حتى لا نتوه... القينا الضوء سابقاً على العنصر الأول للثورة المصرية، وهو الطبقات الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير، وهم الطبقة العاملة، وطبقة الفلاحين، والحرفيين، والفقراء والمهمشين، وطبقة البراجوازية الصغيرة، والشرائح الدنيا والوسطى من الطبقة الوسطى التقليدية، في خمسة مقالات منفصلة على نفس الصفحة، وسألقي الضوء في هذا المقال على العنصر الثاني للثورة المصرية، وهو القوى الاجتماعية السائدة (اي المالكة، والحاكمة، المستفيدين منهما). حسب تصريحات الدكتور عادل عامر، رئيس مركز المصريين للحقوق السياسية والقانونية والاقتصادية، ان نسببة 20% من السكان يملكون 80% من الثروة، وأن نسبة 1% من هذه الطبقة يملكون 50% من اجمالي تلك الثروات، في حين تملك نسبة ال 99% الباقية نسبة 50%، وتعتبر هذه الطبقة المحصورة في نسبة 1% فقط من السكان، هي السائدة وتستولى على السلطة في مصر، وتتصدر هذه الطبقة أربعة فئات اساسية تتشكل منذ حقبة السبعينيات وحتى الآن وهي. اولاً: الرأسمالية الطفيلية، وهي رأسمالية غير منتجة، يتركز نشاطها في الاقتصاد الريعي وراسمالية المحاسيب، وتتكون من كبار رجال الاعمال التجاريين، والمستوردين لجميع السلع الترفيهية، وكبار المضاربين العقاريين والماليين، وكبار الوسطاء، وجميع المحتكرين للانشطة الاقتصادية، وتضم عدد كبير من قادة القطاع العام وكبار البيروقراطيين سابقاً، بعد ان نهبوا اموال الشعب في مواقعهم، وتشمل جميع الاشخاص الذين يطلق عليهم مليارديرات أو مليونيرات دون تحديد اعمالهم او انشطتهم، وكانت هذه الطبقة سببا رئيسياً في تدهور الصناعة الوطنية، وتهميش دورها في الائتلاف الحاكم، حتى انتهى بها الامر من الخروج نهائياً من المعادلة السياسية، وتم اغراقها بالديون، والاعباء المتزايدة، واصبحت فريسة للأجهزة الحكومية الفاسدة، وتسبب هذا الائتلاف الطبقي الحاكم في ضرب مشروع التنمية المستقلة، والتخلي عن الثوابت الوطنية والقومية، واستمرت منذ حقبة السبعينيات من القرن الماضي، الحاضنة الاجتماعية لسلطة الفساد والاستبداد في مصر، وتكونت أغلب ثروات هذه الطبقة من عمليات الفساد، ومع وصول مبارك للحكم، اكمل نظام الاحتكار، وقنن اوضاع هذا الطبقات، بمنظومة من القوانين الفاسدة، عن طريق المجالس النيابية المزورة، ويعتبر هذا الاحتكار كارثة مصر الكبرى الآن، مما ضاعف اسعار جميع السلع والمنتجات بشكل جنوني، ويعتمد نظام الاحتكار كما هو معروف على الفساد والاستبداد بالدرجة الاولى، وتعوق هذه الفئة اي محاولة للتنمية المستقلة، المعتمدة على الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية. ثانياً: جميع قادة الجهاز الاداري للدولة (كبار البيروقراطيين)، وكان هذا الجهاز العتيق في مصر، والذي يعتبر اقدم واعرق جهاز بيروقراطي في التاريخ، وشكل صلب الطبقة الوسطى على مر العصور، ومع ظهور طبقة الراسمالية الطفيلية ربيبة الفساد والاستبداد، ابتداءً من منتصف السبعينيات، تم افساد اغلب قادة الجهاز البيروقراطي، ومن لم يتأقلم مع هذه المتغيرات سقط الي مصاف الفئات الوسطى بل والدنيا من الطبقة الوسطى، وتضخمت ثروات كبار البيروقراطيين بشكل لا يلائم طبيعة عملهم، بل واصبح كثيرا منهم من كبار الملاك والاثرياء ورجال الاعمال، وتعتبر كل ثرواتهم ناتجة عن متلازمة الفساد والاستبداد، وحسب مركز البحوث والدراسات السياسية بجامعة القاهرة 2009م، فان تكلفة الفساد تقدر بحوالي 63 مليار جنية سنوياً، وحسب تقرير المؤسسة المالية العالمية للشفافية، فان خسائر الاقتصاد المصري جراء الفساد تقدر بنحو 343.2 مليار جنيه مصري خلال الفترة من 2000 إلي 2008 فقط، و تشير تقديرات المؤسسات المالية العالمية المبدئية إلي أن المبالغ التي خرجت من مصر بسبب الفساد تتجاوز في مجملها 150مليار دولار، وتعتبر هذه الفئة من اهم ركائز النظام الحاكم، الذي لا يمكن ان يعمل بدونه، حتى ان عمر سليمان في احد اجتماعاته مع بعض السياسيين