في دراسة لي سابقة حول (تاء التأنيث الشعرية – قراءة إصغائية لسبع شواعر من الشمال) رصدت سبع تجارب شعرية نسوية من الشمال متضايقة ومتجاورة في الزمان. و كان الشمال يعني جغرافيا مدنا و حواضر رئيسية، كتطوان و أصيلة و القصر الكبير، وكانت تطوان رابطة عقد هذه الحواضر من حيث عدد الأسماء الشعرية الناعمة. وها هي ذي شاعرة شمالية أخرى، خرجت من تحت جناح الحمامة البيضاء تطوان، لتواصل الشذو و الغناء. الشاعرة بهيجة البقالي القاسمي. وها هي ذي باكورتها الشعرة الأولى تأتينا متوجة بهذا العنوان الفاتن اللافت (صراخ الصمت) . عنوان فيه طباق بلاغي و مفارقة Paradoxe و ثنائية ضدية و يثير فضولا و علامات استفهام متناسلة ، سنحاول الاقتراب منها في هذه الورقة – العجالة . وعلى ذكر تطوان و قبل اجتلاء واكتناه هذا الصراخ – الصامت أو هذا الصمت – الصارخ في المجموعة، أرى مناسبا و جديرا، كحسن استهلال، أن نستمع إلى نص فضائي احتفائي في المجموعة، يجوب بنا بعشق و حميمية شوارع و صواري و أزقة تطوان ، متماشيا بأركانها كما فعل الشاعر القديم (و تمسح بالأركان من هو ماسح) . نقرأ في صفحة 2 – 3 ، من نص (هذيان) تناديني الأزقة وأتحدى الأشواك أستسلم للأشواق على زرابي اللؤلؤ و المرجان بدءا من "فدان" الأقحوان أتناسى في "طرافين" الذهب وألهو في "غرسة" الغضب أعانق "مصداع" الأسماك و أرقص في "رياض العشاق" أمر بسبعة أبواب تغمرني "سُكينة" و أهرول الى "زيانة" أتذكر طهر الأرواح و صفاء الأبدان ................... لن أنساك ما حييت يا مسقط رأسي... يا " تطوان " أُثْبتُ هنا هذا النص على سبيل الاستهلال، لأنه يقربنا مباشرة من لغة الشاعرة و طريقة شذوها، و لأنها تحية وفاء جميلة لتطوان، و ليس بدعاً إذن ، أن يخرج كل هذه الشواعر الناعمات من تحت جناح تطوان. فتطوان في حد ذاتها قصيدة شعرية . وحين استلمت مجموعة صراخ الصمت من طرف الصديق الفنان و المؤطر أحمد بولعيش وسيم، و هو أستاذ سابق للغة الفرنسية بتطوان، أخبرني أن بهيجة البقالي القاسمي، كانت من ضمن طلبته في القسم الفرنسي ، و قد فوجئ بها تطلع شاعرة بالعربية. و شخصيا، قاسمته المفاجأة الجميلة. مفاجأة الانتقال من الفرنكفونية إلى العربية من لغة موليير إلى لغة المتنبي. إنه انتقال جميل بين اللسانين و اختيار سديد لبيب للعربية، كلغة بوح و وجدان، كلغة شعر و شعور، و اللغة دائما ، مسكن للذات والوجود، كما قال "هايدرج". و لهذا الانتقال و هذا الاختيار بالطبع، كما يحصل عادة في الانتقالات و القطائع، بعض الانعكاسات و المظاهر اللغوية و التعبيرية.و هو ما يتجلى في لغة الشاعرة بهيجة البقالي، فهي لغة طَلْقة و تلقائية و موتورة، تصدر عن الشاعرة كالطلقات السريعة المشحونة. وهذه أولى مظاهر وأَمائر صراخ الصمت في المجموعة. والملاحظ، أن الإبداع النسوي بشكل عام، طافح بصراخ الصمت، وفورة الوجدان و اللسان. و من منّا لا يتذكر المجموعة القصصية الأولى في المغرب ( ليسقط الصمت ) لخناتة بنونة ؟ ! هذه الظاهرة الإبداعية لمَستُها بجلاء أيضا عند جلِّ شواعر الشمال خاصة، و المبدعات المغربيات و العربيات بعامة. في بداية المجموعة، تتهيب الشاعرة و تتحرج من دخول الكلمة و الإبداع . لا أريد دخول عالم ...ليس لي بل أكتفي بمعبدي فلا تسخر ... من تطفلي و لا تقيد ... حرّيتي ص- 7 هكذا، إذ تعلن حريتها و تنزع عنها منذ البدء أيضا ، تقتحم عالم الكلمة بكل جرأة و تحد و ثقة و كبرياء ...كاشفة عن مكنونها و مكبوتها، وصارخة بصمتها شعرا،بما يجعل جدلية الصمت و الصراخ هي التيمة الشعرية و الدلالية المركزية في المجموعة،كما يلوح ذلك بدءاً من عنوان المجموعة. فما سرُّ و ما خبر هذا الصراخ الصامت، أو هذا الصمت الصارخ؟ ! سنجلو هذا في المجموعة. هي إذن، باقة نصوص تصرخ في وجه الصمت، بل يمكن اعتبار المجموعة برمتها، صرخة في وجه الصمت، أو صرخة من قلب الصمت. لكنها إلى ذلك، قصيد أو نشيد عاطفي غرامي يطفح حبا و هوى و جوى و حنينا... و تلك هي المفارقة الشعرية في هذه المجموعة. صراخ و غناء، ثورة و استسلام، مد و جزر، و لنَقْترب من المجموعة قليلا لنرى كيف يصرخ هذا الصمت،و لنستمع إلى الشاعرة،أو الأنا الشاعرة في المجموعة، و هي تصف ذاتها و تنطق بلسان حالها... أنا من حملت الحب بين ثنايا صمتي سلاما و من صراخ الصمت نسجت وساما أنا من أمطرتني السماء شموسا وأقمارا تضيء دجى الليل وخيط الظلام أنا من أخذني البحر مابين صعود وانحدار ومن لؤلؤه أهداني الربان مقاما أنا أنثى الصمت أنا العشق أنا الحب أنا السماء التي تنشدني الأرض ص 46 والشاعرة إن كانت ترسل الكلام طلقا بلا قيد، فهي تستحضر إيقاع القافية بين الحين و الآخر،رأباً للصدع. ولعلَّ صراخ الصمت في المجموعة، ناجم عن صمت الآخر صمت الهو. صمت الرجل قسيم المرأة و خصيمها في آن. يظهر و يتوتر ظهور صمت الآخر في أكثر من موضع في المجموعة. نقرأ على سبيل المثال، في ص 21 أطلق سراح صمتك دعه يتخلص من قيود أسرك لقد أدميت معصمه و في ص 81 همسك الصاخب يأمرني صمتك الرهيب يشدني و في ص 115 كلما لمست أطراف أناملي... وجهك يفاجئني صمتك يعيدني إلى أسرك وهكذا يمضي البوح على امتداد نصوص المجموعة. حتى لا يبدو الآخر و كأنه بوذيٌّ معشوق. وهذا ما هو حاصل فعلا. فمع صمت الآخر، الذي يستفز الأنا في المجموعة، فهو موضِع و موضوع للحب، هو الحبيب الذي ترتل في حضرته و غيابه تراتيل و مواويل الحب و الغزل، بما يجعل الحب تيمة شعرية أساسية أخرى في المجموعة بعد تيمة الصمت، إن لم نقل قبلها. لنستمع إلى هذا النص العاطفي الغزلي الشبيه بأغنية، و الذي يقدم الوجه الآخر للغزل،/ غزل المرأة في الرجل/ اسألوا نبضي عنه ابحثوا عنه في شراييني هو حبي الأبدي هو ضياء نور القمر نسيم موج البحر عطر الورد و الزهر هو رفيقي في السفر مظلتي وقت المطر وانيسي في السحر هو اخضرار أوراق الشجر هو كبرياء كل البشر هو روحي و عمري أروع ما أهداني القدر ص 61 نقلتنا الشاعرة بهيجة إلى حضرة عاطفية رومانسية ما أحوجنا إليها في هذا الشتاء العربي القارس . هذه حقا، هي اللغة الشعرية و الشعورية التي تتقنها المرأة على مر الأزمان... و ما صراخ الصمت سوى تنويع على الوتر الأساسي. و الرومانسية من بعد، و فيها يبدو من الأمثلة و الشواهد الآنفة، هي الظل الوريف للشاعرة، و لكل أنثى شاعرة، و النغم الدافء الأثير على لسانها. إنها رومانسية متمردة و مشاكسة. و ليست من قبيل تلك الرومانسية السارحة- الوادعة الحالمة. من هنا، هذا الصمت الصارخ أو هذا الصراخ الصامت، كالجليد العائم، كقنابل موقوتة- ملغومة. وإبداع الأنثى ، دائما فيه شيئ من هذا الصراخ الصامت، و هذه القنابل الموقوتة. في المجموعة تنطق الشاعرة بلسان المرأة و حميميتها و خصوصيتها و مَواجدها. تنطق بلسان حالها. فيها بعبارة، هذه الرؤية الأنثوية الخاصة للعالم، و الأشياء، و تفاصيل الحياة و الوجود. وفيها أيضا، هذا الخَرق أو الإختراق الأنثوي للغة و قوانين التعبيرو الصياغة، بما يجعل المجموعة بالفعل قريبة من الصراخ الشعري العفوي المنطلق على السجية ، منها إلى الخطاب الشعري الموزون- المتزن الذي يراعي قواعد اللغة و الشعر. فيها طفولة شعرية أنثوية، تنطلق على عواهنها و علاّتها. في أواخر المجموعة، تقول الشاعرة بعد أن وصل صراخ الصمت إلى غايته و منتهاه/ ملّ الصمت مني و من تمردي سأصمت لأعطيه فرصة التمرد ص 153 أجل ليتمرد الصمت على الصمت من صراخ شعري آخر . و ذلك يرهص بلا شك، بحافز جديد، لاستئناف بوح شعري جديد، منقَّح ومزيد. لعل بعد فوْرة الصراخ الأولى للشاعرة، سيهدأ وجيبُ هذا الصراخ، ليبدأ بوح شعريٌ آخر، بشجون و شؤون شعرية أخرى. والنّبع كلما تدفق ازداد ماؤه زلالا. .... إحالة: - بهيجة البقالي القاسمي صراخ الصمت – دار أنس الوجود للطباعة و النشر ع: مول الزعقران سراي الزعقران خلف جامعة عين شمس – القاهرة 2012