فى تسعينيات القرن الماضى، أرادت السعودية أن تضع مدينة جدة الساحلية على خريطة السياحة المحلية، فأطلقت مهرجانا صيفيا بعنوان«جدة غير»، فى إشارة إلى تفرد وتميز هذه المدينة عن غيرها من المدن العربية التى تجذب السائحين السعوديين. الآن وبعد مضى أكثر من 20 عاما، تحولت السعودية نفسها تحت القيادة الحالية إلى «سعودية غير» لا يعرفها حتى أقرب الأقربين لها. قبل تولى الملك سلمان مقاليد الحكم، كانت المملكة تميل دائما إلى اعتماد«الدبلوماسية الحذرة» فى التعامل مع الملفات والأزمات الساخنة فى المنطقة، وكانت تفضل «العمل من وراء ستار» من خلال دعم قوى محلية لتحقيق مصالحها، لكنها فى العهد الحالى، وتحديدا مع وجود ولى ولى العهد الأمير محمد بن سلمان، الذى يتولى أيضا منصب وزير الدفاع، تخلت المملكة عن هدوئها السابق، وتحولت إلى «مملكة غضب»، وجنحت إلى اتباع «سياسة الاندفاع» والتدخل المباشر بالسلاح فى الأزمات، سواء فى اليمن أو البحرين وكذلك سوريا. اسباب ذلك كثيرة ومتعددة، لكن أبرزها كما ذكر تقرير لجهاز المخابرات الألمانية ان السعودية، «بدأت تفقد ثقتها فى الولاياتالمتحدة، باعتبارها ضامنة للاستقرار فى الشرق الأوسط، وهو ما جعلها تبدو مستعدة للمخاطرة فى تنافسها مع إيران فى المنطقة»، مشيرا إلى «استعداد الرياض المتزايد للتحرك عسكريا وسياسيا لضمان عدم فقدانها النفوذ بالمنطقة»، لكن التقرير الذى صدر فى ديسمبر الماضى، حذر من ان «اندفاعات الأمير الشاب قد تفسد علاقات بلاده مع الدول الصديقة والحليفة فى المنطقة». النقطة الأخيرة فى التقرير، هى ما نلمسه الآن على أرض الواقع، حيث تشهد العلاقات بين مصر والسعودية أزمة حقيقية، بعد إعلان الرياض عن استيائها من تصويت القاهرة فى مجلس الأمن إلى جانب مشروع قرار روسى بشأن سوريا، وما سبق ذلك من قرار شركة أرامكو السعودية، أكبر منتج للنفط فى العالم، التى يتولى رئاسة مجلس ادراتها محمد بن سلمان، وقف إمدادات البترول إلى مصر للشهر الحالى. القرارالسعودى يبدو «عقابا مهينا» لدولة بحجم مصر، لم يكن يصح ان يصدر من الرياض، ولا يجوز للقاهرة أن تتجاوزه وكأن شيئا لم يحدث، وهو ما ألمح إليه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى الندوة التثقيفية التى عقدت الخميس الماضى، عندما قال «عايزين يا مصريين تبقى عندكم استقلالية بجد، ماتاكلوش وماتناموش» وان «مصر لن تركع الا لله». وبعيدا عن الانفعال والغضب من القرار السعودى بوقف امدادات النفط، والذى لا يمكن وصفه سوى ب«القرار غير الحصيف والمتعالى»، ينبغى علينا ان نصارح انفسنا:«ما الذى دفع الرياض إلى التعامل بمثل هذا السلوك مع القاهرة؟». أليس نحن من رفع لديهم سقف التوقعات عندما وعدناهم ب«مسافة السكة»، وان «الجزيرتين سعوديتان»، وعندما جاء وقت المطالبة ب«دفع الثمن» تراجعنا خطوتين إلى الوراء. كان من الأولى ان تكون محددات سياستنا الخارجية واضحة منذ البداية، لكن رب ضارة نافعة.. فهذه الهزة فى العلاقات مع السعودية، ينبغى ان تكون مقدمة لبناء سياسة واضحة المعالم، تقوم على ان مصر ليست دولة تابعة لأحد، حتى وان كانت تعانى اقتصاديا، وانها «تتبنى سياسة مستقلة تهدف إلى تحقيق الأمن القومى العربى من خلال رؤية وطنية»، كما قال الرئيس السيسى، وان جيشها الوطنى«ليس بندقية للايجار»، ولن يندفع وراء أحد فى مغامرات عسكرية فاشلة، وأنه جاهز فقط للدفاع عن الأشقاء حال تعرضهم لاعتداء. كذلك يجب أن تشدد هذه السياسة على أن «أرض مصر» ليست للبيع أو التنازل، مهما كانت الضغوط، وأن «تيران وصنافير» ستظلان مصريتين وإلى الأبد.