افتتاح معرض ختام الأنشطة بإدارة رشيد التعليمية في البحيرة    بعد الإعلان عن انتهائها غدًا، مبادرة سيارات المصريين تثير الجدل وتفتح باب التساؤلات    بقيمة 436 مليون جنيه، اقتصادية النواب توافق على موازنة مصلحة دمغ المصوغات    روسيا تستولي على دبابة أمريكية من القوات الأوكرانية خلال الحرب    شكري وبوريل يتفقان على تبادل التقييمات مع الأطراف الدولية لإنهاء مأساة غزة    الاتحاد الأوروبي: بوادر الحرب العالمية عادت من جديد، والمواجهة النووية احتمال واقعي    قبل مواجهة دريمز .. الزمالك يوفر تذاكر مجانية للجالية المصرية فى غانا    مصرع طفل دهسته سيارة بالأقصر    ضبط كيان تعليمي وهمي لمنح شهادات دراسية مزورة فى سوهاج    الإعدام لعامل قتل شابا من ذوي الاحتياجات الخاصة بواسطة كمبروسر هواء    مهندس الديكور أحمد فايز: أعشق الأفلام القصيرة واعتبرها تفكير خارج الصندوق    أخبار الفن.. ميار الببلاوى فى مرمى الاتهام بالزنا وعبير الشرقاوى تدافع عنها.. الكينج وشريف منير يكذبان حسن شاكوش    رئيس جامعة بنى سويف الأهلية يناقش الخطة المستقبلية للعام المقبل    الأولى منذ الحرب.. وصول وزير الخارجية البحريني في زيارة إلى دمشق    وزير الخارجية يلتقي الممثل الأعلى للشئون الخارجية للاتحاد الأوروبي    100 ألف دولار سنويًّا.. كيفية الالتحاق بتخصصات البرمجة التي تحدث عنها السيسي    "يتم التجهيز".. الأهلي يكشف ل مصراوي موعد حفل تأبين العامري فاروق    إنتر يواصل احتفالاته بلقب الدوري الإيطالي بثنائية أمام تورينو    حسام غالي يكشف مفاجأة لأول مرة عن لاعبي الأهلي أثناء توقف النشاط الرياضي    ألمانيا: دويتشه بان تعتزم استثمار أكثر من 16 مليار يورو في شبكتها هذا العام    استعدادا لشم النسيم.. الزراعة: طرح رنجة وفسيج بالمنافذ بتخفيضات تتراوح بين 20 و30%    رئيس هيئة الدواء يبحث سبل التعاون لتوفير برامج تدريبية في بريطانيا    تأجيل محاكمة المتهمين في عملية استبدال أحد أحراز قضية    مؤتمر بغداد للمياه.. سويلم: تحركات إثيوبيا الأحادية خرق للقانون الدولي وخطر وجودي على المصريين    وزير العمل يعلن موعد إجازة عيد العمال وشم النسيم للعاملين بالقطاع الخاص    طلقها 11 مرة وحبسته.. من هو زوج ميار الببلاوي؟    الزنك وزيت بذور القرع يسهمان في تخفيف أعراض الاكتئاب    أستاذ جهاز هضمي: الدولة قامت بصناعة وتوفير علاج فيروس سي محليا (فيديو)    تفاصيل لقاء هيئة مكتب نقابة الأطباء ووفد منظمة الصحة العالمية    موعد مباريات اليوم الثالث بطولة إفريقيا للكرة الطائرة للسيدات    خبير: مؤشرات البورصة تستمر في نزيف الخسائر لهذه الأسباب    انطلاق المراجعات النهائية لطلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية بمطروح    الرئيس السيسي: «متلومنيش أنا بس.. أنا برضوا ألومكم معايا»    فيلم «أسود ملون» ل بيومي فؤاد يحقق المركز الرابع في شباك التذاكر    بحضور محافظ مطروح.. «قصور الثقافة» تختتم ملتقى «أهل مصر» للفتيات والمرأة بالمحافظات الحدودية    زعيم المعارضة الإسرائيلية: حكومة نتنياهو في حالة اضطراب كامل وليس لديها رؤية    سفير روسيا بمصر للقاهرة الإخبارية : علاقات موسكو والقاهرة باتت أكثر تميزا فى عهد الرئيس السيسى    مدير تعليم الدقهلية يناقش استعدادات امتحانات الفصل الدراسي الثاني    «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية في قرية جبل