محافظ شمال سيناء يشهد ورشة عمل حول مشروع تعزيز التكيف مع المناخ    المؤتمر: معبر رفح يشكل البوابة الأساسية وشريان الحياة للفلسطينيين في غزة    المشدد عام وغرامة 10 آلاف جنيه لسائق يتاجر في الحشيش بشبرا الخيمة    الأزهر للفتوى يوضح فضل حج بيت الله الحرام    آخر موعد للتقديم في مسابقة التربية والتعليم 2024.. الرابط والتفاصيل    القائم بأعمال رئيس جامعة بنها الأهلية يتفقد سير الامتحانات بالكليات    وزير الدفاع: القوات المسلحة قادرة على مجابهة أى تحديات تفرض عليها    تقدم 9529 مواطن بالمراكز التكنولوجية بالشرقية لتقنين أوضاعهم فى مخالفات البناء    التعليم العالي توقع مذكرة تفاهم مع شركة MCS في مجال التدريب والأمن السيبراني    الهجرة تعلن موافقة وزارة الطيران على توفير خط مباشر إلى سول ولوس انجلوس    أكرم القصاص: لا يمكن الاستغناء عن دور مصر بأزمة غزة.. وشبكة CNN متواطئة    ابنة قاسم سليمانى تهدى خاتم والدها لدفنه مع جثمان وزير الخارجية الراحل.. فيديو    سيناريوهات اعتقال قادة إسرائيل.. قراءة قانونية: طلب اعتقالهم خطوة أولى والاتهامات يمكن إثباتها قانونيا.. إصدار مذكرة اعتقال بعد الاطلاع على الجرائم.. تحال لمجلس الأمن حال عدم تنفيذها.. وتوقعات بعرقلة أمريكية    الكرملين: لا يمكن لأي أسلحة يتم ضخها لكييف أن تغير مسار العملية العسكرية    فوز منتخب شباب دمياط على الأقصر في دوري مراكز الشباب    إنفوجراف| نهائي دوري أبطال أفريقيا .. تاريخ المواجهات بين الأهلي والترجي    اتحاد اليد يقرر تعديل موعد مباراة القمة بين الأهلي والزمالك    منتخب مصر يعلن قائمة مباراتي بوركينا وغينيا يوم 26 مايو    رئيس اتحاد الكرة وشوقي غريب والمجري يشاركون في تشييع جنازة شقيق هاني أبو ريدة    الكشف على 1021 حالة مجانًا في قافلة طبية بنجع حمادي    ضبط 750 كيلو سماد يوريا محظور تداولة بالأسواق في الشرقية    تجديد حبس سائق ميكروباص معدية أبو غالب وعاملين بتهمة قتل 17 فتاة بالخطأ    حملة تفتيشية مكبرة على مراكز الأشعة فى محافطة بورسعيد    ننشر حيثيات الحكم على المتهمة بترك رضيعتها بالصف    «إيرادات دور العرض السينمائي».. فيلم «السرب» يُحافظ على الصدارة    رفع كسوة الكعبة استعدادًا لموسم الحج 2024 | صور    مع عرض آخر حلقات «البيت بيتي 2».. نهاية مفتوحة وتوقعات بموسم ثالث    أكرم القصاص: الاحتلال فى مأزق.. ومصر الأقدر على امتلاك مفاتيح الهدنة    اليوم.. كاظم الساهر يحيي حفلا غنائيا في دبي    اعرف جدول المراجعات المجانية للثانوية العامة في الفيوم    الافتاء توضح حكم إمساك مريد التضحية لشعره وظفره    تاج الدين: مصر لديها مراكز لتجميع البلازما بمواصفات عالمية    وفد المركز الأوروبي للوقاية من الأمراض يزور مستشفى شرم الشيخ الدولي    الرعاية الصحية تعلن نجاح اعتماد مستشفيي طابا وسانت كاترين بجنوب سيناء    تقديم الخدمات العلاجية ل7 آلاف مواطن على نفقة الدولة بالمنيا وتوريد 283 ألف طن قمح    تعليم القاهرة تعلن تفاصيل التقديم لرياض الأطفال والصف الأول الأبتدائي للعام الدراسي المقبل    إصابة مسنة وشابين في انفجار