إنهم مجموعة من الشباب رفضوا أن يصمتوا أمام جبال القمامة اليومية التى تغزو الأحياء الفقيرة. أنشأوا مشروعا صغيرا للتدوير يقوم على جمع القمامة من جامعة حلوان وتحويلها إلى سماد عضوى يعود للجامعة لاستخدامه فى الزراعة. المكتب العربى للشباب والبيئة هو أحد الجمعيات الأهلية التى تعمل فى مجال تدوير المخلفات، وبتعبير محمد محمود نائب رئيس المكتب فإن المخلفات واحدة «من هموم مصر» التى تزيد كل يوم مع الزيادة السكانية وارتفاع كميات القمامة. المكتب تأسس سنة 1972 بمجموعة من طلبة الجامعات المتطوعين ثم تحول فيما بعد إلى جمعية أهلية. وخلال سنوات عمره قام بعدد من حملات التشجير وجمع القمامة ثم إعادة تدويرها فى بعض الأحياء الفقيرة مثل المعصرة ومصر القديمة وحلوان. وكانت أولى هذه الحملات فى جزيرة منيل الروضة التى تم اختيارها لصغر حجمها الذى يتناسب وضعف الميزانية «وكمان الشغل يبان فيها»، الحى أمدهم بأوناش وعربيات نصف نقل لجمع التراب «وإحنا اشتغلنا بالمكانس والجواريف» خرج محمد وزملاؤه للعمل بأيديهم إلى جانب عمال الحى، واستطاعوا جمع 10 آلاف متر مكعب من التراب. تحرك المكتب أيضا بمتطوعيه بعد زلزال 92 «رحنا وراء الناس اللى نقلوهم منطقة عين حلوان لما وقعت بيوتهم»، وقام المتطوعون بالمرور على البيوت وقدموا لكل شقة كيسين كبيرين أحدهما للمخلفات الصلبة والآخر للمخلفات العضوية. «فهّمنا السكان إنهم يرموا الزجاجات البلاستيك والورق والكرتون فى كيس، أما بقايا الأكل فيحطوها فى الكيس التانى»، وكانوا يجمعون القمامة كل يوم فى عربيات نصف نقل جاءت من تمويل الصندوق الاجتماعى للتنمية والسفارة اليابانية «عرضنا المشروع على عدة جهات بعضها قبل يمولنا وبعضها لم يهتم». عدد المتطوعين الآن 3000 متطوع يشتركون فى أنشطة أخرى يقوم بها المكتب «بنحتفل بيوم البيئة الوطنى فى شهر يناير كل سنة، وحملة نظفوا العالم فى شهر سبتمبر». تنظيف وتشجير «جنة» الوصف الذى أطلقه وحيد عبدالمحسن المدير الإدارى للمكتب على جامعة حلوان بعد العمل الذى قاموا به داخلها واستطاعوا تشجيرها وجمع المخلفات منها. جامعة حلوان تمتد مساحتها على 350 ألف فدان وهى اكبر جامعة مصرية من حيث المساحة «وفيها صحراء كتير، علشان كده تعتبر بيئة خصبة للعمل، وتطبيق نظام إدارة تجميع المخلفات» وهى أسباب جعلت المكتب كما قال محمد محمود تتجه إلى الجامعة. وإدارة تجميع المخلفات التى تحدث عنها تعنى فى رأيه «مش بس جمع الزبالة من الجامعة، وإنما كمان بنعيد تدويرها ونرجعها للجامعة مرة تانية»، لكن فى شكل سماد عضوى. تزامن دخول أعضاء المكتب للعمل بجامعة حلوان مع حصولهم على أرض فضاء منحتهم إياها محافظة القاهرة فى منطقة البساتين خلف المجزر الآلى، بنوا عليها مصنعهم بمساحة 3800 متر مربع بتمويل من الصندوق الاجتماعى للتنمية. بعد موافقة الجامعة على العمل بالمشروع داخلها، قام العاملون بالمكتب بوضع ثلاثة صناديق للقمامة