الطير بسمالوط غدا    الأرصاد الجوية تعلن حالة الطقس المتوقعة اليوم وحتى الجمعة 3 مايو 2024    أجمل دعاء للوالدين بطول العمر والصحة والعافية    أعاني التقطيع في الصلاة ولا أعرف كم عليا لأقضيه فما الحكم؟.. اجبرها بهذا الأمر    تأجيل محاكمة 11 متهمًا بنشر أخبار كاذبة في قضية «طالبة العريش» ل 4 مايو    اعرف مواعيد قطارات الإسكندرية اليوم الأحد 28 أبريل 2024    تفاصيل مشاركة رئيس الوزراء في المنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض    اليويفا يكشف النقاب عن حكم مباراة ريال مدريد وبايرن ميونخ في ذهاب نصف نهائي تشامبيونزليج    أول تعليق من مها الصغير على أنباء طلاقها من أحمد السقا    إدارة الأهلي تتعجل الحصول على تكاليف إصابة محمد الشناوي وإمام عاشور من «فيفا»    جامعة بني سويف: انطلاق فعاليات البرنامج التدريبي للتطعيمات والأمصال للقيادات التمريضية بمستشفيات المحافظة    ضبط 4.5 طن فسيخ وملوحة مجهولة المصدر بالقليوبية    مطران دشنا يترأس قداس أحد الشعانين (صور)    ما هي شروط الاستطاعة في الحج للرجال؟.. "الإفتاء" تُجيب    «فوبيا» تمنع نجيب محفوظ من استلام «نوبل»    خلال افتتاح مؤتمر كلية الشريعة والقانون بالقاهرة.. نائب رئيس جامعة الأزهر: الإسلام حرم قتل الأطفال والنساء والشيوخ    غدًا.. تطوير أسطول النقل البحري وصناعة السفن على مائدة لجان الشيوخ    تقييم صلاح أمام وست هام من الصحف الإنجليزية    سعر الدولار الأحد 28 أبريل 2024 في البنوك    تصفح هذه المواقع آثم.. أول تعليق من الأزهر على جريمة الDark Web    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مذكرات أول رئيس لوزراء مصر (2 3) : دي ليسبس كان يبحث عن المال فقط وتأسيس قناة السويس لم يكن قانونيًا
نشر في الشروق الجديد يوم 22 - 09 - 2009

فى الحلقة الأولى لمذكرات نوبار باشا، أول رئيس لوزراء مصر، عرضنا ما يخص محمد على وإبراهيم باشا، وقد مدح نوبار محمد على، بقوله: إن ذكراه خالدة ومقدسة متساوية بذلك فى وجدان الناس بذكرى الأولياء الصالحين، ولخص رأيه فى إبراهيم بأنه مثال الرزانة والانسجام فى الملكات والقدرات، وبتعبير أقوى وأدق: كان إبراهيم يصل إلى حدود العبقرية، حسب رأى نوبار باشا.
واليوم، نعرض الحلقة الثانية التى تدور حول عباس وسعيد، على أن نقدم فى الحلقة الثالثة والأخيرة مذكرات نوبار باشا عن الخديو إسماعيل مع طرح سؤال مهم جاء فى الدراسة التى سبقت المذكرات: هل كان نوبار ذلك الرجل الذى أحب مصر وكان يعمل على مصلحتها؟، وهل هذه الصورة الوردية عنه التى رسمتها مذكراته قد اسُتخدمت فيها اللمسات الناعمة؟
بدأ نوبار باشا قسمه الثانى بالحديث عن عباس، ولكن قبل أن نعرف رأى نوبار فى عباس أقتطف رأى الدكتورة لطيفة سالم المذكور ضمن دراستها عن المذكرات، حيث تقول: «ومنذ البداية، فإنه يمكن الحكم على صاحب المذكرات من خلال ذلك الخط الذى التزم به فى أسلوب تعامله مع الولاة بما ينم عن فطنة ملحوظة؛ فهو يعى تماما متى يكون قريبا ومتى يبعد، وكيف يكتسب ثقة المتضادين، وقد جرى العرف على أن الحاكم الشرقى غالبا ما يستغنى عن مجموعة العاملين مع سلفه، وخصوصا إذا كان العداء يجمعه به؛ وهذا ما حدث مع عباس الأول «1848-1854». ولكن الأمر اختلف مع نوبار الذى تمكن من إبهار هذا الوالى برغم يقينه من أنه رجل عمه». وتضيف: «ومما يُسجل أن نوبار من القليلين الذين سجلوا إيجابيات هذا الوالى».
