قالت زوجتي وهي ترتجف " في بيتنا فأر ، رأيته كبيراً سميناً طويل الذيل والشارب واقفاً فوق البوتاجاز . " أسرعت إلي المطبخ ، لم أر صاحب تلك الأوصاف .. قلت لها " لا شيء بالمطبخ ، ربما هو شبح فأر " قالت بغضب وعناد " ما رأيته كان فأراً حقيقياً من لحم ودم وليس خيال ، رأيته مثلما أراك واقفاً الآن ، سأحمل متاعي وأرحل إلي بيت والدي حتى تقتله أو تطرده .. أين أجد هذا الفأر الذي فعل بزوجتي ما لم استطع فعله طيلة سنوات ، في لحظات طرد المرأة التي كدّرت صفو حياتي ، أصبحت بفضله أنعم بسكون وسكينة الآن ، لم أتصور أن فأراً مهما علا شأنه يمكن أن يهدد حياتي الزوجية الهشة.. وكان حتماً أن أقتل الفأر حتى ترجع أم الأولاد إلي الدار ويسعد قلب الصغار .. مضي يومان وأنا حائر أترقب ظهور الفأر اللئيم في أي مكان ، ظهر الماكر أمامي فجأة وأنا أقرأ وأقضي حاجتي في الحمام ، نظر إلي ضاحكاً مستبشراً بطول العمر والسلامة ودوام الحال ، هز ذيله ساخراً ومشي علي مهل خارج الباب ، ذهب يبحث عن قوت يومه تحت السرير أو في المطبخ كما يفعل في سائر الأيام . مضي علي تلك الواقعة يومان والماكر قابعاً في جحره يتسلي بتناول الطعام .. وقفت ذبابة علي وجهي وأنا أكتب شيئاً في صالة الطعام ، طردت الذبابة السمجة ، فجأة لمحت بطرف عيني ذيلاً يتلوي ، هرعت مسرعاً أبحث عن فردة حذاء أقذف بها صاحب الذيل ، عدت فلم أجد أثراً للمراوغ الجبان ، توجهت أسفل السرير حاملاً في يدي فردة حذاء ، انبطحت أرضاً ، زحفت أبحث في الظلام الدامس عن فأر رمادي وسط النعال السوداء ، بحثت داخل أحذية الأم و الأولاد ، أحذية منذ فجر الضمير إلى مكائد حواء ، ضاع جهدي هباءً في هباء . أصابني القلق الفيراني باضطراب عصبي فقررت أخذ أسبوع أجازة من العمل تفرغاً لحسم موضوع الزوجة والفأر .. في الليل تراودني أحلام أن الفأر خرج من مكمنه مستسلماً رافعاً ذيل المذلة والعار ، تمنيت لو يخرج من بيتي بغير رجعة وكفي المؤمنين شر القتال ، و تمنيت أشياء كثيرة في أحلام اليقظة حتى ينعم بيتي بالسكينة وراحة البال .. ذات ليلة صيفية جميلة باردة النسمات كنت فاتحاً نافذة حجرة نومي طارحاً ملابسي عن جسدي إلا لزوم الإحتشام ، مشى على وجهى جسم غريب ، استيقظت مذعوراً من نوم لذيذ و أحلام ، انتفضت جالساً مفتوح العينين أتلفت حولي بحثاً عن الجاني لأنزل به أشد العقاب ، لمحت طرف ذيله تحت السرير يلعب في ظل المصباح ، حملت عصا المكنسة ، هاجمته بقوة وسرعة ، اصطدمت العصا بفخدة السرير فتحطمت في الحال .. تبخر النوم من نافوخى ، ملأني الغضب قلقاً ، أقسمت برأس أبي وأمي لأقتلن هذا الفأر يوما ما ، و قضيت الليل أبحث عن الماكر في كل مكان . في الظهيرة طابت القيلولة ، غفوت عوضاً عن الليل بضع ساعات ، أيقظتني صرخات ابنتي ، وثبت من نومي واقفاً علي قدماي كالزنهار ، ماذا بك يا ابنتي ، أفصحي أجيبي في الحال .. قالت في سعادة غامرة " الفأر حبيس الحمام الآن " ، قلت بسرعة " سدي عليه المنافذ بقديم الثياب ".. قالت " قم اقتله يا أبي ترجع إلينا أمنا ، أقتله يلتئم شمل أسرتنا .. اقتله يصفو لنا قلب الأم يا صاحب الدار .. أخذت كامل الإستعداد لنزال الفأر في الحمام ، أمسكت في يدي اليمني عصا وفي الأخرى كشاف كهربائي ورشاش جاز ، خلعت الجلباب ولبست سروالاً طويل الأرجل يكسو السيقان ، ارتديت زوج جوارب ثقيلة وحذاء شددت عليه الرباط .. في حذر وتوتر تقدمت داخل الحمام خطوات ، بسرعة مذهلة أغلقت الباب خوف فرار الفأر ، وجها لوجه أصبحت أنا و الفأر ، تحسباً لحركة غدر مفاجئة ، وقفت متماسكا ماسكاً هيبتي من الإنهيار .. خارج الحمام وقف الأولاد حاملون العصي والشباشب ، تركوني وحيداً أواجه مصيري و الفأر.. قرأت المعوذتين و نطقت الشهادة ، تقدمت في ثبات زائف أبحث عن غريمي فى الأركان ، رأيته متكوراً تبرق عيناه ، متحفزاً لأي حركة غدر من جانبي ، أحسست بعرق يسيل تحت إبطي وشعر جسمي نافراً ، صوبت نور الكشاف لأتبين ملامح غريمي ، رأيته ينتفض خوفاً و ذيله يرتجف فى اضطراب .. تأهبت خلايا جسدى للقتال .. و بدأت المعركة ،عاجلته بنور قوى من الكشاف ، أصيب بالحول و العشى الليلي و عمى الألوان ، أطلقت دفقة قوية من رشاش الجاز ، افقدته الوعى ثم أفاق ، استجمع أشتات فكره وكل قواه ، انطلق نحوي كالسهم يريد المرور من فتحة أسفل الباب ، قفزت في الهواء حتى لامست رأسي سقف الحمام ، نزلت علي قدمي واقفاً ، شعرت تحت حذائى بجسم يتلوي يكاد صراخه يمزق الأكباد ، خففت الوطأ قليلاً.. وضعت يد المكنسة علي عنقه ، صرخ مستغيثاً برحمة السماء .. دار في ذهني شريط الذكريات ، تذكرت اهتزاز كرامتي أمام زوجتي بسبب هذا الفأر ، استرجعت ذاكرتي ليال قضيتها في سهاد خشية عضاته في الليل و الأحلام ، قفزت أمام عيني تهديدات زوجتي ورحيلها غير مأسوف عليها إلي دار أهلها ، تردد في أذني وعيد زوجتي بخلعي والعيش بعيداً عن الفئران في سلام .. قضيت وقتاً طويلاً في الحمام مذبذباً بين زوجتي والفأر ، هل أقتله و تعود الأم للأولاد ، هل أتركه بعد أن يعطينى وعداً بالعيش بعيداً عن بيتي في سلام ، هل اطلق سراح المسكين ليلهو فى بيتى و أعيش وحيداً بغير زوجة أو منغصات ، هل أقتله ليلتئم شمل الأسرة ، صار مصير بيتي و زوجتي و أولادي و الفأر معلقاً في تلك اللحظة التاريخية الحاسمة بكلمات وقرار ، صرخت ابنتي : اقتله تفرح أمى ، صرخ المسكين طلباً للعفو والرحمة و الرفق بالحيوان ، صرخ داخلي متى السلام و استقرار الدار ، تشابكت الصرخات و مازلت أفكر ولم أصل بعد إلي قرار ..