اثناء ثورة 25 يناير، وعد بتنفيذ أغلب مطالبهم، باستثناء المساس بتلك الفئة، وكيف لا وهو أعلم الناس بوظيفتهم في هذا النظام، ويعتبر نجاح الثورة في تحقيق اهدافها، مرتبط بالقدره على ازاحة هذه العناصر، ومحاكمتهم ومصادرة اموالهم لصالح الشعب، وخاصة ان اغلبهم يحظون بعداء شديد من الجماهير. ثالثاً : تجار المخدرات والسلاح، حيث صعد تجار المخدرات والسلاح، لمرتبة متقدمة في السلم الاجتماعي، نتيجة لنفس السياسات، وبسبب ترهل الجهاز البيروقراطي، وخاصة الجهاز الامني، وتركيزة علي مناهضة القوى السياسية والمجتمعية الرافضة لسياسات الليبرالية الجديدة، ومشروع الشؤم المسمى بالتوريث، وبحكم توافر الظروف الحاضنة لهم من فساد وبيع للذمم والضمائر، تمكنوا من دخول المجالس التشريعية ( مجلسي الشعب والشورى)، سواء بصفتهم الشخصية او عن طريق زويهم، ليتمتعوا بالحصانة البرلمانية، وحسب تصريحات مدير عام مكافحة المخدرات بوزارة الداخلية، فأن حجم تجارة المخدرات في مصر وصلت 23 مليار جنيه سنوياً، وبذلك اصبحوا جزأً اساسياً في التحالف الحاكم، وبحكم نشاطهم وارتباطهم بالعصابات الاجرامية، كانوا عنصراً أساسياً في كل ما قامت به عصابات الاجرام (البلطجية)، في الثورة المصرية بجميع مراحلها والتي كانت اهم اسباب متاعب قوى الثورة المختلفة. رابعاً: الجهاز الاعلامي الرسمي، وبعض الاعلام الخاص، و كبار الصحفيين الذين خدموا الانظمة الفاسدة والظالمة والمستبدة خلال الاربعين عام ما قبل الثورة المصرية، ونتيجة للطبيعة الفاسدة للطبقات الاجتماعية السائد، وعدم تبنيها لاي رؤية للتنمية الاقتصادية او الاجتماعية او الثقافية، للنهوض بالبلاد من كبوتها، كان طبيعياً ان يصعد انصاف الموهوبين بل ومعدومي المواهب الى القمة في المؤسسات الثقافية والاعلامية، حتى يسهل تجنيدهم لخدمة الفساد والاستبداد، وامتلأت الآلة الاعلامية بجيش منظم من كلاب الحراسة، تنبح بشكل مستمر، على اي صوت حر او كلمة صادقة، وتهاجم كل المطالبين بالتغيير بصرف النظر عن الانتماء السياسي، وكانت اهم ادوات الطبقات السائدة في محاولاتهم لاجهاض الثورة المصرية في 25 يناير 2011م، وما زالت عناصر هذه الفئة تبحث عن دوراً لها في مصر الجديدة بعد الثورة، ومازال الوقت مبكراً للحكم على نجاحهم او فشلهم في القيام بنفس الدور، لان ذلك يرتبط بطبيعة الحكم بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة، ولا يمكن الحكم عليهم من محاولاتهم الحالية لانه امر طبيعي من امثالهم، ولكن المهم هو مدى استجابة السلطة الجديدة لهذه المحاولات. وتشكل هذه الفئات من التحالف الطبقي الحاكم، ما يسمى باليمين المحافظ الراديكالي (المتطرف)، اي انه يؤمن بالارتباط الكامل والتابع للرأسمالية العالمية، وسياسات السوق الحر، ويرفض اي تغيير، حتى لو كان في الشكل السياسي للحكم، ويفزع من اي مطالب بالعدالة الاجتماعية، ويعتبر الحاضنة الاجتماعية لسلطة الفساد والاستبداد، وهو تيار التفريط في الثوابت الوطنية والقومية بامتياز، و اطلق عليهم بعد الثورة المصرية (اليمين الفلولي)، ويعتبر التيار الاكثر تأثيرا وحضوراً في الساحة الاجتماعية والسياسية في مصر حتى الآن، وكان يمثلهم الحزب الوطني سابقاً، ولم تسقر لهم اجزاب بعد الثورة. خامساً: جميع تيارات التأسلم السياسي، حيث أكمل السادات مسلسل الظلم والفساد والاستبداد الذي بدأه في منتصف السبعينيات، بالتخالف مع قوى الاسلام السياسي، بجميع مدارسه وفصائلة، على ان تقوم جماعات التأسلم السياسي بضرب القوى السياسية المعادية لسياسات التبعية الاقتصادية والسياسية والتفريط في الثوابت والوطنية والقومية التي اتبعها السادات، وخاصة في الجامعات، وبصفة خاصة التيار اليساري بجميع فصائلة، سواء اليسار الاشتراكي، او اليسار الناصري، مقابل الافراج عن جماعات التأسلم السياسي، وافساح المجال لهم مجتمعياً، وبذلك اكتمل جناحي النظام في مصر، باتفاق ضمني غير معلن، يتم بموجبه سيطرة اليمين الراديكالي