بوابة شموس نيوز – خاص سلّم المسيح إلى الموت فسلّم نفسه إلى الهلاك ( متى 50،47:26) في كلّ منّا يهوذا، يتمرّد على المحبّة الإلهيّة ويسعى إلى تحقيق مآربه الشّخصيّة بأيّ ثمن، حتّى لو كان الثّمّن دم المسيح. يهوذا إنسان اجتمعت فيه التّناقضات ككلّ إنسان. واستباحته الكبرياء كجميعنا، لكنّ يهوذا تجرّأ على تحدّي الله فتمرّد عليه وعلى مشروعه الخلاصيّ. والتّمرّد يختلف عن التّساؤل في سبيل الفهم. فالأوّل يعطّل البصيرة ويحدث إرباكاً في الوعي الإنسانيّ. وأمّا الثّاني فنابع من حوار واعٍ بغية السّعي إلى تقريب المسافة بين الله والإنسان وتعزيز العلاقة بينهما. "وفيما هو يتكلّم، إذا يهوذا أحد الاثني عشر قد جاء ومعه جمع كثير بسيوف وعصي من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشّعب. والّذي أسلمه أعطاهم علامة قائلاً: «الّذي أقبّله هو هو. أمسكوه»." ( متى 48،47:26). اختبر يهوذا المسيح كباقي التّلاميذ، وسار معه وشهد كلّ تعاليمه العلنيّة. وكان بإمكانه أن يكون رسولاً مبشّراً بإنجيل الرّبّ، إلّا أنّه ارتضى طريقاً آخر. ولمّا كانت هذه التّعاليم علنيّة فما الّداعي لأن يدلّ يهوذا رؤوساء الكهنة على يسوع؟ يعبّر فعل يهوذا عن انحطاط إنسانيّ رهيب أشدّ قسوة على المسيح من ذلك الّذي أقدم عليه اليهود. فيهوذا خطّط للأمر وتحيّن الفرص وتشاور مع رؤساء الكهنة ليسلم المسيح الّذي رافقه خطوة خطوة. من المؤكّد أن يسوع كان يعلم أفكار يهوذا، ولمّح إلى هذا الموضوع أكثر من مرّة. بالمقابل تهيّأت ليهوذا عدّة فرص كي يحوّل مساره ويتراجع عمّا كان يريد فعله. لكن تمرّد يهوذا عطّل بصيرته ففقد إدراكه الإنسانيّ. هي لحظة الظّلمة الكبرى، عندما يقدم الإنسان على فعل الشّر دون أيّ وعي إنسانيّ ولا نقول عقليّ. ذلك لأنّ يهوذا كان مدركاً لما أقدم عليه إلّا أنّه كان مسلوب الإرادة الخيّرة أو بمعنى أصحّ متخلٍّ عنها. وكأنّي به طرد الله من قلبه فاستباحت نفسه ظلمة عظيمة. ما سنفهمه في الآية التّالية: (فللوقت تقدم إلى يسوع وقال: «السّلام عليك يا سيّدي!» وقبّله.) تحيّة السّلام دعوة للاطمئنان والسّكينة، في حين أنّ يهوذا أقبل مع الجمع الكبير بسيوف وعصيّ، وكأنّهم سيلقون القبض على إرهابيّ أو مجرم يلاحقونه منذ زمن طويل، ويتحيّنون الفرص لأسره!. يقبل يهوذا بتحيّة سلام ليعلن حرباً على الله. ثمّ يقبّله بمكر وخبث يظهره المشهد الإنجيليّ عند متّى بقوّة. (والّذي أسلمه أعطاهم علامة قائلاً: «الّذي أقبّله هو هو. أمسكوه». فللوقت تقدّم إلى يسوع وقال: «السّلام يا سيّدي!» وقبّله.) كانت عينا يهوذا مفتوحتين وهو يسلّم سيّده وصديقه، لكنّ قلبه كان محكم الإغلاق. يتكرّر الضّمير (هو) دلالة على عزم يهوذا على تسليم للرّبّ لا رجعة فيه. كما يدلّ على الثّقة بين يهوذا ورؤوساء الكهنة. (هو هو)، إشارة لا لبس فيها، وإصرار على الفعل. يقابل هذا الفعل الدّنيء والمخزي، منطق الرّبّ المناقض تماماً للمنطق البشري. وكأنّنا بهذا المشهد الإنجيليّ نرى الظّلمة من جهة والنّور من جهة أخرى. الظّلمة النّابعة من الدّاخل الإنسانيّ الّتي تدمّر الإنسان وتهين الله. والنّور الّذي ينسكب بقوّة ورحمة ومحبّة، ولا ينحدر إلى مستوى الفعل الإنساني البشع. «يا صاحب، لماذا جئت؟» (متى 50:26). كذا يقول الرّبّ ليهوذا. ولا يمكننا ففهم ردّة فعل يسوع بحسب المنطق البشريّ، بل لعلّ كثيرون يعتبرونه ضعفاً واستسلاماً. إلّا أنّ من يقرأ كلام الرّبّ بمنطق المحبّة الإلهيّة يتبيّن له أنّ الله لا يبحث عن الإهانة ليعاقب عنها بل عن رجوعك إليه متوسلاً. (القديس يوحنا الذهبي الفم). فيحافظ على الصّلة بينه وبين الإنسان مهما ابتعد هذا الأخير، أو عصى أو تجاسر على النّور. على الرّغم من جسارة الإنسان على إهانة الله، وعلى الرّغم من الكبرياء الّتي تغيّب في الإنسان قدرته على التّمييز بين فعل الخير وفعل الشّرّ، إلّا أنّ الرّبّ يظلّ ينظر إليه بمحبّة ثابتة. (يا صاحب، لماذا جئت؟)، عبارة تعبّر عن جرح الرّبّ في صلب محبّته. وكأنّ المسيح ما زال يعلّق آمالاً على يهوذا مانحاً إيّاه فرصة التّراجع عن فعلته. كان يمكن ليهوذا وقتئذٍ أن يتراجع ويطلب المغفرة، حتّى ولو لن يتبدّل شيء، لكنّ كبرياءه أعمته عن الالتفات إلى الرّحمة الإلهيّة وأفقدته ثقته بها. أنكر بطرس المسيح ثلاث مرّات، والتّلاميذ كلّهم هربوا لحظة إلقاء القبض على السيّد، لكنّ الفرق بينهم ويهوذا، أنّهم وثقوا برحمة الرّبّ ومحبّته. هم لبسوا المسيح وعاشوا الفضائل الإلهيّة ببطولة وعكسوا صورة المسيح الحيّ. وأمّا يهوذا، سلّم المسيح إلى الموت فسلّم نفسه إلى الهلاك.