الوالى المنعزل
ونجىء لمذكرات نوبار التى تشمل 675 صفحة فضلا عن أكثر من 60 صفحة تحتوى على دراسات وملاحظات وملاحق للمذكرات عن عباس ثم نختتم الحلقة بمذاكرته عن سعيد. بدأ نوبار قائلا: «بعد عدة أيام من وفاة إبراهيم عاد عباس من مكة، فى يوم الوفاة اجتمع كبار موظفى الدولة فى حجرتى وكلفوا مارى بك «Marie» قارع الطبول فى الجيش الفرنسى سابقا وأصبح فيما بعد قائمقام فى أثناء حروب الحجاز بأن يحمل إليه الخبر. رحل عباس من مكة فى الحال بينما تضاربت الآراء حوله فى مصر. كان الأوروبيون يعتبرونه رجلا متعصبا ورجعيا، وأستطيع القول بأن المصطلحين اليوم كما فى ذلك الحين معناهما واحد عند الأوروبيين. أما فى أوساط الموظفين فكان خليفة إبراهيم بالنسبة لهم شخصا لا يجيد فن التعامل مع الأزمات، وشبهوه بشخص لا يعرف كيف يتراجع فى الوقت المناسب عن ارتكاب جريمة.
وقد كانوا يعرفون أنه ينهمك جدا فى الأمور الإدارية، لكنه يحب العزلة ولا يشعر بالسرور إلا فى محيط أسرته. كان معروفا بين الكبار بأنه كسول. ولذلك كانوا يجدون صعوبة فى التأقلم مع فكرة أنه أصبح سيدا عليهم بعد أن عرفوه طفلا ثم مراهقا.
ويحلل نوبار الموقف، إذ رأى أنه فى ظل هذه الظروف كان من الطبيعى أن تصبح فكرة الطاعة العمياء فى نظرهم على الأقل غريبة. ويضيف فى هذه النقطة قائلا: «إنى مقتنع بأنهم إذا وجدوا من بينهم رجلا أو رجلين من ذوى الشخصية الذين لديهم القدرة على أخذ المبادرة فإنى مقتنع بأنهم سوف يحاولون السيطرة على الوالى الجديد أو توجيه وإيجاد قوة تكون بمثابة رد فعل لقوة السلطة المطلقة التى يتمتع بها الحاكم. لكنهم كانوا جميعا من حيث القدرة على اتخاذ المبادرة وقوة الشخصية أصفارا وعاجزين تماما. لكن، هل يمكن أن يكون الوضع غير ذلك؟ ففى خلال فترة عملهم الطويلة: هل كان لديهم فكرة واحدة عبروا بها عن شخصيتهم؟ ألم يظلوا دائما الأدوات القادرة فقط، إلى حد ما، على تنفيذ وأداء مهام الوظيفة؟ دائما منكسرون فى يدى سيد كان يفكر ويتصرف بالنيابة عنهم؟».
والسؤال الذى يطرح نفسه بعد قراءة تلك الفقرة من المذكرات: وهل كان نوبار باشا مختلفا عن هؤلاء غير القادرين أن يعبروا عن شخصيتهم؟ الإجابة تجىء على لسان الدكتورة لطيفة سالم التى أكدت أنه كان لوجود نوبار بالمعية أهمية بالغة، بالإضافة إلى شخصيته القوية، إذ تمتع بقدرة فائقة فى الإصرار على قضية يكون متحمسا لها، لا يتراجع إلا نادرا وأمام ظروف صعبة، حيث إن التصميم من صفاته. وتوضح أن ذلك كان قاسما مشتركا فى مشروعات كبيرة نفذت فى مصر مثل مشروع سكة الحديد الذى أيده وشجع عباس الأول على قبوله. وتدلل د. لطيفة على كلامها فتقول: «وفى عهد الأخير أى عباس الأول صعد نجم نوبار فى سماء العلاقات الخارجية سواء مع الدولة العثمانية صاحبة الموقف المضاد من الأرمن، أو الدول الأوروبية وبخاصة بريطانيا. وعندما اختلف مع الوالى انسحب من خدمته، وكان ذلك فى حد ذاته تحديا كبيرا منه، لأن الجميع يعتبرون أنفسهم «عبيد أفندينا».. ومع هذا فقد استدعاه عباس وولاه مركزا وكيلا فى فيينا».
