كتبت سلمى هشام فتحى إنها رواية يكره كاتبها غلافها الجميل حتى لا يسرق الغلاف انتباه القراء، وينشد الكمال ويعترف أمام الكل بخوفه من آراء القراء في روايته. الرواية هي "رحلات ابن البيطار" والكاتب هو الصحفي وكاتب السيناريو المصري السكندري علي بريشة، أما دار النشر فصفصافة. يستخدم الكاتب في روايته زمنين هما القرن الثالث عشر الميلادي والقرن الواحد والعشرين وهما من الأزمنة التي اُعتبر فيها التفكير جريمة، فيتحدث عن البابا في روما والخليفة العباسي، عن فكرة الغرب والشرق التي تتكرر طوال الرواية. يصف د.يسري عبد الله – الناقد بجريدة الحياة اللندنية- ترتيب الرواية ب"مقلوب البناء" فهي تبدأ بالخاتمة ثم التمهيد ثم الرحلة الثانية فالأولى، هذا الترتيب غير الاعتيادي للفصول يبدو جاذبا للانتباه. تتناول الرواية الأزمنة المليئة بالصراعات ومنها صراع الهوية فالدكتور دانيال محمد عبد الرزاق ينتمي لإسكندرية قديمة تعشق البحر وليست تلك التي يسيطر عليها السلفيون والإخوان المسلمون بفظاظتهم ومطاعمهم وقنواتهم التي يفسرون بها الأمور على هواهم، أما نجم الدين ابن البيطار فصراعه هو صراع للبقاء والحياة مع قوة عنيفة ومتوحشة بعيدة كل البعد عن الارتقاء بالإنسان هي التتر والتي لا تختلف عن القوة الغاشمة المرادفة لها في الوقت الحاضر. أما اسم دانيال فيستخدمه الكاتب في موقف شديد القوة وهو الحوار بين الشيخ الشاب حسني والأب المثقف اليساري والد دانيال. فالأول حاول إقناع دانيال بتغيير اسمه معتقدا أن "ضريح ومسجد النبي دانيال" الشهير في الإسكندرية يخص أحد الأنبياء وأن التشبه باسمه حرام، بينما يخبره الأب بأن "محمد بن دانيال الموصلي"، هو أحد علماء الشافعية في القرن الثامن الميلادي والذي سمي الجامع باسمه، وكان فقيهاً عالماً جاء إلى الإسكندرية من الموصل وأقام بها ودرس في مساجدها حتى مات سنة 810 ميلاديا. الأب -الباحث والسياسي- شخصية في غاية الجاذبية تمثل مناضلي الحركة الطلابية في فترة السبعينيات والتي كانت في أوجها في الفترة من 1968 وحتى 1972، ذلك الجيل المنسي الذي لم يسجل نضاله في 28 يناير 1972 إلا قصيدة "الكعكة الحجرية" لأمل دنقل. لقد بحث الكاتب عن أي ذكر للواقعة في الجرائد والمطبوعات الصادرة في ذلك الوقت فلم يجد، وحتى إنتاج الأدباء الذين تعرضوا للاعتقال في هذه الفترة كرواية "بيت النار" لمحمود الورداني و"الجزيرة البيضاء" ليوسف أبو رية وكتابات فتحي إمبابي –والتي تمثل رؤية لتلك الأحداث من الداخل- لم يتم إلقاء الضوء عليها كما يجب. يحيلنا ذلك التجاهل لما ورد في الجرائد الحكومية اليومية في بدايات ثورة 25 يناير 2011 وإلى يوم جمعة الغضب الذي يتذكره دانيال ويتذكر أبيه فيتمنى لو أنه مازال حيا ليشهد حلمه في النضال الذي أفنى فيه عمره وهو يتحقق. لكن مشهد ثورة 2011 ينقله لنا دانيال من الإسكندرية التي لا يخفي انحيازه لها، يقول: "أعشق الإسكندرية ... حتى روما الرائعة المزدانة بسيوف الرومان، ورخام الرنيسانس، وصلبان البابا وذهب جميع العصور أضحك عندما يقارنها أحدهم بالإسكندرية، ويعتبر أن صراع الحضارة في تاريخ البحر المتوسط كان بين غريمتين تقفان موقف الندية ... روما التي لا ترى شوارعها البحر كيف تكون سيدة للمتوسط العتيق بينما الإسكندرية الحاضنة للبحر المحضونة بأمواجه قد حسمت علاقتها به منذ أبد الوجود". ينظر دانيال إلى تباشير وبدايات الثورة المصرية من الخارج نظرة المتوجس نظرا لما تعرض له من تمييز بسبب عمل أبيه بالسياسة، يقول: "الطلاب يتجمعون في حلقات يملؤها الحماس وألوان البهجة .. قوس قزح من الاتجاهات والأفكار والتيارات المتجانسة رغم اختلافاتها ... تغيير العالم أصبح عند متناول الأنامل وطاقة الشباب تستطيع أن تغيره .. تستطيع أن تردم البحر وتهدم الجبال .. ولكن هل تستطيع يا ترى أن تبنيها من جديد"؟. رواية "رحلات ابن البيطار" لا تخلو أيضا من التناص مع الكتاب المقدس والقرآن وبعض نصوص المقريزي وأمل دنقل فمثلا لا يخفى التشابه بين رحلة ابن البيطار وأمه مريم ويوسف الكلاف ورحلة العائلة المقدسة وأيضا قصائد دنقل التي تتخلل النص. يوضح هنا الناقد د. يسري عبدالله لعب الكاتب مع النص نفسه وليس في فضائه. أما الفصل الأخير من رواية "رحلات ابن البيطار" فاستخدم فيها الكاتب أسلوب المزج بين فقرات من القرن 13 وفقرات أخرى من القرن 21. أخيرا، هناك تناص بين شخصيات الزمنين الذين تناولتهما الرواية يبدو أوضحهما بالنسبة لي حسان الموصلي المنتمي لجماعة الحشاشين -وهي جماعة سرية حقيقية في التاريخ اشتق الغرب من اسمها كلمة Assassin والتي تعني القاتل المأجور- والبروفيسور العراقي عبد الحسين الجعفري. رواية "رحلات ابن البيطار" من الروايات الفريدة التي تمتاز بجو خاص سحري يؤطره التاريخ.