وجدت نفسي أرجع لأعماله الكاملة، وأقرأها مرة أخرى .. توقفت أمام النص الذي لم يضع عنواناً له، والذي بدأه في عامه الأول ب ( باريس ) حيث تحدث ( عنها )، وعن ( الملاءة ) .. هل هي نفس الملاءة الشفافة في نصها عنه، التي ادّعت النوم، عارية تحتها لحظة وداعهما .. استرجعت بامتنان يومياته في المستشفى الفرنسي التي كان يُعالج فيها .. تفكك مكونات جسمه .. القتال لاستعادة الحياة، والكتابة .. انتبهت لعبارة كتبها عن السرتنة، والتفاعل مع صورة الفن التشكيلي .. بكاءه، وهو يتساءل لماذا يصاب بالسرطان في سن الشباب .. كان يفكر في الانتحار قبل المرض .. أصدقاءه، وعلاقتهم بمرضه .. عدم مسؤليته عن الماضي، وعدم ارتباط المرض بعلاقة منطقية مع ذلك الماضي .. زجاجة التبول البلاستيكية الموضوعة بجوار السرير .. العلاج الكيماوي .. ضوء سيارة ضعيف قادر على الصعود إلى حجرته مقابل احتياجه للأسانسير .. الدولاب، والشباك .. يد الممرضة التي كانت تجلس على الأرض بجوار سريره كي تشاركه الدموع. كنت أقرأ بألم، وغيرة .. بفرح، وخوف أنه مات .. أنا لا أعرفه، وعمري ما رأيته، ولا فرحتي بموته التي أصابتني تخصه هو، بل تخص الحياة، أو الخبرة التي عاشها، وسمحت له أن ينام، ويستمتع بامرأة كنت أجلس أمامها كرماد سيجارة أُلقي في بحر .. رغم أنني لو لم أكن أعرفها، وعبرت أمامي، وأنا جالس في مقهى مثلاً، أو مرّت بجواري، وأنا أسير في الشارع عمرها ما كانت لفتت نظري .. لكن المشكلة أنني أعرفها، وأعرف من هي بعيداً عن كونها أنثى .. هذه هي الجائزة الكبرى يا دكتور التي عرفت الآن كأنني كنت ناقصاً أن روائي شاب سبق، وحصل عليها بمنتهى البساطة، ليس هذا فقط، بل خُلّدت لحظة حصوله عليها في نص، حتى لو كان في سياق الكتابة عن موته أيضاً .. كأن الموت هو الثمن الذي كان يجب أن يدفعه بالنسبة لي طالما نام معها، وفي المقابل فإن استمراري في الحياة حتى الآن هي الهدية التي يجب أن تعوّضني عن عدم ركوبها. بين وقت وآخر أنظر في صورته المطبوعة على غلاف أعماله الكاملة .. أحدّق في عينيه، وأتخيله، وهو نائم معها .. أشعر كذلك بالرعب من موته، كأن المرض سينتقل إليّ من كثرة النظر في الصورة، والتفكير فيه .. كنت أرى في حياته القصيرة كل ما لم أقدر أن أجرّبه .. كل ما كنت أتمنى أن أعيشه جزء من رواية (الفشل في النوم مع السيدة نون) الصادرة مؤخراً عن الحضارة للنشر الفشل في النوم مع السيدة نون رأيتها تجلس على مكتب صغير في ( أدب ونقد ) .. بالطبع كنت أعرفها جيداً .. كنت أعرف من شِعرها، ومن الكتابات عن شِعرها، ومن قصص، وذكريات أصدقائها معها، ومما يقوله الجميع عن حياتها أنها أيقونة .. أسطورة شعرية .. أميرة خيالية قادمة من إحدى قرى الدلتا، خلّدت قاهرة التسعينيات بحكاياتها، وانتهكت بكتاباتها سلطة الآباء، والأمهات، والأطباء، والمناضلين، والمؤسسات، والمدارس