مؤامرة على الوالى
ونرجع مرة أخرى إلى المذكرات ونقول: لعل طرح نوبار الواضح فى المذكرات لمن هم حول عباس جعل الوالى مقتنعا بوجود مؤامرة، أو على الأقل اتفاق فيما بين كبار رجال الدولة على وضعه تحت السيطرة. وعن هذه المؤامرة يقول نوبار: «وفى رأيى الشخصى لم أصدق مثل هذا الكلام. من الممكن أنهم تبادلوا الآراء والمخاوف أو الآمال.. هذا ممكن، وفكروا فى تطبيق نظام للأمور مشابه لما هو قائم فى القسطنطينية، حيث كانت السلطة المطلقة للسلطان لا تمنع من مناقشة كل أمور الدولة واتخاذ القرار بشأنها من خلال الباب العالى. أستطيع أن أتقبل مثل هذا التفكير والتحليل للأمور لكن مع التحفظ على أن هذه الأفكار ظلت فى مرحلة التكون. وباختصار: أنا مقتنع بأنه من جانبهم كانت هناك نية للاستقلال، لكن وبسبب شخصياتهم الضعيفة فإنى أرفض تماما أن أصدق بوجود خطة حقيقية أو مؤامرة تم إيقافها».
ويزيد نوبار فى شرح تلك النقطة ويوضح أن عباس كان بطبيعته لا يثق بأحد، شكاكا بطبعه، متسائلا: «ومنْ لم يكن هكذا؟! ألم يكن إبراهيم يعيش على الشك دائما وأبدا؟ ألم يظل محمد على نفسه الذى سيطر على الجميع بذكائه أسير هذا الإحساس لآخر يوم فى حياته؟ وهل كان يستطيع حتى وهو فى حالة نصف الجنون التى كانت تنتابه البقاء ولو للحظة دون سيفه وحاجبه؟!».
ويبدو أن ذاكرة نوبار باشا كانت قوية وشبابية بشأن كل ما يخص ميول وأفكار وتحركات عباس إذ يصف ميوله قائلا: «بالإضافة إلى هذا الاتجاه الفطرى والطبيعى للشك كانت ميول عباس إلى التسلط عظيمة إلى أقصى حد، ولديه إحساس غريزى يلزمه بالارتباط برجاله المقربين الذين اعتبرهم كذلك من ذويه.. هكذا يمكننا أن نتبين وبكل سهولة أن زمن استخدام العنف بشكل جلى وواضح قد ولى، لكن مع الأخذ فى الحسبان رغبة عباس المطلقة فى إبعاد رجال الحكم السابق عن البلاد مهما كان الثمن».
أمران فى تحول مصر
ويشير نوبار إلى أنه فى الوقت الذى كوّن فيه الأوروبيون آراءهم من ناحية ومشاعر كبار رجال الدولة من ناحية أخرى تجاه عباس، حدث أمران كان لهما الأثر فى تحول مصر: الأول وهو إنشاء خط السكك الحديدية، والثانى هو توزيع الأراضى على الفلاحين، تلك الأراضى التى هجروها لسبب أو لآخر أو تم ترحيلهم منها لإقامة إقطاعيات يملكها رجال الدولة.
ثم تحدث نوبار فى مذكراته عن أمر لا يقل أهمية عن الأمرين اللذين كان لهما الأثر فى تحول مصر، وهو موضوع الاتصالات بين أوروبا والشرق، حيث لا أحد يجهل كما يقول نوبار باشا أنه إلى عام 1834 كانت الاتصالات بين أوروبا والشرق الأقصى تتم عن طريق رأس الرجاء الصالح فقط، وفى هذه الفترة قام النقيب واجهون وهو أحد الضباط العاملين فى جيش الهند بقطع المسافة ما بين السويس والإسكندرية عدة مرات بالمراكب وعلى ظهر الجمال، كما سافر بين عدن والسويس على متن السفن العربية فى البحر الأحمر واقتنع بضرور تأسيس خدمة بريدية عبر مصر تضمن الاتصال المباشر بين بريطانيا والهند.