إسطوانة بوتوجاز داخل منزل بمنطقة إمبابة    وزير الري يلتقي مدير عام اليونسكو على هامش فعاليات المنتدى العالمي العاشر للمياه    النائب محمد المنزلاوي: دعم الحكومة الصناعات الغذائية يضاعف صادراتها عالميا    23 مايو 2024.. ارتفاع جماعي لمؤشرات البورصة المصرية في بداية التعاملات    "شوف جمال بلدك".. النقل تعلن تركيب قضبان الخط الأول للقطار السريع - فيديو    عضو مجلس الزمالك: نعمل على حل أزمة بوطيب قبل انتقالات الصيف    بعد دعم زوجها.. دنيا سمير غانم تتصدر تريند "جوجل"    في الجول يكشف تفاصيل إصابة عبد المنعم وهاني بتدريبات الأهلي قبل مواجهة الترجي    تحرير 116 محضر إشغالات في ملوي بالمنيا    رجل متزوج يحب سيدة آخري متزوجة.. وأمين الفتوى ينصح    إصابة طفلين فلسطينيين برصاص الاحتلال شرق مدينة قلقيلية    "العدل الدولية" تصدر غدا حكمها بشأن تدابير الطوارئ في قضية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل    إعلام عبري: العدل الدولية تستعد لإصدار أمر بوقف الحرب في غزة    توريد 197 ألف طن قمح إلى شون وصوامع كفر الشيخ منذ بداية الموسم    رئيس منطقة الشرقية الأزهرية يتابع استعدادات بدء أعمال تصحيح امتحانات الشهادتين الابتدائية والإعدادية    «المنيا» ضمن أفضل الجامعات في تصنيف «التايمز العالمي» للجامعات الناشئة 2024    «الصحة»: المرأة الحامل أكثر عرضة للإصابة بفيروس نقص المناعة البشري HIV    ل برج الجوزاء والميزان والدلو.. مفارقة كوكبية تؤثر على حظ الأبراج الهوائية في هذا التوقيت    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 23-5-2024    فضل الأعمال التي تعادل ثواب الحج والعمرة في الإسلام    أول تعليق من دانا حمدان على حادث شقيقتها مي سليم.. ماذا قالت؟    «دول شاهدين».. «تريزيجيه» يكشف سبب رفضه طلب «أبوتريكة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



موباسان بين تورغينيف وتولستوي
نشر في شموس يوم 20 - 06 - 2019

كان جي دي موباسان (1850- 1893) موظفا مدنيا متواضعا في وزارة البحرية حتى عام 1880، حين كتب رواية قصيرة (نوفيلا) تحت عنوان ” كرة الشحم ” للمجموعة القصصية المشتركة، التي كان يعدها أميل زولا عن الحرب الفرنسية – البروسية . نشرت النوفيلا ضمن المجموعة التي شارك فيها ايضا زولا نفسه ، وعدد من كتّاب المذهب الطبيعي ، وصدرت تحت عنوان ” أمسيات ميدان ” في عام 1880 .
تدور احداث القصة خلال الحرب الفرنسية – البروسية ، حينما قرر عشرة افراد من علية القوم بينهم راهبتان وسيدة سمينة مغادرة مدينة الرون المحتلة خوفا من الحرب ، والسفر الى ميناء هافر – الذي كان ما يزال تحت سيطرة القوات الفرنسية – في عربة ركاب يجرها ستة خيول، نظرا لسؤ الطقس، بدلا من أربعة خيول في الظروف المناخية العادية. وفي حالة اقتراب القوات البروسية من الميناء فانهم كانوا يعتزمون الرحيل بالباخرة الى انجلترا ..
كان اسم السيدة السمينة اليزابيث رووسيه ، وهي من بنات الهوى ، الملقبة ( بول دو سويف) أو كرة الشحم ، بسبب جسمها الممتليء المثير للنظر ، وكانت جميلة وضاءة ، ذات بشرة بيضاء ووجه أشبه بتفاحة حمراء .
