بوابة شموس نيوز – خاص كلّ تقوقع مسيحيّ يناقض ما جاء في رسالة القدّيس بولس إلى أهل روما (16،10:2). كما أنّه يحوّل المسيحيّة إلى دين منغلق أو منظومة اجتماعيّة تتلاشى مع ظهور منظومة أخرى. في حين أنّ المسيحيّة هي علاقة حبّ بين السّماء والأرض، وبين الله والإنسان، بعيداً عن إدانة الآخر وتكفيره وعزله عن مشروع الله الخلاصيّ. ولمّا كنّا "نعلم أنّ كلّ الأشياء تعمل معاً لخير الّذين يحبّون الله، الّذين هم مدعوّون حسب قصده" (روما 28:8)، ولمّا كان الله هو الخير والحقّ والجمال فكلّ إنسان يجتهد في الخير ويبحث عن الحقّ ويتبيّن الجمال فهو شاء أم أبى يتوجّه إلى الله الحبّ ويسلك سبله. فالسّعي إلى الخير لا يكون إلّا بانفتاح القلب على الحبّ الأعلى، ومعرفة الحقّ لا يتلمّسها إلّا عقل استنار بفعل المحبّة، وما معاينة الجمال إلّا مشاهدة الأمور بعين المحبّة. لذلك لا يجوز اختصار الكيان الإنسانيّ المخلوق على صورة الله ومثاله بالفكر القائل إنّ الله يختار شعباً محدّداً. ما يشرح قول بولس الرّسول: "المجد والكرامة والسّلام لكلّ من يفعل الخير، من اليهود أوّلاً، ثمّ من اليونانيّين، لأنّ ليس عند الله محاباة للوجوه." (روما 10:2). وسيتخطّى لفظ (اليهود واليونانيّين) واقع بولس ليشمل كلّ إنسان على هذه الأرض. فمن جهة الله فعل الخير لا يقتصر على مجموعة معيّنة من النّاس والله، الأب السّماويّ، لا يميّز بين إنسان وآخر، إذ إنّنا جميعاً على صورته ومثاله، ولا يطلب منّا إلّا القلب "يا ابني أعطني قلبك، ولتلاحظ عيناك طرقي." (أمثال 26:23). القلب هو جوهر الإنسان بالنّسبة لله، وبقدر ما يتمحور هذا القلب حول محبّة الله يستنير العقل ويتوغّل في المعرفة الإلهيّة. ويذهب بولس الرّسول إلى عمق التّركيبة الإنسانيّة من جهة، ومن جهة أخرى يجيب بدقّة على سؤال وجوديّ ومصيريّ مرّ ويمرّ في ذهن كثيرين، ألا وهو السّؤال المتعلّق بالخلاص الإنسانيّ: "فكلّ الّذين أخطأوا دون النّاموس فدون النّاموس يهلكون، وكلّ الّذين أخطأوا في النّاموس فبالنّاموس يُدانون، لأنّه ليس السّامعون للنّاموس هم أبراراً عند الله بل العاملون بالنّاموس هم يُبرَّرون . فإنّ الأمم الّذين ليس عندهم النّاموس إذا عملوا بالطّبيعة بما هو في النّاموس فهؤلاء وإن لم يكن عندهم الناموس فهُم ناموس لأنفسهم، الّذين يُظهرون عمل النّاموس مكتوباً في قلوبهم وضميرهم شاهد وأفكارهم تشكو أو تحتجّ في ما بينها يوم يدينُ اللهُ سرائر النّاس بحسب إنجيلي بيسوع المسيح." (16،12:2). ما يشرحه بولس الرّسول في هذه الآيات لا يدلّ على استهتار بأهميّة الخلاص الإلهيّ والنّعمة الخلاصيّة بيسوع المسيح. بل إنّه يدلّ على وعيٍ إيمانيّ بمسؤوليّة كلّ إنسان في مشروع الله الخلاصيّ. كما يدلّ على رحمة إلهيّة