كشفت المواجهة الأخيرة بين جيش الاحتلال الإسرائيلي، وحركة حماس عن معادلات وموازنات قوة جديدة على الأرض، من خلال رغبة كلا الطرفين في تجنب تصعيد الصدام، ورغبتهما في سرعة وقف إطلاق النار على عكس كافة المواجهات السابقة. فما بين حافلة كانت في مرمى نيران عناصر كتائب القسام الذراع العسكري لحماس، وهي ممتلئة عن آخرها بجنود جيش الاحتلال الإسرائيلي قبل أن يفضل مقاتلي القسام تدميرها بعد نزول آخر جندي منها، ومبنى فضائية الأقصى الناطقة باسم الحركة الذي اختارت إسرائيل تدميره بعد إخطار من فيه لإخلائه، تتضح جلية المعادلات الجديدة في ساحة المعركة بين الجانبين. حماس ولأول مرة وبتناغم كبير بين قياداتها السياسية التي تميل إلى معادلات السياسة، تتوافق وتتناغم مع قيادات الجناح العسكري كتائب القسام "الصقور" الذين طالما راجعوا الكثير من القرارات المتعلقة بالتهدئة مع المكتب السياسي، على هدف أكبر بالنسبة لها، وهو ضرورة عدم إشعال مواجهة شاملة جديدة خاصة بعدما انقضت الأسباب العملية والنظرية إلى جر القطاع إلى اللجوء ل "فقه المحنة" لصرف أهالي القطاع عن مطالبة قيادة الحركة باعتبارها المسئول الأول عن إدارته بتحسين الأوضاع المعيشية في ظل حصار خانق استمر لأكثر من 12 عاما تخللته ثلاث حروب. السبب الأساسي لذلك هو توصل حماس وإسرائيل لاتفاق تهدئة أو هدنة طويلة بوساطة مصرية قبل إندلاع المواجهات بأيام قليلة، تقود إلى تخفيف الحصار عن القطاع، وتحسين الأوضاع المعيشية لسكانه عبر السماح بدخول المساعدات والوقود، وفتح معبر رفح بصورة شبه منتظمة. كلا الطرفين تشبث بذلك الاتفاق، بعدما وجدا نفسيهما مضطرين للدخول في معركة أقرب إلى "الشكلية" لإرضاء الشارع السياسي في كل من غزة والكيان الإسرائيلي، بعد فشل العملية النوعية التي قامت بها قوة استخبارتية إسرائيلية خاص في شرق القطاع وبالتحديد في مدينة خان يونس وأسفرت على من استشهاد 7 من كتائب القسام تقدمهم القيادي الميداني بالكتائب نورالدين بركة فيما تمكنت المقاومة من قتل ضابط إسرائيل برتبة مقدم، وإصابة أخر بإصابات خطيرة قبل أن يضطر جيش الاحتلال لقصف المنطقة بالكامل لتغطية انسحاب المجموعة. حماس لأول مرة توجه ترسانة صواريخها صوب الأراضي المحتلة وتتمنى ألا توقع قتلى أو تصيب أهداف حيوية، مع إيصال رسائل في نفس الوقت عن قدرتها على الدخول في مواجهة إذا اقتصت الحاجة. ظهر ذلك بوضوح في عملية قصف حافلة الجنود الإسرائيليين بالقرب من السياج الفاصل بين غزة وإسرائيل فيما عرف بعملية "الباص "، فمقاطع الفيديو التي سربتها ونشرتها حماس بنفسها توضح انتظار المنفذين نزول آخر جندي إسرائيلي من الحافلة ، ثم إصابتها بشكل مباشر وهي فارغة تماما، على الرغم من أن "الباص" كان في مرمى نيران عناصر حماس وهو بكامل حمولته من جنود الاحتلال. إلا أن حماس تدرك جيدا حجم الضريبة التي ستدفعها ويدفعها القطاع بالتبعية حال سقوط عدد بين 40 و50 جندي كانوا يستقلون "الباص"، وهي تدرك جيدا أنه في تلك الحالة فلا عودة مطلقا إلى موائد المفاوضات غير المباشرة مع الاحتلال، فوقتها ستكون حكومة اليمين الإسرائيلي مطالبة سياسيا أمام ناخبيها بضرورة سحق غزة، خاصة وأن الرأي العام الإسرائيلي برمته يضغط على الحكومة لاسترداد رفات إثنين من الجنود سقطا خلال الحرب الأخيرة، إضافة إلى اثنين آخرين أسرى أحياء لدى "حماس" . الأمر أكده قيادي بارز بالمكتب السياسي للحركة، شدد على أن حماس كان بإمكانها الوصول عبر صواريخها إلى تل أبيب هذه المرة، ولكن الأمر كان متوقفا على معطيات جديدة، قائلا "منذ البداية أبدينا مرونة مع الجهود المصرية لوقف إطلاق النار، وكنا حريصين على تأكيد ذلك على أرض المعركة ،من خلال حجم النيران ومداها". واستطرد "لم نكن نسعى لمواجهة وكانت ردود الحركة خلال ال48 ساعة هدفها الأساسي وقف العدوان وليس التمهيد لمعركة شاملة ". نتنياهو هو الآخر وجد نفسه راضخا لمعادلات الواقع الجديد، فهو لا يريد الدخول في معركة مفتوحة مجددا يدرك من خلال تقارير استخبارتية أنها لن تكون سهلة في ضوء حجم ترسانة الصواريخ التي باتت في يد المقاومة ومداها، وفي نفس الوقت لا يرغب في الدخول إلى مواجهة برية في القطاع الذي اضطرت إسرائيل لمغادرته عام 2005 نظرا لفداحة الكلفة السياسية والعسكرية التي كانت تتحملها وقتها، إضافة إلى أسباب انتخابية أخرى، فاكتفى هذه المرة بضربات "إعلامية" أكثر منها ذات طابع استراتيجي أو عسكري. وخير دليل على ذلك ما كشف عنه مقدم البرامج بقناة الأقصى التابعة لحركة حماس سليم الشرفا، والذي أكد تلقيه اتصال وصفه ب"المجهول" في الثامنة من مساء الإثنين الماضي، يخبره فيه المتصل بأنه ضابط في الاستخبارات الإسرائيلية ويطلب إخلاء مبنى الفضائية سريعا لأن جيش الاحتلال سيقصفه بعد 10 دقائق. على الفور نقل الشرفا الرسالة لزملائه ليتم إخلاء المبنى بالكامل في دقائق معدودة، بعدها لم يدمر جيش الاحتلال المبنى على الفور بل أطلق 4 مقذوفات تحذيرية ليتأكد تماما من خلو المبنى الذي تم نسفه بعد ذلك. انتهت المواجهة هذه المرة بعد نحو 48 ساعة من اندلاعها، مؤكدة فرض معادلات جديدة على ساحة المعركة بين الجانبين.