كان الطقس عاصفا، والثلج لا يكف عن السقوط ،عندما تحركت العربة من روان قبيل الفجر على أمل أن تصل هافرمع حلول المساء. وما كاد هؤلاء القوم يتعرفون على حقيقة السيدة السمينة حتى نأوا بأنفسهم عنها ، وباعدوا بينهم وبينها .
ولكن الحال ازداد سوءا ساعة بعد ساعة . وأخذ الثلج المتساقط يعلو شيئا فشيئا. كانت العربة المثقلة تخبط فوق سطح أبيض متصل ممتد على مد البصر. واخذت العربة تشق طريقها بصعوبة بالغة ، وتعثرت في مواضع عديدة فأنهضوها.
لم يدر بخلد أحد من هؤلاء القوم ، ان الركب سيتأخر كثيراً . ولهذا لم يجلبوا معهم أي طعام . ولكن السفر طال ، وامضهم الجوع . وتبين لهم ان ” كرة الشحم ” كانت بعيدة النظر ، وهي الوحيدة التي أحضرت معها غذاءً شهياً ، فنسوا زرايتهم بها واقبلوا كراما على ما عرضته عليهم من الطعام .واستمرت الرحلة. وعند وصولهم الى مدينة توتسن ، قرروا أخذ قسط من الراحة والمبيت في نزل على الطريق . وتبين لهم أن القوات البروسية ، قد احتلت النزل واتخذته مركزا للقيادة . وبعد قضاء ليلة واحدة للأستراحة . فوجيء الركاب في الصباح بقرار قائد الحامية بمنعهم من السفر . حيث أخبرهم صاحب النزل أن القائد البروسي أمره بعدم ربط الخيول بعربتهم حتى تقضي بول دي سويف ليلة معه في غرفته ، لكنها رفضت الإنصياع لأمره في غضب ثائر. وكانت قد ذرفت الكثير من الدموع في روان على الشباب الفرنسي الذين سحقتهم آلة الحرب الدموية.
ولكن رفاق السفر حرصا على حياتهم وحريتهم ضرعوا اليها بشتى الحجج حتى استسلمت آخر الأمر . وفي الصباح التالي استأنف الركاب رحلتهم وعادوا من جديد الى النأي بأنفسهم عن بول دي سويف زراية بها ، رغم أنها أقدمت على التضحية الكبرى من أجلهم .
فهم في هذه المرة قد أحضروا غذاءهم ، ولكنها نسيت أن تفعل ذلك بسبب ما كان تشعر به من اذلال واضطراب ، ففتحوا حقائبهم وأقبلوا على الطعام نهمين ، ولم يعرضوا عليها كسرة من زادهم ، فثارت عبراتها وتلألأت في مآقيها الدموع ، فغمغموا ورعا وتقى (انها دموع العار)
تتجلى في هذه القصة اسلوب موباسان الحي النابض والذي نراه في جميع نتاجاته اللاحقة : جمل قصيرة رشيقة، وتكثيف بليغ ، وتحليل عميق للنفس البشرية وتصوير دقيق للنفاق الاجتماعي وغباء البشر .
اثارت ” كرة الشحم “.إنتباه الأوساط الثقافية ، ووصفها غوستاف فلوبير بانها تحفة أدبية ، ودفعت بموباسان الى الصف الأول بين كتّاب فرنسا .وهذه حالة نادرة في تأريخ الأدب العالمي . وأدى به نجاحه العظيم الى هجر وظيفته الروتينية المملة في وزارة البحرية ، والاتجاه بكليته للأدب رواية وقصة . حيث تهافتت دور النشر والمجلات الأدبية على نشر نتاجاته الجديدة لقاء مبالغ مالية سخية ، وأصبحت صالونات المجتمع المخملي الباريسي تعد حضوره فيها من دواعي الشرف ، مما أثار حفيظة وحسد زملائه الكتّاب .
