واقع مريض ومفاهيم خاطئة بثينة خضر كاتبة من السودان الشقيق تكتب القصة والرواية فى مجموعتها المعنونة "رائحة الخريف" تقدم الكاتبة هموم الإنسان العربي في السودان وخاصة المرأة السودانية عبر تاريخها ، وقد اختصت الكاتبة العلاقة بين الرجل والمرأة بنصيب كبير ، وقد يكون ذلك طبيعيا باعتبار مركزية الرجل بالنسبة للمرأة ، هذه المركزية التي تناقش عبر نماذج فنية من القصة القصيرة ، في هذه النماذج تتسم العلاقات فيها بأنها علاقات معتلة بمعنى أن الخلل فيها واضح وجلي، هذا الاعتلال الذي يمكن تفسيره في إطار اللحظة الحضارية الراهنة من خلال اعتلال الوطن ومن ثم اعتلال الكيان الإنساني لكل من الرجل والمرأة، ومع أن الفن لا يقدم علاجا جاهزا لمظاهر اعتلالنا إلا أن إثارة الأسئلة يمكن أن تكشف لنا هذا الواقع المريض، ومن خلال القراءة المتأنية لهذه القصص نستطيع أن نرصد مظاهر هذا الاعتلال، وهذه القراءة لا تصادر حق الآخرين في قراءات مغايرة باعتبار أن كل قراءة هي إضافة للنص ( ) ولعل التسليم بهذه الحقيقة من شأنه أن يقودنا إلى لاقول بأنه يتعذر على منظور واحد تقديم قراءة وافية متكاملة للنص الأدبي، وأن الإصرار على تحويل الاخلاف إلى خلاف منهجي وإلى ضرب من ضروب النفي والمصادرة للآخر من شأنه أن يحرمنا من فرص الحوار والإفادة. في قصة "ليلة الختان" يكون الأب في موقف الرافض لعملية الختان بينما تتبنى الخالة الموقف المضاد وهذا مايظهر من خلال هذا الحوار. – نحن مادايرين مشاكل .. خلوها البنية مادام أبوها ماراضي .. هو على كيفيه.. ومخير فيها "قالت زوجة أخيها وهي تتمتم فردت خالتها بسرعة وانفعال وإناء الحليب يتأرجح بين فخذيها السمينتين وقد انسكب بعض منه". – أبدا .. مامخير ..دي بنت.. والعار بيركبنا كلنا. الواقع المريض أنتج هذا المفهوم الخاطىء وهو ارتباط ختان البنت بشرفها وارتباط العار بعدم الختان ونلاحظ أن هذا التراث يتم المحافظة عليه من قبل النساء وهذا يمثل خطرا أكبر لأن موقف المرأة هنا يكرس لقهر المرأة فالقهر يأتي منها وهي التي تدفع الثمن فهي القاتل والمقتول.. الجاني والضحية ومن ثم نصل إلى التراجيديا في ذروتها ، فالمرأة هي صانعة هذا التراث وهي المحافظة عليه. ورغم وجود الحدث محورًا أساسيًا في معظم قصص المجموعة إلا أنه يأتي تابعا للشخصية التي تصنعه في معظم الأحيان، ويمكن أن نطلق تسمية قصة الشخصية، وهذا يتبلور في قصة "موت عبد الحكم" ومع أن العنوان يعطي انطباعًا بأن الشخصية الرئيسية هي عبد الحكم إلا أن الشخصية المحورية هي مستورة وتلاحظ دلالة الاسم ، هذه الفتاة التي تجاوزت الثلاثين ولم يطرق بابها أحد، وهي على قدر من الوعي وقد أتاح لها ذلك المشاركة في العمل الاجتماعي ، ومن ثم تم تعيينها سكرتيرا ناطقا باسم اتحاد النساء السودانيات في قرية سدرة ثم تزوجت عبد الحكم الذي أساء معاملتها حتى عندما جاء يسترضيها قالت إنها لا تريده ولا تريد أن تكون زوجة له ، القهر النفسي والجسدي الذي وقع على "مستورة" وصل بها إلى