بقلم فاطمة الزهراء الرغيوي "ليست هناك حاجة لاستخلاص رخص حين نود القيام بأشياء جميلة، يجب أن نفعلها فقط" فيليب بوتي "الهدف الذي على بعد تسعين متر ليس النهاية، بعده هناك احتمالات بدايات لا متناهية". هذا ما حاولت أن أفكر فيه بشكل متواصل، من الضروري أن تبدو بدايات أخرى ممكنة وجلية مثل الشمس التي حتى وهي خلف غيوم ممطرة، موجودة دائما. من الضروري في هذه اللحظة بأن أحلق مثل طائر واثق من سلامة جناحيه ومن خلو الهواء من رصاصة عابرة. الهدف. النهاية. البداية.. ثم الأشياء العابرة مثل أصابعها التي بالكاد لامست أصابعي في اللحظة الصامتة في بهو الانتظار. كنت أترقب موعد رحلتي وكانت سترافقني لأنها تصدق أسطورتي أو لأنها تشفق علي من مغبة الموت وحيدا ومجهولا. في عتمة الليل الذي رافق رحلتنا كنت أراقب نومها الهادئ مثل موت مباغت لم يترك لصاحبه وقتا كافيا ليصطنع ملامح الهلع والألم. كنت أتساءل بجنون، ماذا سأفعل لو ماتت الآن ولم تشاهدني ملكا مالكا للحظة السمو لأنني غامرت بعبور قطعة من السماء دون إذن من الملائكة؟ أثناء تلك الرحلة اكتشفت أن حبها هو طوق النجاة الذي يضمن لي سلامة الحلم. على رصيف مطار الوصول تفاديت قبلتها السريعة لأنني شعرت أنني بدأت أولى خطوات الخيانة. "إذا لم تصل إلى الجهة المقابلة، إلي، سأقتلك"، هددتني بابتسامة تشبه الفرح والخوف. الهدف، هي.. إلى أن أصل، بعد ذلك سيكون على كلينا إيجاد طريقته الخاصة في المشي وحيدا. واقفا مثل طائر يحاول إيجاد تيار هوائي مناسب، فكرت أن لا بأس بقليل من الصلاة لكني نسيت الكلمات المناسبة فأجلت الأمر، في وقت لاحق، بينما كنت مستلقيا بين السماء والأرض، تذكرت الكلمات لكني آثرت أن أصمت في حضرة التوازن. قالت حينما قبلتها في المرة الأولى إن الحب يشبه مظلة، قلت بل هو المطر.. امتلكنا منذ البداية القدرة على الاحتفاظ بتناقضاتنا التي تحقق لنا معادلة الحب بحد أدنى من الخسائر. واقفا أحاول امتلاك مجدي القادم، ألاعب الحبال والهواء، أرقص قليلا وأمارس بعض التمارين الرياضية، يسألني رفيقي إن كنت مستعدا فأبتسم كفاية لكي لا يشعر ببداية خيانتي. أراهما، رفيقي ورفيقتي، يحتسيان فنجان شاي في مقهى على مفترق طرق، يتحدثان، يبتسمان ، يحزنان قليلا ثم يغادران كل محمل بحكاية خيانتي كأنني غير البريء الوحيد. حلمي كان بداية الخيانة، كنت بحاجة إليهما لأعبر الخط الفاصل بين المجهول وبين ذائع الصيت وكانا بحاجة لاستنشاق الهواء المفعم بالرغبات المجنونة ولتجاوز حيز العادي والرتيب. قال رفيقي وهو يرتب حقيبته قبل أيام قليلة، إن القدرة على الحلم موهبة نادرة، قلت إن الحلم موهبتي الوحيدة. كان بيننا حاجز من الأشياء البسيطة، حبي للشقراوات، عشقه لمهنة الطب، غضبي السريع الزوال، إخلاصه التام.. كان يراقب حماستي في لحظات الإعداد والترقب بتعاطف ثم ينضم إلي سعيدا ومتوترا وحكيما. سننتظر اللحظة المناسبة، يقول. إن اللحظة المناسبة هي التي نختارها، أجيب بإصرار. قدمي تلهو ملاعبة طرف الحبل، ألتفت إليه وبالكاد أسمع كلماته الأخيرة الحقيقية والصادقة "أحبك يا صديقي"، لكني منذ تلك اللحظة لا أنصت إلا للصوت القادم من المكان الغريب في الروح أو الجسد: تقدم.. ثم إن السماء انفرجت عن ممر لازوردي واتصلنا أنا والحبل فيما يشبه الرقصة المحرمة بين جسدين راشدين. كنت أعبث قليلا بالعصا التي ترافقني فيبدو التوازن مسألة ممكنة التحقق حتى والأرض على بعد عشرات الأمتار ويد رفيقي بعيدة وحضن حبيبتي أبعد. الحياة تبدأ الآن. الحياة خطوات ثابتة ومتتالية في الفراغ. أفكر بالمستقبل، غدا.. غدا سأمتلك حصتي الكاملة من السعادة، قبل هذه الخطوات كنت مجرد بهلوان يضع كرة حمراء على أنفه، يرمي كرات في الهواء ويخفي القطعة