حكاية المرأة المصرية مع ثورة 1919 تدعو للانبهار إذا ما وضعناها فى سياقها التاريخى والاجتماعى ووضع المرأة فى بلدان الشرق قاطبة خلال تلك الفترة المبكرة من القرن العشرين.. حيث كانت رهينة «الحرملك» أو حبيسة بيتها، لكن المرأة المصرية نفضت غبار تلك التقاليد البالية، ولما دعا داعى الجهاد، هبت فى مقدمة الصفوف للمطالبة باستقلال وطنها.. كتفا بكتف بجوار الرجل، واستشهدت وجرحت على الخطوط الأمامية للثورة.. هكذا يقول الكاتب الصحفى خالد ابوبكر فى هذا الفصل من كتابه «رمضان والثورة» الصادر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. قبل أن نخوض فى استعراض ما طرح للنقاش العام فى شأن المرأة المصرية خلال شهر رمضان الأول بعد قيام ثورة 1919، نتوقف فى استعراض لدور المرأة فى هذه الثورة المجيدة. وفى ذلك يقول المؤرخ عبدالرحمن الرافعى: «شاركت المرأة المصرية الرجال فى ثورة 1919، وأعلنت عن مساهمتها فيها بمختلف الوسائل، وكان أول مظهر رائع لهذه المساهمة تلك المظاهرة الكبرى التى قام بها السيدات والآنسات يوم 16 مارس 1919، وكان الغرض منها الاحتجاج على ما أصاب الأبرياء من القتل والتنكيل فى المظاهرات السابقة. خرجت المتظاهرات فى حشمة ووقار، وعددهن يربو على ال300 من كرام العائلات (...) سارت السيدات فى صفين منتظمين، وجميعهن يحمل أعلاما صغيرة.. وطفن الشوارع الرئيسية فى موكب كبير، هاتفات بحياة الحرية والاستقلال وسقوط الحماية، فلفت موكبهن أنظار الجماهير، وأذكى فى النفوس روح الحماسة والإعجاب، وقوبلن فى كل مكان بتصفيق الناس وهتافهم، وأخذ النساء من نوافذ المنازل وشرفاتها، يقابلنهن بالهتاف والزغاريد.. وخرج أكثر أهل القاهرة رجالا ونساء لمشاهدة هذا الموكب البهيج. ومرت المتظاهرات بدور القنصليات ومعتمدى الدول لتقديم الاحتجاج المكتوب، ولكن الجنود الانجليز لم يدعوا هذا الموكب البريء يسير فى طريقه، فحينما وصلت المتظاهرات إلى شارع سعد زغلول يردن الوصول إلى «بيت الأمة» ضربوا نطاقا حولهن، ومنعوهن من السير، وسددوا إليهن بنادقهم وحرابهم مهددين، وبقيت السيدات هكذا مدة ساعتين تحت وهج الشمس المحرقة، فلم يرهبهن التهديد، بل تقدمت واحدة منهن وهى تحمل العلم إلى جندى كان قد وجه بندقيته إليها ومن معها، وقالت له بالإنجليزية: «نحن لا نهاب الموت، أطلق بندقيتك إلى صدرى لتجعلوا فى مصر (مس كافل) جديدة»، ومس كافل هى الممرضة الإنجليزية المشهورة التى أسرها الألمان فى الحرب العظمى الأولى، وأعدموها رميا بالرصاص، وكان لمقتلها ضجة كبيرة فى العالم.. فخجل الجندى.. وتنحى للسيدات عن الطريق». لم تمض أربع أيام على هذه المظاهرة، وتكررت فى 20 مارس، حيث تجمع النساء فى جاردن سيتى، وسرن رافعات الأعلام المكتوب عليها باللغتين العربية والفرنسية عبارات الاحتجاج على سفك الدماء وقتل الأبرياء وطلب الاستقلال التام. وواصلن سيرهن إلى بيت الأمة (بيت سعد زغلول) وهن يهتفن باسم مصر وسعد. وعلى الفور ضرب البوليس والجنود الإنجليز الحصار حولهن لمدة ساعتين وحينئذ أرسلن احتجاجهن إلى قناصل الدول، وسرعان ما حضر القنصل الأمريكى وتوسط فى فك الحصار عنهن. وما يذكر أن الفنانات شاركن فى المظاهرات مثل روزاليوسف ومارى إبراهيم. وتتابعت المظاهرات، وفى أثنائها سقطت الشهيدات: حميدة خليل، عائشة عمر، سيدة حسن، شفيقة محمد، فهيمة رياض، نعيمة عبدالحميد، وهن