فى كل ركن بالجامعة ولكل صندوق أكياس بلون مختلف عن الصندوق. الصفراء كتب عليها للورق والكرتون، والخضراء للعلب المعدنية أما الحمراء فهى للزجاجات البلاستيكية. والمخلفات العضوية كبقايا الخبز والساندويتشات والأطعمة الأخرى التى يتركها الطلبة فى مطاعم وكافيتريا الجامعة، فيجمعها العاملون بهذه المطاعم فى أكياس سوداء كل يوم حتى يأتى عمال من المكتب فى نهاية اليوم ليجمعوها ثم يتوجهون إلى المصنع. «اشترينا أول ما بدأنا الشغل فى الجامعة عربية نص نقل واحد طن من ميزانية المكتب، وبعدها بسنة عربيتين 2 طن ثمن الواحد 140 ألف جنيه، ولودر كلفنا 170 ألف جنيه». هذا النوع من الفرز للقمامة يسمى «فرز من المنبع» يعنى أنه يأتى من مصدره مصنفا إلى أنواع. كبس وتكسير وسماد وعلى الأرض التى حصل عليها مكتب الشباب والبيئة بالبساتين تم بناء سور من الطوب الأحمر وبذلك أقاموا مصنعهم فى المنطقة العشوائية، التى يحيط بها مقلب البساتين للقمامة. يتوجه عم إمام سائق إحدى العربات النصف نقل إلى الجامعة كل يوم فى أيام الدراسة بعد انتهاء اليوم لجمع الأكياس، ويعود مباشرة إلى المصنع الذى يعمل فيه احد عشر عاملا. فى الداخل ثلاث غرف مبنية بالطوب الأحمر أيضا، وبكل غرفة ماكينة تؤدى عملا خاصا فى عملية التدوير تلك. ماكينة الكبس تقوم بضغط الكرتون، وماكينة التكسير ووظيفتها تحويل البلاستيك إلى قطع صغيرة، والشماعة ومهمتها إذابة البلاستيك المكسر. وبتكرار العمل كل يوم تتحول القمامة إلى تلال من المخلفات داخل المصنع، ويقدر المدير الإدارى للمكتب وحيد عبدالمحسن الكمية التى يحضرونها يوميا من الجامعة خلال الدراسة بنحو ثلاثة أطنان من المخلفات الصلبة واثنين طن من العضوية. عم إمام سائق النصف نقل يعمل أيضا على «اللودر» داخل المصنع، وهذه الآلة تقوم بتقليب جبل المخلفات العضوية التى يتم تجميعها فى منطقة فضاء فى آخر المصنع «بنجمع الأكل فوق بعضه، ونحط عليه قش الأرز ونشارة الخشب ونرشه بالميه»، يترك الخليط تحت الشمس لأشهر قد تكون 6 أشهر إذا كان الجو حارا وقد تصل إلى 9 أشهر فى الشتاء ويقلب كل شهر أو شهرين. هذه الطريقة تحول المخلفات بعد تعفنها إلى سماد عضوى، فيتغير لونها إلى الرمادى ثم البنى وأخيرا إلى الأسود. وبعد انتهاء المدة يوضع السماد الناتج فوق غربال خشبى معلق من أطرافه الأربعة. ويشرح عم سيد طريقة عمله «أهز الغربال رايح جاى علشان السماد الناعم ينزل، والبواقى الكبيرة تفضل على الوش». طن المخلفات العضوية ينتج 300 كيلو من السماد. السماد يعود للجامعة مره أخرى ويستخدم فى عمليات التشجير، وخلال عشر سنوات من العمل تم زرع مساحات واسعة من الأراضى فى جامعة حلوان بالأشجار التى بدورها بدأت فى إنتاج مخلفات عضوية من ورق الشجر المتساقط على الأرض «جمعنا ورق الشجر وحطناه مع المخلفات العضوية كبديل لورق القش». دورة كاملة فى التدوير المواد البلاستيكية الخفيفة كالملاعق وعلب الطعام