«إحنا اللى عقلنا القوطة»، هكذا ارتفع صوت (سيدة) بائعة الخضروات معلنة عن بضاعتها فى سوق الحى الثامن بمدينة نصر. حالة من الهرج والمرج تسود المكان وقت خروج الموظفات من عملهن. حرارة الجو التى تختلط بروائح البضائع المختلفة لم تمنع الكثيرات من خطف ساعة للمشتريات. تحت المظلات المصنوعة من جريد النخل احتشد الباعة والمشترون على حد سواء، كل شىء هنا موجود وبسعر أقل: دواجن، لحوم، أسماك، خبز، خضروات، منظفات... أيضا فى سوق الحى الثامن بمدينة نصر قد تجد سلعا لا تباع خارجه غالبا مثل أجنحة وهياكل الدجاج المحببة لدى الأسر الفقيرة، لأنها تكسب الطعام نكهة دون تكلفة تذكر. هنا وجدت (سيدة) بائعة الخضروات الأربعينية، مكانا مناسبا لها. ورغم أميّة البائعة فيوميّة الأصل، فإنها استطاعت أن تستشعر بذكاء آليات الحياة القاهرية ومتطلباتها، وخلال فترة وجيزة أصبحت من وجوه السوق المألوفة، خلفها تتراص أكوام الكوسة وعيدان الملوخية أو ثمار الباذنجان والبامية «المأمعة» وفصوص الثوم المقشر، وببساطة مفرطة تعقد صفقاتها الخاصة. فعبر هاتفها المحمول تتصل بزبائنها للتعرف على طلباتهم، وكلما طلب أحدهم تسجيل رقم تليفونه تتطلب منه القيام بعملية الحفظ لأنها لا تجيد استخدام المحمول. (سيدة) تقوم بتنظيف الخضروات وتقطيعها مقابل مبلغ إضافى، لذا وضعت لنفسها تسعيرة خاصة تم فيما بعد اعتمادها من قبل الزميلات. «تقوير» كيلو الكوسة بجنيه، كذلك تقشير الباذنجان وتحضيره للقلى، أما «تقميع» البامية فأغلى قليلا لأنه يستلزم وقتا أطول، وعلى هذا يصل سعر «تقميع» الكيلو لثلاثة جنيهات... أما تفصيص كيلو الثوم فثلاثون جنيها. «لأن الفاقد فيه كثير» كما تعلق (سيدة) بنبرة الخبيرة. ومن سوق الحى الثامن إلى شارع الجلاء بوسط المدينة، الصورة لا تتغير كثيرا. هنا تقف أم إسلام بحقيبة يد كبيرة هى بمثابة فاترينة محمولة لما لذ وطاب: كبيبة بالبرغل، فراخ محشوة بالأرز أو الفريك، ورق عنب... تتجول بين المؤسسات المختلفة الموجودة بهذا الشارع الحيوى والتى تضم نساء عاملات قد لا يسعفهن الوقت لطبخ مثل هذه الأصناف، تلتقط زبائنها من المؤسسات الصحفية الموجودة بالشارع والمستشفيات ومجمع المحاكم ومواقف الأتوبيس. الوجبات التى تبيعها مغلفة بورق السوليفان فى أطباق صغيرة تعطى انطباعا «بأنها أكل بيتى مش أكل شارع ونظيف»، على حد تعبير أحد زبائنها الذى يطلب منها أحيانا تحضير الكعك أو العاشوراء فى المواسم. فالطبخ قد يستغرق من السيدة وقتا يتراوح ما بين ست إلى عشر ساعات أسبوعيا على الأقل، لذا فإن الكثيرات يلجأن إلى من يعاونهن فى هذه المهمة كنادية الطاهية المحترفة التى تجوب بيوت النساء العاملات. تتقاضى هذه الأخيرة ما بين 60 إلى 80 جنيها فى اليوم، ولديها أجندة مواعيد وعناوين مشحونة. توضح: «عندما أدخل بيتا للمرة الأولى أدرس الأصناف التى يفضلها أفراد الأسرة وأحاول تقديمها على طريقتى، ثم أتلقى تعليقهم على مذاقها وأستمع لتعليماتهم». نادية تعلمت من خلال عملها مع الكثير من الأسر الراقية عددا من الأطباق الغربية مثل اللازانيا والنجرسكو. تؤكد الباحثة الاجتماعية عزة محمد، أن سوقا جديدة ازدهرت فى ظل تطور المجتمع والحالة الاقتصادية، فهناك مليونان ونصف مليون امرأة تعول أسرها من خلال عملهن. ولأن كثيرات لم ينلن قسطا من التعليم فهن يحاولن استثمار مهارتهن التقليدية من أجل كسب العيش، وهو ما يبرر أن هذه السوق الجديدة تقوم أساسا على خبرة الفلاحات النازحات للمدينة أو القاهريات الفقيرات. ومن ناحيتها توضح الباحثة الاجتماعية هدى رشدى، أن بعض المتزوجات حديثا يجهلن فنون الطبخ، فثقافة الطهى تكاد تكون منعدمة لدى البعض ممن يتعالين على أشغال وإدارة المنزل. وأمام غزو المأكولات الوجبات الجاهزة والسريعة، أصبحت هناك بعض الأطباق المصرية مهددة بالانقراض، وهى تلك التى تحتاج « دبكة وشغلانة» لتجهيزها. فطبق الممبار قد يستغرق تنظيفه وتحضيره أكثر من ثلاث ساعات، لذا تقدمه الحاجة ثومة لزميلاتها من رواد المسجد بسعر معقول. واستفادت فى ذلك من ثقة الأهل والجيران وزميلات المسجد لكى تكتسب أرضية واسعة. تقول: «الجميع جربوا بالفعل أكلى وعارفين أننى أطهو ببراعة، لا أستخسر فى زبائنى أى شىء وأضع التوابل التى أحضرها بنفسى». ورغم أنها من سكان منطقة عين شمس فإنها نجحت فى استقطاب زبائن من المهندسين وذاع صيت «أصابع الكفتة الجملى التى تحمرها» و«الفطير المشلتت» الذى تخبزه فى فرنها المنزلى، كما تحضر من مسقط رأسها «كفر زيتون» بعض مستلزمات الأطباق الريفية لتقديمها للقاهريين.