الشعرية .. ليس فقط لأن شعرها جميل، وفارق، وحاد، وذكي، وعميق، وإنما لأن شخصيتها تحمل نفس السمات .. لم أتكلم معها في المرّتين، أو الثلاثة التي رأيتها فيها .. تأكدت فحسب من مراقبتها أن الملامح التي شكّلها الآخرون عنها حقيقية فعلاً .. طريقتها في إلقاء القصائد .. سكوتها .. كلامها .. ضحكها .. جلوسها وسط الأصدقاء .. مشيّها .. كل شيء يا دكتور .. هي ليست جميلة إطلاقاً، وإنما شاعرة جبارة .. لكن الموضوع أيضاً ليس الشعر فقط .. شخصيتها .. هي ذكية جداً، أو تقدر تقول عندها خبث الفلاحين بزيادة ( نعم أقصد هذا التعبير الانتقامي، المتعالي )، وهذا هو الفرق بينها، وبين أي شاعرة أُخرى كتبت شعراً رائعاً، ومرت معها في نفس الزمن، ونفس الأماكن .. أظن أن ما جعلها ( هكذا ) ليست كتاباتها بقدر التجارب الحياتية التي قررت أن تخوضها، والنتائج التي أرادت أن تخرج بها، التي لم تقتصر بكل تأكيد على أن تكون مجرد شاعرة يُشار إليها كواحدة من قطيع يضم شاعرات جيلها .. تعرف يا دكتور لو كنت نمت معها في هذا اليوم كانت انتهت تقريباً كل مشاكلي .. كنت تقبّلت فشلي في التعليم، وأنني عاطل، ولا أطيق البشر .. كان بوسعي تحمّل موت أسرتي واحداً وراء الآخر .. كان بإمكاني حل مشكلتي مع الموت نفسه، ولم أكن اضطررت للمجيء إلى حضرتك كي أجلس على ( كرسي الاعتراف ) هذا يا عرص .. كأنني هنا كي أجد حلاً، وكأنك هنا لأن معك الحل .. أنت التائه، الممزق، معدوم القدرة، الذي يدّعي الاتزان، والتنظيم، والسيطرة، وتريد أن تختبيء في شخصٍ آخر يستطيع الفصل، والمراقبة، والضبط .. كأننا لا نفهم بعضنا جيداً، وكأننا لم نطرد الطمأنينة للأبد، ولم نضلل مُخبري العائلة، ولم نلقِ بمعقوليتها خارج الغلاف الجوي .. أنت تحاول أن تكون مثلهم: لا تبحث عن ما سيتضح تدريجياً، وإنما عما هو حاضر، معروف، ولكنه يهرب أختي عمري ما رأيت جسمها إلا مرتين تقريباً، وبشكل خاطف جداً ومن زوايا بلهاء .. كان ذلك غالباً قبل أن أدخل الابتدائي .. كانت تغيّر ملابسها، ورأيتها تخلع سوتيانها بقوة لأعلى؛ فاندفع ثدياها بعنف لأسفل، ولم يكونا صغيرَين جداً .. كنت أقف وراءها من الجانب الأيمن، وهذا منعني من رؤية شيء سوى الحافة الخارجية لثديها الأسمر .. المرة الثانية كانت حينما طلع لها تقريباً دمّل بين فخذيها، وأتذكر أنني رأيت شفرتي مهبلها، وهي تفحصه .. قطعتان سوداوان، ملزّقتان من الجلد المتشقق المضغوط .. طبعا حضرتك ستسألني كيف عرفت أنه كان ملزّقاً، سأقول لك أنه كان واضحاً عليه لمعان سائل، لكنه ليس بللاً .. صدقني كان تلزيقاً .. الواحد يقدر على التفريق بالنظر حتى لو كان طفلاً صغيراً .. ستكون هناك مشكلة كبيرة بالنسبة لأمك يا دكتور لو لمحت الآن أي أثر لهياج على ملامحك جزء من رواية (الفشل في النوم مع السيدة نون) الصادرة مؤخراً عن الحضارة للنشر