الطريق الى المجد مرصوف دائما بالدماء والاهوال، وبلوغ العظمة يتطلب تضحيات عظيمة تكافئ قيمة الابطال التاريخيين. واما اولئك الذين يذهبون في الاتجاه المقابل ضد ارادة الغالبية العظمى من الجماهير فسوف يخسرون، ولن تذكرهم صفحات التاريخ باعتبارهم متمردين مغامرين ناضلوا من أجل تغيير وجه الحقيقة للوضع الأمثل، بل على اعتبار انهم خانوا هذه الجماهير العظيمة، وعاثوا في الأرض فسادا وتدميرا وتقتيلا على الهوية، فقط لمجرد اثارة الذعر والخوف والارهاب بين الناس. ان حالة الجاذبية الجماهيرية التي احدثها عرض العمل الدرامي الرمضاني ” الاختيار” (الذي عرضه التلفزيون المصري في امسيات شهر رمضان المقدس لدى المسلمين، وكذلك غير المسلمين الذي يتعايشون معهم خلال نفس الثقافة الشعبية الدينية العتيقة) تستحق الاعتبار والتأمل بعيدا عن الحسابات السياسية، وتضاربات المصالح بين الأفراد وانظمة الحكم المحلية، والاقليمية والدولية.كما ان حالة تحول ضابط صاعقة مصري شاب الى بطل شعبي اسطوري يردد الاطفال اسمه في لعبهم، وكذلك على السنة الناس قي المقاهي وفي الاسواق الشعبية، والمقاطع المصورة لاغنيات انتجها زملائه في الكتيبة 103 صاعقة، ونشروها على وسائل التواصل الاجتماعي، وسرت كالنار في الهشيم على السنة العامة تستحق التأمل أيضا وتسليط الضوء على السياق الذي هيأ المصريين لاستقبال بطل شعبي مصري جديد. يبدو ان فقراء المصريون لم تجتذبهم المشاهد الدراماتيكية التي يزدحم بها مسلسل الاختيار فحسب، بل توحدوا مع شخصياته وعاشوا معهم لحظات الترقب والرعب والبطولة، لأنهم ببساطة يماثلونهم تماما، ويشبهونهم تماما، وحتى اولئك الاعداء المتمردين يشبهونهم ايضا رغم انهم ساروا في الاتجاه المعاكس. لكن التساؤل الذي ينبغي طرحه حالا لماذا ينجذب المصريون بقوة وسهولة الى الدراما الحربية التي تجسد بطولات خارقة للمصريين؟. بصرف النظر عن الغريزة الانسانية والتوحد الغريزي مع البطل الذي يقهر الاعداء وينتصر دائما لقيم الخير والعدل المفتقد في الواقع المعاش في اغلب الاحيان، يظل الشغف المصري بحالة “البطل” الشجاع له خصوصية فريدة يتمتع بها خياله الخصب سواء كانوا ابطال اسطوريين صنعهم خياله وحررهم من نطاق القهر والعجز واليأس الذي يعيشه، أو ابطال واقعيين داعبوا خياله واشعروه بالزهو ومنحوه الأمل. قبل عدة شهور ظهر في دور العرض شريط سينمائي يجسد أحدى المعارك العسكرية التي حدثت في اعقاب هزيمة يونيو 1967 القاسية المذلة اسمه “الممر”، هذا الشريط كان له صدى مدهش وغير متوقع في الشارع، خاصة لدى الجماهير الفقيرة، صنع مجدا لصناعه، ومنح المصريون المرهقين قبلة أمل تنشط حياتهم وتعيد لهم فخرهم وزهوهم، رغم الظروف الاقتصادية الصعبة، نتيجة اصلاحات اقتصادية افرغت جيوبهم، وارهقتهم، وجدل سياسي طويل المدى بين المثقفين والناشطين، واسئلة مشروعة تتعلق بحرية التعبير وامكانية المشاركة في صنع الحاضر