مرحلة من التمرد والثورة، وفي تعليق الراوية الغائبة العليمة ترصد هذا المونولوج الداخلي في أعماق مستورة "هذه الأفعى التي ميزت أخوتها الذكور عنها فذهبوا للدراسة وظلت هي حبيسة الدار تغسل ملابسهم وتصنع طعامهم". هذه العلاقة المعتلة بين مستروة وعبد الحكم فرضها واقع حياتي معتل من خلال هذا التفوق الذكري المفروض على الأنثى والذي يهيمن ويسيطر ويظلم ويقهر بحكم تاريخي بعيد عن كل أحكام العقل، لقد وصلت مستروة إلى نقطة اللاعودة حين جاء رد الفعل أقوى من الفعل نفسه. – ووب على ووب عليكم حي قيوم ..الله أكبر.. كتلت عبد الحكم ، كتلت راجلي. وبعد ذلك أصبحت مستورة في نظر ابن عمها فاجرة وقد جاءت نهاية القصة خروجا عن كل الأرض المتعارف عليها "وهي في هرجلة جنونها وصراخها تنثر باقات جمالها وفتنتها واحتشام نشأتها التقليدية وتلقي بها عارية فوق رؤوس الأشهاد تنثرها عكس الريح تمامًا .. تمامًا. وإذا كانت العلاقة بين الرجل والمرأة في صورتها الطبيعية بين الرجل والرجل وهذا ماحدث في قصة "ترزي رجال" من خلال شخصية محجوب وهو الترزي المتدين ، لكن الكاتبة قد أسهبت في تقديم شخصيته التي تتسم بالمثالية والاستقامة حتى تمهد الطريق لرد فعله العنيف حين أحس بحمدان يلتصق به بقوة ويحتضنه بطريقة عنيفة مكشوفة ولم تصل القصة إلى أبعد من التعريف بهذا الرجل الشاذ جنسيا، وجاءت قصة "صعلوك نسوان"" عندما اتهم العم هذا الصعلوك بالسرقة رد عليه قائلا: أبدا والله ياعمي … أما ماسرقت حقك أنا ماحرامي لكن.. بس لكن بس صعلوك نسوان.. كل بنية سمحة تدخل على في الدكان أديها الجزمة ال بتعجبها هدية. وبالأسلوب نفسه جاءت قصة "تذكرة سفر" وقد لخصت الكاتبة القصة في بدايتها ابن العمدة المدلل الذي ترك زوجته وسافر إلى مصر وتزوج من فتاة مصرية فقيرة، إنه برهان الذي كان دائمًا ضعيفًا أمام النساء. لقد استعرضت الكاتبة هذه النماذج من الرجال في غطار من الإدانة الأخلاقية ، أما في قصة "قبر الوالي" فهي تثير قضية هذا العائد من دول النفط بعد غياب عشرين عامًا ومعه المال الوفير، عاد إلى السودان ليستثمر أمواله في امتلاك محطة وقود. وقد اندهش تمامًا عند معاينة الموقع، نصف المكان كان ضريحًا لأحد الأولياء وبجانبه شجرة نخيل باسقة لكن مختار كان مصرا على اقتلاع المخلة فكانت النتيجة موته في حادثة وتحويل محطة الوقود إلى رماد وأشلاء.. ماذا يعني ذلك؟ هل تقصد الكاتبة أن كل من يحاول أن يلغي تراثه فإن مصيرة الزوال؟ أو تقصد أن المادة وحدها تنهار ولابد لها من غطاء روحي. لكن المؤكد أن العلاقة بين مختار وبلده لم تكون سليمة وإنما معتلة ومن ثم كان رد الفعل مدمرًا رغم أن الفعل الذي قام به مختار فعلا عاديًا في نظر البعض ( ) إن القصة من الناحية التقليدية تعني سردا لأحداث أو عرضا لحكاية في زمن، والواقع أننا نقبل هذه الخصيصة شرطًا ضروريًا للقصة بل على سمتها المميزة باعتبارها عملاً فنياً، ومع ذلك فإن مايفعله الفنان بهذا الشرط الأساسي المعياري يكون له تأثيره المباشر