وكانت النتيجة قيام شركة إنجليزية باسم شركة «بينينسولير» التى أنشأت خطا ملاحيا بين ميناءى ساوثها مبون الإنجليزية والإسكندرية بالتنسيق مع سفن تقوم بالرحلة ما بين السويس وبومباى. وقد كانت لهذه الشركة الفضل فى عودة التجارة إلى الطريق القديمة المستخدمة منذ عهد البطالمة والرومان.
الخوف من السكك الحديدية
وعن السكك الحديدية يذكر نوبار أن أوروبا فى عام 1849 قد أصيبت بحمى السكك الحديدية. وكان من الطبيعى إذن لتسهيل نقل البضائع عن طريق مصر أن تنشأ فكرة الربط بين السويس والإسكندرية عن طريق خط سكك حديدية وتتبلور فى عقول البعض. أما لبقية الأحداث، فلم تكن الفكرة جديدة. ففى أواخر عهد محمد على كان قد بدأ بالفعل الحديث بقوة عن مشروع للسكك الحديدية، بل أيضا كان الكلام قد بدأ عن قناة السويس. ويشرح نوبار أكثر أنه تذكر بهذا الخصوص أن مديرى الشركة الشرقية تقدموا بعد استشارة محمد على أو بعد تفاهم فيما بينهم: بمذكرة تولى نوبار ترجمتها كانت عن قناة السويس والمزايا المنتظرة عند افتتاحها التى تعود على التجارة بين أوروبا والشرق الأقصى، ويوضح: «لكن بعد ذلك قالوا لى، بل وقرأت فى مكان ما أن محمد على رفض فكرة القناة، لأنها ستكون مصدرا للخطر على أمن مصر وبقائها.
ويكمل نوبار: «وفى أثناء إقامتنا فى القسطنطينية مع عباس عام 1848 اتجهت النوايا إلى تأسيس خط للسكك الحديدية فى مصر، وكانت هذه إحدى النقاط التى أصبحت موضوع مشاورات بين رئيس وزراء تركيا وعباس. وحذر الصدر الأعظم عباس من أى تفكير فى خط حديدى. وأجهل بناء على أى استنتاج توصل الصدر الأعظم إلى أن أن وجود سكك الحديد معناه تسليم مصر إلى الاحتلال البريطانى.
أستطيع أن أفهم تحذير رشيد باشا له من إنشاء السكك الحديدية؛ لأنه كان يرى أن نمو حجم الترانزيت والعلاقات المصرية الأوروبية هى بداية لدخول أفكار جديدة إلى البلاد.. من ناحية أخرى فهى مجال لتدخل القوى العظمى فى شئون تركيا وهو التدخل الذى ازداد يوما بعد يوم بعد حروب محمد على وإعلان خط كلخانة فبدأ يُخيف الباب العالى بشكل جدى. كان رشيد إذن يمكن أن يكون على حق لأن أفكار ومعتقداته الإسلامية حول العزلة عن الغرب تجعله بالتأكيد على حق فى مثل هذا التفكير.
ثم يتطرق نوبار إلى تلخيص الموقف عند رحيله من القسطنطينية كالتالى: تقارب بين عباس والوزراء الأتراك مهد ليكونوا وسيلته للتخلص من أى شخص يُسبب له المتاعب. كانت الفكرة التى تدور فى ذهن عباس هى استغلال هذا التقارب ستارا يتخلص من ورائه من أشخاص آخرين غير سامى باشا ومن كل الذين كان يعتقد عداءهم سواء كان محقا أو مخطئا. وضع عباس داخل هذا التصنيف أعضاء عائلته الخاصة لا سيما من لا يُظهر منهم فروض الولاء والطاعة بشكل كامل كما كان يفعل مماليكه «الخاصة»، فى حين لم يكن هذا موقفه من أسرته هو.