النقدية ثم بخفة يسترجعها من خلف أذن طفل متعاطف مع الحلم.. كنت قد أنهيت العرض في وقت متأخر حين عرجت على مقبرة المدينة، كنت في حاجة إلى ما يكفي من الوحدة لكي أمسح عني سعادة البهلوان التافهة، كنت أقطع المقبرة قافزا ومحاولا خلق لحظات توازن فوق شواهد القبور، كنت أسمي تلك الأوقات، لحظات تسلق شجرة السعادة الحقيقية.. بعيدا تحتي الآن، تقف رفيقتي في إخلاص الزوجات اللواتي ينتظرن عودة أزواجهن الجنود من لعبة الحرب. لا أراها غير أني واثق من وفائها حتى وأنا أخونها مع الحبل المعلق في الهواء ومع بداية الحلم ومع الغد الممكن أخيرا. أصل إلى منتصف المسافة فأقرر استعراض قدرتي على أخذ فترة استراحة من الوقوف فأنحني قليلا، قليلا لأتمكن من الجلوس ثم الاستلقاء في استرخاء خادع على الحبل المعلق بين السماء والأرض.. كنت أتذكر ذاك القبر الفارغ الذي استوقفني في تلك الليلة، كان محفورا بعناية وبدت جدرانه في ضوء القمر مخيفة كأنها تستعد للانقضاض على أول زائر. كان شعور بالرهبة يتسلل إلي بهدوء، شعرت بالبرد أولا ثم بحرارة جعلتني أنزع المعطف عني. كنت أدور حول القبر المفتوح في محاولة لاستقراء حالة توازن ممكنة الحدوث، قفزت مرتين فوقه وانحنيت فوقه متفحصا تفاصيله لكن تلك المحاولات لم تكن كافية لتجعلني أصل إلى حالة التوازن فبدا ضروريا أن أنزل فيه، قفزت بسرعة، دون أن أمنح نفسي فرصة التراجع، وبقيت لوهلة واقفا هناك أرفع يدي إلى جوانب القبر، أتلمس جدرانه، أشم رائحته ثم إذ لم أصل لنتيجة مرضية أقرر الاستلقاء فوق الأرض الترابية الرطبة التي بالكاد تسعني وأخرج من جيب سروالي الكرة الحمراء و أضعها فوق أنفي ثم أراقب الظلال البعيدة لضوء القمر. حين أخبرت رفيقاي بتلك الحادثة بعد وقت طويل توافقا على صمت مستغرب، ضحكت حينها مثل شخص امتلك حقيقة الموت، بعجرفة وتكبر. أستعيد الآن استلقائي ذاك ولست متأكدا بعد من ماهية الموت لكن بقايا الحلم تنتشلني من غفوتي ومنظر السماء ذات الزرقة المسالمة. أقف وأثبت خطواتي بمهل على الحبل ثم أرفع يدي بتحية مكابرة إلى الأرض البعيدة والعصية على الرؤية تحتي.. قال رفيقي "لا تفكر إلا بالهدف أمامك، سلم منذ الآن أنك ستصل إليه لكن أجل فرحتك إلى لحظة الوصول".. أفكر منذ الآن في الغد، في وحدتي في مواجهة العالم المذهول من جنون رجل فكر في أخذ مهلة للاستراحة، معلقا مثل صقر يراقب فريسته. لم يعد الوصول إلى الجهة المقابلة إلا مسألة شكليات: خطوة ثم أخرى، ثم خطوة أخرى.. وبيني وبين الغد رفيقاي والخيانة التي لا رجعة عنها، سنفرغ زجاجة الشمبانيا أنا ورفيقي ونضحك لكننا سوف نتفادى التحدث عن مشاريع مستقبلية وسوف يشعر بالامتعاض لأن فتاة أخرى ستقترب مني باحثة عن إمكانية التقاط عدوى الحلم وسأحسده قليلا لأنه سيصبح طبيبا.. أقترب من الحد الفاصل بين الفراغ وبين السطح الإسمنتي الصلب فأتذكر لوهلة القبر المفتوح وأتذكر رفيقتي تبحث عني في السرير، ترفض الاستسلام للنوم إن لم أودعها يدي "لن أسمح لك باقتراف مغبة التجول بين الأموات مرة أخرى" كانت تردد، فكنت أستسلم لقيدها الناعم حول أصابعي وبالكاد أنام.. خطوة أخرى ثم ينتهي الحلم أو يبتدئ. أتخلص من عصا التوازن وأجلس على سطح المبنى وأضم خوفي وحزني، ألملمه وأستسلم للحظة ارتباك. أحتاج لجسد رفيقتي لأستعيد التوازن، سآخذها لغرفة الفندق، وسأسمح لعريي بأن يفصح عن فرحي الحزين، سأرتوي من نبعها القدسي وأطلب المغفرة ثم أودعها.. أنا جالس هنا، عاجز عن كشف الزرقة المحايدة لسماء آب، وأعلى لأتمكن من سماع التصفيقات الصاعدة بمهل إلي، تحيط بي هالة الخيانة التي بدأت منذ توقفت عن المشي فوق حبل معلق.. منذ الآن تبدأ أسطورتي الخاصة، أفكر بابتسامتي وحيدة على أغلفة الصحف وأضحك قليلا..