على أسلوبه الشخصي وعلى مغزى مايمكن أن يصوغه في ذلك الأسلوب، إن الشىء الشخصي وحدجه هو الشىء العام، فالقائد المشهور والناطق الرسمي البارع والمحامي حين يتحدثون فإنما يتحدثون بفعل قوة الأحداث اليومية لذلك تموت كلماتهم غير أن الإنسان الذي يتحدث انطلاقًا من أعماقه الخاصة ، إنما يتحدث من أجل كل الناس ولذلك يصغي إليه كل الناس ولن تموت كلماته. معنى هذا أن بصمة الكاتب هي الفيصل في معالجة مابين يديه من معطيات، وأظن أن الكاتبة قد حققت ذلك في قصتي "الكابوس" و"رائحة الخريف" في قصة "الكابوس" تنسج لنا مأساة من نوع خاص إنها تراجيديا إنسانية من خلال هذا الإحساس الحاد بالفقد. وتكتمل المأساة حين نعرف أن الإحساس هذا تجاه زوج وحبيب "هاهو الآن يرقد أمامي ، ياويلي .. ويالتعاستي.. يرقد مشلولا عاجزًا لا يستطيع تحريك جسدة النحيل بعد إصابته بجلطة دماغية مفاجئة "ثم تستطرد الرواية المتكلمة بضمير الأنا "فقط لو ينهض من كوبته .. لو يستعيد قوته .. أقسم بالله العظيم أنني لن أسأله أبدًا في غضب لئيم عن المكان الذي كان فيه.. حين يعود في وقت متأخر من الليل لن أسأله عن المكان ولا الزمان قط لو يسترد عافيته لو ينهض مرة أخرى! لقد وظفت الكاتبة تيمة الحلم "الكابوس" توظيفا اضاف إلى الفكرة طعم ورائحة المأساة كما أن الرمز في هذا العطش الشديد يعكس الإحساس بالفقد أما في قصة "رائحة الخريف" والتي يشغل فيها الرمز مساحة كبيرة فإنها تشي بالمناخ الذي تدور فيه معظم القصص ولذا جاء اختيارها عنوانًا للمجموعة مناسبا جماليا ومعرفيا، إنها تلك العلاقة المعتلة بين الإنسان ووطنه ، هذا الشعرو بالاغتراب ، إن الرواية الحاضرة تشعرنا بهذا الألم حين تقول: – يأيها الأمن الذي استعصى علينا .. أيها السلم المجنح بخيار الانفصال .. امتلأت الأرض بالسقيا وبنت شعيب تشتد حيرتها ولا تزال تبحث عن القوي الأمين . وقد يمتزج الشعر بالنثر في هذه القصة " تقتادني اللغة الوضيئة عبر طرق يدلهم فيها المعنى ويفيض أفاقا سامقة في مسارات الضمأ " إن هذه اللغة الشعرية تذكرنا برائعة الشاعر بدر شاكر السياب " أنشودة المطر" عيناك غابتا تخيل ساعة السحر أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر عيناك حين تبسمان يورق الكروم وترقص الأضواء .. كالأقمار في نهر يرجه المجذاف وهنا ساعة السحر. كأنما تنبض في غوريهما النجوم وتغرقان في ضباب من أسى شفيف كالبحر سرح اليدين فوقه المساء دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف والموت والميلاد والظلام والضياء فتستفيق ملء روحي ، رعشة البكاء ونشوة وحشية تعانق السماء كنشوة الطفل إذا خاف من القمر كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم وقطرة فقطرة تذوب في المطر وقطرة فقطرة تذوب في المطر وكركر الأطفال في عرائس الكروم ودغدغت صمت العصافير على الشجر أنشودة المطر مطر مطر مطر إن السمت الروائي يظلل معظم القصص ومن ثم نستطيع القول أن الكاتبة بثينة خضر روائية تكتب القصة القصيرة.