المحافظ (الفلولي)، بقيادة الحزب الوطني على السلطة، ويسيطر تيار التأسلم السياسي على الشارع والمجتمع المدني (متخذاً شكلا معارضاً)، واستمر هذا الوضع حتى قامت هذه الجماعات بقتل السادات، في وسط جيشه، وامام اعين جميع اجهزته الامنية، وبوصول مبارك للسلطة تضخمت ثروات اغلب قيادات وعناصر تيار التأسلم السياسي في مصر، وشكلوا شلل اقتصادية على نفس نمط عصابات مبارك وجمال مبارك، وعملوا في نفس مجالات الاقتصاد الريعي، والسلع الاستهلاكية، وشركات توظيف الاموال، والاستيراد من الخارج لمعظم السلع، واصبحوا عنصرا اسياسياً في الائتلاف الطبقي الحاكم بعد حصولهم على نسبة كبيرة من الاقتصاد المصري، وحسب تصريحات ثروت الخرباوي القيادي السابق بتنظيم الاخوان المسلمين، ووفقاً لتقارير دولية كثيرة، فأن ثروات تنظيم جماعة الاخوان المسلمين فقط تقدر بحوالي 180مليار دولار، وهو ما يعادل ميزانية عدة دول عربية مجتمعة، وبحكم وضعهم الطبقي الجديد، والمتميز في الشكل عن السلطة الحاكمة، اصبحوا منافساً لها، ولكن لخدمة نفس الطبقات، واصبح بحكم المصالح المشتركة، كلا منهما ظهيراً استراتيجياً للآخر، عندما يغيب احدهم لاي سبب، يأتي الآخر مكانه ليحل محلة، يتبع نفس الاستراتيجيات، ويخدم نفس الطبقات، وكانت تلك الصفقة في تقديرنا اكبر جريمة سياسية في عهدي السادات ومبارك، لتبعاتها الكارثية على الحركة السياسية في مصر والتي نحصد نتائجها حتى الان، وتعتبر اهم اسباب التجريف السياسي والثقافي والفكري في مصر، واهم معوقات تحقيق الثورة المصرية لاهدافها، في موجاتها الكبري في 25 يناير 2011م ، و30 يونيو 2013م، وتشكل هذه القوى التيار اليميني الديني الراديكالي ( المتطرف)، وهو يؤمن بشكل كامل بالنظام الراسمالي، والسوق الحر، والارتباط الكامل بالراسمالية العالمية، ولا يختلف عن اليمين الفلولي سوى في المظهر الخارجي فقط، ويزيد عنه في السوء بالنزعة الفاشية والظلامية والرجعية. ويشكل كلاً من هذين الجناحين، للطبقات الاجتماعية السائدة ( اليمين الراديكالي الفلولي، واليمين الراديكالي الديني)، ما يسمى بالتيار اليميني المتطرف، ويعتبر التيار المعادي لأهداف الثورة المصرية. والآن ونحن نرى مصر تتشكل من جديد، ويدخل الشعب المصري، المعادلة السياسية، لأول مرة في تاريخه، وبقوة وفاعلية، ممثلا في القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير السابق الاشارة اليها، بوعيها ويقظتها وحالتها الثورية الراهنة، وطليعتها السياسية المعبرة عنها، ممثلة في التيار اليساري الاشتراكي (الاشتراكي الراديكالى، والاشتراكي الديمقراطي)، واليسار الناصري القومي، بجميع فصائلة واحزابه، والتيار الليبرالي الوسطي بجميع فصائله واحزابه، والقوى الثورية الطلابية والشبابية المدنية والتقدمية، والمثقفين الثوريين، ومنظمات المجتمع المدني بجميع انواعها، وطبقاً لخارطة المستقبل، والدستور المصري المعدل، من المفترض ان تكون الفرص متساوية وعادلة ومتوازنه للجميع، وان تكون العملية السياسية سليمه ومستقيمة وشفافة، بحيث تسمح لهذه الطبقات ان تحصل على ما يناسب حجمها في السلطة والثروة، وان تعي الطبقات السائدة ( المالكة والحاكمة واتباعهم)، ان لجوء الشعب المصري للحل الديمقراطي، ليس تساهل منه في حقوقه، ولا ضعف منه، ولا انهزام، ولكن هو موقف القوي الواثق من تحقيق اهدافة بالطريق الديمقراطي، حيث أن حجمه وثقلة الاجتماعي، وحجم مشاركته في النشاط الاقتصادي، تسمح له بأن يحوز على الاغلبية البرلمانية، ورغبة منه ومن طليعته السياسية، في تجنيب مصر ويلات الحرب الاهلية. وعموما سنرى قريباً هل ستحترم هذه الطبقات السائدة، مبادىء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، ام ستواصل غبائها وجشعها وظلمها وفسادها واستبدادها وتفريطها في السيادة الوطنية والثوابت القومية، محدثة بذلك الثورة الاجتماعية الشاملة، واضعة الشعب المصري امام خياراً واحداً، لاكمال ثورته التي ضحى وسيضحي من اجلها.