غريزة السيد الكبير
من يقرأ المذكرات يجد أن صاحبها كان هدفه إظهار الوجه الآخر لولاة مصر، فهو يكرر أكثر من مرة أن عباس كانت لديه غريزة السيد الكبير حيث يقول: «إن الاحتكار الذى أوجده محمد على أنهار بسبب هذه الاتفاقيات التجارية، لكنها ظلت لفترة تقاوم حتى بدأت بالتدريج فى الاندثار. فى المقابل، ترك عباس الفلاح حرا يبيع منتجات أرضه كما يحلو له، وكانت هذه هى نقطة الانطلاق لنهاية النظام الاقتصادى الذى كان قائما فى مصر على أن تجمع الحكومة فى يدها كل الأمور التى تخص التجارة والصناعة فى البلاد. لقد استطاع عباس بما لديه من غريزة السيد الكبير أن يُكوّن لنفسه رؤية صائبة ومعرفة تامة بتاريخ حكم جده وتبين مساوئ النظام الذى كان يسير عليه، لكن لم يكن مقدرا لهذا النظام أن ينتهى بشكل كامل إلا تحت حكم سعيد باشا خليفة عباس. لقد تنبهت إلى أننى عدت إلى الوراء وأننى أسُتدرجت إلى الحديث من جديد عن محمد على وأفكاره بخصوص التجارة والصناعة، وهى أفكار كانت تنتهجها عقلية غير مثقفة أوجدت الاحتكار والسيطرة على كل قطعة من قطع المصانع فى مصر. وفى الحقيقة لم تكن هذه الأفكار نتاج طريقة تفكير محمد على وحدها وإنما أيضا نتيجة الوسط الذى نشأ وعاش فيه حيث كان نظام الاحتكار هو السائد والمعمول به فى كل أنحاء الإمبراطورية العثمانية.
وخلال المذكرات نعرف أن الباب العالى لم يترك المساحة الكافية لعباس بل كان يريد التدخل المستمر بداعٍ أو بدون، خاصة فى محاولة إنشاء السكك الحديدية فضلا عن عداء فرنسا لعباس ولمشروع خط سكة الحديد الذى لم يعجبها إلى حد كبير مما جعل السيد «باروش» أحد وزراء الأمير الحاكم يقول: «إن خطكم الحديدى حربة موجهة لترشق بقسوة فى صدر فرنسا»، بل زاد الأمر: «سوف تتبدل كل محطة للقطارات شيئا فشيئا لتصبح مستعمرة إنجليزية».
ويختم نوبار باشا مذكراته حول عباس فيقول: «إن ذكريات عصر عباس دفعتنى إلى أن أتخطى حدودى التى حددتها لنفسى؛ لأن حكمه كان مأساويا، ولم يكن يمثل بالفعل واحدة من الخطوات الرئيسية فى تاريخ البلاد وتحول مصر فحسب، وإنما عرف أيضا بشكل سيئ أو ضئيل. وفُهمت شخصية عباس بشكل خاطئ لدى الأجيال الحالية. لقد تخلى التاريخ عن عباس تاركا فى الظل الحديث عن قدراته ومميزاته الرفيعة كإدارى له مبادئ ونظام فى الحكم والاقتصاد.. وفى غمار ذكرياتى أننى سعيد بأننى أرد لذكراه هذه الشهادة العادلة التى يستحقها وإن كانت متأخرة.. فقد كان عباس بحق يمثل آخر الولاة حسب مفهوم السلطة المطلقة».