يتم غسلها فى خزانات كبيرة بالمياه الساخنة، يقول عم إمام «نولع النار تحت الخزان ونرمى فيه البلاستيك»، وبعد أن تسخن المياه، يرتدى العامل قفازا مطاطيا ويقلب الماء، ثم يضيف إليها مواد كيميائية للتنظيف يتم شراؤها من تجار متخصصين فى منطقة منشية ناصر. يترك العامل الماء ليبرد «وبعدين نطلع البلاستيك ونحطه على مشمع فى الأرض علشان ينشف» كما يقول عم سيد. تعبأ بعد ذلك فى أكياس بلاستيك نظيفة على حسب قوله وتباع للتجار. فى إحدى الغرف توجد ماكينة الخرط، وبجوارها عدد من الجراكن والأطباق والأدوات الكهربائية البلاستيكية التى لا تعمل، فهى نوع من البلاستيك الثقيل المسمى «الباغ»، حيث تكسر المخلفات إلى قطع صغيرة. يحمل عم إمام فى يديه قطعا صغيرة ويقول «بعد الخرط بتتحول لحبوب صغيرة، ممكن نبيعه للتجار بشكله ده، أو نحطه فى مكنة التشميع»، كيلو الباغ المكسر يباع بأربعة جنيهات، أما إذا وصل ماكينة التشميع التى تحتوى على سخانات، فانه يسيح ثم يتم تشكيله إلى أدوات أخرى مثل مراوح الغسالات اليدوية أو شماعات الملابس. وعلى ألة الكبس يوضع الورق والكرتون «بعد أن يطلع الكرتون المكبوس بنربطه فى حزم ونبيعه». أحيانا يجد عم إمام فى رحلته اليومية بين الجامعة والمصنع مخلفات لا تتوافر كثيرا، كأسلاك النحاس ويجمعها حيث يباع الكيلو منها بأربعين جنيها. المشكلة فى الناس يجد العاملون فى تنظيف وتشجير الشوارع متعة لا يحسها إلا من شارك فيها، كما يقولون. «إيماننا بالعمل اللى بنقوم به والإخلاص فى أداؤه هو سر النجاح» يقولها فى حماس نائب رئيس المكتب محمد محمود. سرعان ما يختفى عند الحديث عن المشكلات التى تواجههم أثناء العمل، يدق بيده على المكتب رافعا صوته «مشكلتنا الأساسية هى الناس، مفيش نظام ومفيش نظافة». يشتكى محمد من تكرار العمل أحيانا فى نفس المناطق دون جدوى. «لما كنا شغالين فى عين حلوان، العمال مكنوش بيلحقوا يلموا الزبالة ويلاقوا المكان يرجع زى ما كان». نقص التمويل هو عائق أساسى أيضا للعمل. «مفيش أى هيئة حكومية بتساعدنا دلوقتى، والفلوس اللى بتيجى من المشاريع التانيه بتتصرف على مرتبات العمال وتكاليف الأنشطة... يادوب». وحسب كلامه فإن الإدارة عندما تحصل على تمويل لأحد المشروعات تقلص حجم الإنفاق بطريقة قد تسمح بأن يكفى المبلغ للإنفاق على المشروع وتسمح للمكتب بالاستمرار فى نشاطه ودفع رواتب العاملين. لكن المشكلات لا تنتهى عند هذا الحد. هذه المرة جاءت من جامعة حلوان نفسها. «لما إدارة الجامعة شافت إن الزبالة بتجيب فلوس، وإنها ممكن تتعاقد مع تجار أو زبالين يدفعوا لها، بدأت تتخلى عنا وتطلب مننا فلوس مقابل القمامة». حتى هذه اللحظة كان المكتب يأخذ المخلفات من الجامعة دون مقابل ويعيدها فى صورة سماد مجانى للتشجير. مكتب الشباب سجل خسائر العام الماضى نحو أربعين ألف جنيه. «مش عارف لو طلعنا من الجامعة هنروح فين تحديدا. بس أكيد هنلاقى مكان تانى نشتغل فيه».