من القاهرة برصاص الجنود البريطانيين. وكانت مظاهرة 10 أبريل التى استشهدت فيها شفيقة محمد قد شاركت فيها نساء مصر بمختلف طبقاتهن، تلك التى سارت إلى قصر الدوبارة مقر المندوب السامى البريطانى، مطالبة مقابلته، لتقديم الاحتجاج على ما يجرى على أرض مصر، ولكن المظاهرة حوصرت بالبنادق، ووقتئذ تقدمت شفيقة محمد حاملة علم مصر فى يد والاحتجاج فى اليد الأخرى، وتمكنت من الوصول إلى مكتب المندوب السامى، ودار الحوار بينها وبين المسئول الإنجليزى وكان مستفزا معها، وأجابته على أسئلته بشجاعة فائقة وتحد بالغ، مبينة الأعمال الوحشية التى يقدم عليها جند بلاده، لا لشيء سوى لأن مصر تطالب بالحرية والاستقلال. وفاضت فى حديثها عن المظاهرات السلمية بسبب منع الزعماء المصريين من السفر لعرض القضية المصرية على مؤتمر السلام (فى فرساى بباريس)، وأن مصر مثلها مثل باقى الدول المتعطشة للحرية، وذلك تحقيقا لمبادئ الرئيس الأمريكى ولسن، وأعلنت أن المرأة المصرية تحتج بشدة على اعتقال الزعماء ونفيهم إلى مالطة. فرد عليها المسئول البريطانى وحذرها من هذا العمل الذى تقوم به المرأة، فتحدته وأفهمته أنها لن تتوقف بل ستواصل مع زميلاتها هذا العمل الوطنى، وتركته وخرجت غاضبة، وبمجرد خروجها أطلق عليها الرصاص، وفى الحال ارتفعت أصوات المتظاهرات ينعين تلك الشهيدة بكلمات حزينة مؤثرة، وقد انضم جثمانها إلى جنازة الشهداء المهيبة. وفى 18 نوفمبر انطلقت مظاهرة نسائية من ميدان الحلمية الجديدة، حيث طافت فى شوارع القاهرة هاتفة بالحرية والاستقلال وحياة الوفد. وكان للمرأة السكندرية مساهمة فى المظاهرات، ففى 14 أبريل 1919 خرجت الطالبات يهتفن بالحرية والاستقلال، وهن يطفن شوارع المدينة منددين برصاص المعتدين الذى حصد الشباب. وفى 18 نوفمبر 1919 انضمت تلميذات إحدى المدارس إلى مظاهرة المنشية، وعندما تصدت مدرعة إنجليزية للمظاهرة أفزعتهن، فأدخلهن مأمور دائرة الأمير يوسف كمال إلى منزله. وكان قد استشهد فى المظاهرات فهيمة دهمان، ونعيمة بنت على. كما وقعت شهيدات على إثر المظاهرات ومواجهة الإنجليز لها فى الوجه البحرى وهن: رقية أحمد متولى، حنيفة أم عجوة، أم محمد بنت جاد، يمن بنت صبيح، ومن الفيوم: حميدة سليمان، فاطمة محمود، نعمات محمد. وفى الصعيد حدثت اعتداءات من عساكر الإنجليز على عفاف النساء اللائى تحملن الضرب والإهانة والتفتيش، الذى بلغ هتك أعراضهن، وكان من يدافع عن زوجته يلقى حتفه فى الحال. وفى يوم الاثنين 24 مارس، أغارت طائرتان بريطانيتان بقنابلهما على مدينة أسيوط فاستشهد العشرات، وفى ذلك الهجوم فقد المحامى الشرعى عبدالله الشامى ابنته «فائقة» التى استشهدت يوم 10 أبريل 1919، وشيعت جنازتها مع شهداء يوم 11 أبريل. وفى يوم 12 أبريل اشتركت نساء القاهرة فى تشييع شهدائها من الرجال، وتحمس الرجال لهذا المنظر المؤثر وهتفوا بسقوط الاستعمار؛ فأطلق جنوده الرصاص على أهالى القاهرة، وسقطت شهيدات مع من سقط من الرجال، ومن هؤلاء الشهيدات «حميدة خليل» من حى الجمالية، و«سيدة حسن» من حى عابدين. هكذا تعرضت المرأة للتنكيل بها شأنها شأن الرجل، حيث سالت دماؤها لأجل وطنها، كذلك فإنها عاونت الرجل فى شكل آخر من أشكال محاربة الإنجليز أثناء الثورة، فقامت بتقطيع الأسلاك البرقية، وإتلاف قضبان السكك الحديدية، وشاركت فى الهجمات التى استهدفت تخليص المعتقلين فى السجون.