أنا أكتب لأنه من المثير أن نحول كل ما فى الحياة من جمال وثراء إلى كلمات. أنا أكتب ليس لأروى قصة ولكن لكى أؤلف قصة، أنا أكتب لأننى أرغب فى الهروب من النذير الذى يقول إن هناك مكانا ينبغى أن أذهب إليه، ولكن تماما كما فى الحلم لا يمكننى الوصول إليه. أنا أكتب لأننى لم أستطع أبدا أنا أكون سعيدا. أنا أكتب لأكون سعيدا». يذكر أن «أورهان باموق» ولد بتركيا فى 1952، ودرس العمارة لثلاث سنوات فى جامعة اسطنبول التكنولوجية، قبل أن يتركها ليتفرغ للكتابة. فاز بجائزة نوبل فى الأدب عام 2006. كما فاز بالعديد من الجوائز منها جائزة دبلن الأدبية (IMPAC) عن روايته «اسمى أحمر» عام 2003. وصدر له حتى الآن ثمانى روايات وكتاب مذكرات وتأملات حول مدينته الأثيرة «إسطنبول» وترجمت أعماله لأكثر من خمسين لغة.