فائقة وحبّ شامل كونيّ يفوق عقولنا وعنصريّتنا وتعصّبنا الّذي إن دلّ على شيء فهو يدلّ على جهلنا بعمل الرّبّ. بالمقابل يشير القدّيس بولس إلى أمر بالغ الأهميّة ألا وهو الله المتوغّل في النّفس الإنسانيّة، والمتسرّب إلى عمق أعماقها، والسّاكن في ضميرها. وذلك حين يقول: "إنّ الأمم الّذين ليس عندهم النّاموس إذا عملوا بالطّبيعة بما هو في النّاموس فهؤلاء وإن لم يكن عندهم الناموس فهُم ناموس لأنفسهم، الّذين يُظهرون عمل النّاموس مكتوباً في قلوبهم وضميرهم شاهد".(روما 15،12:2). ما يعني أنّ ضمير الإنسان يتحرّك بحسب الله السّاكن فيه، والنّفس الإنسانيّة تتوق إلى العلا لأنّها مسكونة بالله. بل يذهب بولس إلى أبعد من ذلك ليعبّر ضمناً عن أنّ لا دين ولا ناموس ولا شريعة يمكنها أن تبني الإنسان من داخله، وتنمّي فيه قيمته الإنسانيّة. وإنّما من يبني الإنسان فهو الله الحبّ. لأنّه وهو السّاكن فيه يبدّل أعماقه ويخلقه من جديد بيسوع المسيح. فحوى هذه الآيات من الرّسالة إلى روما لا تلغي قطعاً العمل التّبشيريّ من حيث تبليغ النّور الإلهيّ إلى العالم كلّه. فالقدّيس بولس يضيف في الفصل الثّالث من الرّسالة إلى روما قائلاً: " وأمّا الآن فقد ظهر برّ الله دون النّاموس مشهوداً له من النّاموس والأنبياء. برّ الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كلّ وعلى كلّ الّذين يؤمنون. لأنّه لا فرق. إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله متبرّرين مجاناً بنعمته بالفداء الّذي بيسوع المسيح الّذي قدّمه الله كفّارة بالإيمان بدمه لإظهار برّه من أجل الصّفح عن الخطايا السّالفة بإمهال الله. لإظهار برّه في الزّمان الحاضر ليكون بارّاً ويبرّر من هو من الإيمان بيسوع." (روما 26،21:3). والإيمان بيسوع المسيح في معناه العميق هو ولوج المحبّة الإلهيّة والالتصاق بها والتّيقّن أنه دونها لا يمكن للإنسان أن يفعل شيئاً. وأنّ كلّ سلوك في الخير والحقّ والجمال والحبّ، إنّما هو سلوك محرّك من عمق الله وليس بدافع إنسانيّ بحت. وكلّ من يتفاخر بعمله معتبراً نفسه فوق الجميع، فهو لم يصل بعد إلى مستوى الفكر الإنجيليّ. وكلّ من يعتقد أنّ الخلاص له وحده فهو لم يعِ بعد أنّ الرّبّ هو سيّد التّاريخ وهو القادر على كلّ شيء وهو الّذي يريد أن جميع النّاس يخلصون وإلى معرفة الحقّ يبلغون. من هنا أهميّة الانفتاح المسيحيّ على الآخر، لأنّه كما أنّ الله لا يحابي الوجوه فكذلك أبنائه، عليهم أن يقبلوا الآخر كما هو ويحترموا كينونته الإنسانيّة الّتي خلّصها المسيح ويكونوا شهوداً حقيقيّين للحبّ الإلهيّ. الانفتاح لا يلغي الإيمان المسيحيّ، ولا يناقض التّمسّك بالعقيدة والمحافظة عليها. وإنّما الانفتاح يزيل القشور عن أعين كثيرة أعشتها قلّة الحبّ.