سعيد العاطفى
بعد ذلك بدأت ذاكرة نوبار باشا فى تسطير عهد سعيد الذى كان لا يرتاح له نوبار ويحاول مقارنته دائما بمن سبقوه، حيث يقول: «كانت مهمتى سهلة نسبيا عندما كنت أُخط انطباعاتى عن زمن الولاة الأوائل، لأن عملهم القوى والذكى لتطوير مصر تمت إدارته بالفعل بطريقة متطورة ومستمرة، لكن كل شىء اتخذ شكلا جديدا منذ الأيام الأولى لتولى سعيد الحكم، كل شىء سار سريعا وبشكل مفاجئ وكأننا نجلس فى مسرح نشاهد مشهدا يتغير داخل رواية خالية. كان الولاة يستلهمون ما هو مفيد من العنصر الأوروبى ولكنهم فى الوقت نفسه سيطروا عليه وأخضعوه لإرادتهم وظل الوالى هو السيد المطاع. لكن مع مرور الوقت غزت أوروبا مصر، وكان هذا الغزو يستمد قوته أحيانا من أذناب الحاشية الملتفة حول أمير شاب مفتون بالسلطة عاطفى غير مدرك، ولا يعى أن هذه الحاشية تدفعه وتُسيره وتُسيطر عليه، وقد اعتقد فى البداية أنه هو الذى يقودها ويسيطر عليها. وهكذا بدأت فصول الرواية الفوضوية أولا فى بلاط الوالى، ثم امتدت بقوة إلى إدارات الحكومة حتى وصلت بشكل أقل قوة لتنتشر بين صفوف الشعب. ومن الصعب أن أصف مدى ما حدث من تضارب فى الأفكار نتيجة هذه الفوضى، لكننى ربما أستطيع أن أبين لكم الأسباب التى أدت إلى هذا الوضع الذى كان أساسه شخصية الوالى الجديد وإن لم يكن هذا هو السبب الوحيد، لكنه كان شديد السطحية ويفتقر تماما إلى احترام الذات كليا محبا للمظاهر البراقة».
إذن نعرف أن نوبار باشا لم يكن يحترم سعيد بل رأه «شابا مفتونا بالسلطة عاطفيا غير مدرك». بل زاد فى القول: «مسكين سعيد؛ لولا المكابرة وافتقاده للحكمة، ولولا استدراجه إلى تغيير كل شىء والسير عكس الطريق الذى كان يسير فيه عباس ولو كان بكل ما أوتى من روح ونبل وتسامح قد احترم نفسه قليلا، لكانت فترة حكمه ستكون فى كل الأحوال خصبة لمصر تماما مثل خصوبة طمى النيل المبارك. لكننى وأنا أكتب هذه السطور أرى أمامى نهايته البائسة وقلبى يعتصر ألما لهذه الذكرى».
اكتتاب قناة السويس
وحسب كلمات نوبار لا نستغرب ونحن نقرأ فترة حكم سعيد التى شهدت تطورا هائلا لأحوال مصر والمصريين، ومنها يذكر نوبار اكتتاب قناة السويس: «مثل المسيو دى ليسبس عنصرا للقلق دفعته مصلحته بصفة عامة للسير فى هذا الطريق. فشركة قناة السويس لم تكن قد تكونت بعد، وكان لابد من توفير المال للقيام بالدراسات الأولية، كذلك القيام بالدعاية اللازمة لاجتذاب رأس المال اللازم لتنفيذ المشروع. تبرع سعيد بهذا المبلغ كما تبرع أيضا بالمبلغ اللازم ليكون رأسمال لتأسيس المشروع.. ولأن الصيد لا يكون ممكنا إلا فى المياه العكرة، فكان لابد من أن تقوم بعض الأيدى الخفية بالمساعدة على تعكير الماء بطريقة غير مباشرة ولكن فعالة، ولن أذكر سوى حدث واحد يبرهن على هذا، روى لى أحداثه القنصل العام الفرنسى بنفسه بعد مضى كثير من الأعوام، وهو كالآتى: طرح المسيو دى ليسبس أسهما للاكتتاب فى لندن وباريس وبرلين وفينا وفى بقية عواصم العالم، ولأن القناة مشروع عالمى فكان لابد من أن يكون الاكتتاب كذلك أيضا.
ومن مجموع مائتى مليون فرنك كانت مطلوبة لتنفيذ المشروع تم الحصول على مائة واثنى عشر مليون فرنك فقط وفشلت حملة الاكتتاب، لكن المسيو دى ليسبس أكد أنها تسير بشكل رائع وأعلن عن مسئوليته، وبمبادرة شخصية منه ودون استشارة الوالى أنه اكتتب مبلع الثمانية والثمانين مليون فرنك الباقية باسم سعيد ثم عاد إلى مصر سعيدا ومبتسما بما فعل،لأنه كما ذكر يتصرف بصفته وكيلا للوالى.