والمستقبل. ويأتي شهر رمضان هذا العام وقد احكم فيروس كوفيد19 المستجد قبضته على البشرية في العالم كله، وترتب على ذلك حالة من الرعب وترقب الموت بين الناس، واجراءات تضييقية لجأت اليها الحكومات للحد من الآثار الكارثية للوباء على شاكلة حظر التجوال في الشوارع كلي وجزئي، واغلاق المنشئات والمؤسسات، والآت الاعلام تبغبغ ليل نهار بارقام الآف الموتى والمصابين بالوباء، وجدل عقيم وويائس في الاعلام وعلى جميع ادوات التواصل الاجتماعي بخصوص علاج الفيروس وامصال الوقاية منه!. مؤكد هذا المناخ قد يكون توقيت ذهبي يتابع فيه المصريون شاب بسيط من ابنائهم أو اخوانهم وهو يتحدى الرعب والخوف، متسلحا بمنتهى العظمة والنبل بالايمان واليقين بالانتماء لمصر صاحبة الحضارة العتيقة، وبالمصريين البسطاء الذين تخللت ارضها ونيلها مسام جلودهم، واضحت ضمن امشاجهم الوراثية. في مقابل قوم من الرعاة يسعون في الارض تدميرا وتقتيلا على الهوية لمجرد فرض نفوذهم وفكرتهم في السيطرة والحكم. السر ربما يكون في ذلك المخزون الوراثي الذي ورثه البطل المنسي من جده الأقدم احمس قاهر الرعاة الهكسوس، وكذلك المتغلغل في خلايا المصريين جميعا ممن تشرق عليهم شمس النيل الدافئة النقية غير الملوثة. ان الوعي الجمعي لدى المصريين يبدو انه سهل التأثر بالبطولات وبالامجاد العسكرية وبنموذج البطل الذي يرتدي السترة العسكرية، وفي الاذهان ما تزال صورة الرئيس عبد الناصر مهيمنة على وعي اجيال من المصريين رغم الانكسار العسكري الأعظم في عصره في عام 1967 لكنهم لايزالون يعتبرونه ملهما لهم ومصدرا عظيما للفخر والتباهي. وصورة الجيش في وعي المصريون الفقراء لايمكن تشويهها بالسياسة أو الخيانة، ولا بالدين والتدين، كما لا يمكن فصم هذه العلاقة ابدا بين شعب مصر وجيشها على مر الزمان. الجيش المصري ببساطة يمثل جموع كل هؤلاء الفقراء من المصريين الباحثين عن الامان والمجد، وهذه كانت عقيدة الجيش منذ العهود المصرية القديمة. وقد فشلت الدولة الاخناتونية القديمة التي تأسست على فكرة عقائدية دينية احادية الرؤية والتوجه لانها واجهت طبيعة ومزاج المصريين المولعين بالتعدد والتنوع وحرية المعتقد، والتسامح وقبول الآخر المختلف. يبدو ان المصريين توحدوا مع المقدم احمد المنسي ليس على اعتباره بطل مغوار يمثلهم ويقودهم الى الفخر والعزة فحسب، بل كان توحدهم الأعظم معه ومع رفاقه ابطال كمين البرث في سيناء الساحرة باعتاره مخلصا لهم من حالة الكآبة واليأس والاحباط بسبب واقع يغضبهم كثيرا، وكذلك كان ملهما لهم بشدة في امكانية التخلص من الاوبئة القاتلة التي اصابت العالم بالجنون والاضطراب. ان الشهيد احمد المنسي ورفاقه السابقون واللاحقون هم الشاهد الحقيقي على ميراث اجدادهم القدماء الذي نحمله جميعا وسوف يعيش فينا وفي اولادنا واحفادنا، واما الئك الذين ينعقون في الظلام فمصيرهم النفي داخل انفسهم أو خارجها. د.احمد الباسوسي كاتب مصري