ويكمل نوبار قوله عن قناة السويس فيقول: «تم بذلك التوصل إلى تأسيس الشركة، لكن هل كان تأسيس الشركة قانونيا؟، بالتأكيد لا؛ لأن المسيو دى ليسبس بوصفه رئيسا لمجلس الإدارة والوالى بوصفه مساهما، لم يكن لهما حق التوقيع على اتفاقية تجعل من الحكومة المصرية مساهما بشكل لا يتفق مع اللوائح والقوانين والشرعية الدولية من أجل أن تدفع ثمن الأسهم. لكن منْ كان يهتم؟ فالوالى لم يكن يبحث إلا عن التخلص من مأزق دى ليسبس الذى لم يكن يبغى سوى المال لكى يمضى قدما فى المشروع.
الكل رئيس إلا أنا
وبذلك لم يؤيد نوبار باشا مشروع القناة ولا القائمين عليه وبالذات دى ليسبس، وعاب على سعيد اهتمامه بالجيش فقط. وفى الوقت نفسه انتقد سطوة الأجانب فى عهده. كما رصد نوبار مساوئ الامتيازات الاجنبية، خاصة الشق المتعلق بالقضاء القنصلى، وتلك الأحكام التى صدرت ضد الأهالى وكذلك الحكومة.
ويتضح من المذكرات أن نوبار باشا كان ضد السخرة ويعتبرها أمرا رهيبا، لذلك كان يرفضها بشدة، وهذا يظهر من خطابه إلى السيد روس كبير المهندسين الذى طلب من نوبار عمال السخرة لإصلاح عطل خط مزدوج أنشئ حديثا بين دمنهور وكفر الزيات، وجاء فى الخطاب: «لقد طلبتم منى أربعة ألاف رجل سخرة من أجل إصلاح الخط، وأنتم تعلمون تماما مشاعرى حيال طبيعة هذا النوع من العمل، لقد أصلح كل من السيد مايش والسيد جازاجاس الخط بمجرد الاستعانة بعمال الصيانة العاديين؛ لذا أرجو أن تعتبروا أنفسكم ليس أهلا للبقاء بعد ذلك فى خدمة الإدارة».
وعن ذات فترة توليه إدارة السكك الحديدية يوضح نوبار باشا: «كان كل واحد منهم يحسب نفسه الرئيس ويتصرف على هواه. كما أن الجالية الأوروبية المتشبعة بهذه المشاعر كانت تتخيل أن سكك الحديد مؤسسة تم إنشاؤها من أجلهم ومن أجل مصالحهم فقط. كان القليل منهم فقط يدفع ثمن كرسيه بل إن القناصل كانوا هم أول من لا يدفعون، وصاروا مثلا يحتذى به. وعلى رغم قلة الموارد حجزت لهم دواوين «كبائن القطارات» بأسمائهم. باختصار وكما كان الوالى يقول:«الكل فى سكك الحديد يأمر، الكل رئيس إلا أنا». وكان فى ذلك القول أمر إيجابى، على أى حال، حيث توصل على الأقل لمعرفة الموقف. لكن منْ المخطئ؟».
من يقرأ المذكرات يعرف أن المخطئ كان هو الوالى سعيد الذى توفى ودفن بطريقة لا تليق، يصف ذلك نوبار: «فى المساء قال لى الأطباء: إنه لم يعد هناك أى أمل.. وصعد أحد الأطباء إلى الوالى ثم نزل ليخبر زملاءه بحالة المريض التى كانت سكرات الموت قد بدأت تنتابه.. وبعد قليل أخبرونا أن سعيد لفظ أنفاسه الأخيرة فى يناير 1863. تجمع كل الموظفين وكتبوا تلغرافا لإسماعيل الذى كان حينذاك فى القاهرة يسألونه التعليمات ويخبرونه بالحدث. أجاب الوالى الجديد بدعوتهم جميعا للحضور إلى القاهرة. تهافت الجميع على أول قطار يغادر إلى القاهرة وهرعوا للذهاب دون ترك أى أوامر أو اتخاذ أى إجراءات بخصوص مراسم الدفن. ولا أعلم كيف تم الدفن؛ لأن الجميع سافر إلى القاهرة، وعلمت بعد ذلك من محافظ الإسكندرية أنه كان على رأس الجنازة التى لم يشترك فيها أحد الموظفين. لقد صاحب النسيان واللامبالاة الكاملة سعيدا إلى القبر، وعلمت أيضا فيما بعد أن جثمانه دفن فى مسجد النبى دانيال».
وبذلك يختتم نوبار حديثه عن سعيد ليبدأ مذكراته عن الخديو إسماعيل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.