وخلال عقد واحد ونيف من الزمان (1880-1891) خلف موباسان نهراً غزيرا من الأعمال الأدبية الرائعة ، التي تشكل بمجموعها 29 مجلداً ، تتكون من ست روايات وستة عشر مجموعة قصصية تضم حوالي 300 قصة ، ومن ديوان شعر ، وثلاثة كتب رحلات ، وعشرات المقالات الأدبية عن ابداع فلوبير وتورغينيف وغيرهما . وقال أندريه موروا إن روايات وقصص موباسان توالت الواحدة بعد الأخرى ، وولدت كما التفاح على الشجرة .
موباسان بهر الناس بالكشف عن غباء البشر وخداعهم ، وبهجومه اللاذع على كل صور النفاق الاجتماعي وعلى رجال الدين المتاجرين بالطوبائيات لاغراض ومآرب شخصية
وابتداء من عام 1887 – اخذت اعماله الابداعية تتسم بنظرة تشاؤمية للحياة بسبب الواقع الفرنسي الذي سماه ب( العهد الذهبي للأوغاد والتافهين ) . ورغم ان مجده الأدبي قد اتاح له ان ينعم بالمال الوفير ، وامتلاك أربعة قصور ويخت فاخر ، الا ان نمط الحياة الجامح الذي عاشه سرعان ما قوض صحته ، وادى الى اصابته بمرض الزهري الذي لم يكن له اي علاج في ذلك الوقت. ولقد قاوم المرض بكل قواه ،واعتزل الناس على ظهر يخته الخاص وقام برحلات بحرية الى كل من كورسيكا وانجلترا وايطاليا والجزائر وتونس
في رواياته ” بيير وجان ” ( 1888 ) ، و” قوي كالموت ” ( 1889) ، و” قلوبنا ” ، ( 1890) ومجموعاته القصصية ” النسر” (1887) ، و” من اليد اليسرى ” ( 1889) ، و” جمال عديم الفائدة ” ( 1890) ثمة احساس الانسان بالعجز ، وتوحده المأساوي في عالم لا يرحم ، وتفاهته امام الموت.
. وفي السنوات الاخيرة من حياته عاش حياة وحدة واكتئاب وهذا المزاج يبدو جليا في قصته القصيرة “هورلا ” . ورغم تفاقم المرض عليه فانه واصل الكتابة وعانى أول الأمر من القلق والارق والصداع الشنيع ، ، وأصبح العمل الأدبي أكثر صعوبة بمضي الزمن ، وظلت روايته ” انجيليوس ” غير مكتملة . ثم بدأ بصره يضعف شيئا فشيئا واصبح على حافة العمى . وفي ديسمبر 1891 حاول الانتحار بقطع حنجرته ونزف الكثير من الدماء ولكن تم انقاذه في آخر لحظة ووضعه في مصحة للامراض النفسية في باريس. وعلى النقيض مما أُشيعَ عنه، لم يصب موباسان بالهوس والجنون ، وأن فترة بقائه في أحد المصحات النفسية لم تكن لسببٍ نفساني، وإنما بسبب الارق الحاد الدائم والامٍ جسديةٍ مبرحة حيث توفى في يوليو 1993 وأوصى أن يكتب على شاهد قبره العبارة التالية : ” كنت متعطشا لكل شيء ، ولكني لم أجد متعة في أي شيء.
قال موباسان ذات يوم لصديقه ( دماريا دي هيريديا ) مازحا : ” لقد اقتحمت الادب كالشهاب ، وسأغادره كالصاعقة “. حقا اخترق موباسان سماء الأدب كالشهاب واحترق بسرعة .
القصة القصيرة في ابداع موباسان
تجلت موهبة موباسان الأدبية ومهارته الفنية في قصصه القصيرة ، التي تركزت فيها السمات المميزة لأسلوبه المتفرد . وهي التي أهلته لاحتلال مكانة مرموقة في الأدب الفرنسي.
خلق موباسان نمطاً جديداً من القصة القصيرة لم يكن معروفاً في الأدب الفرنسي وفي الأدب الأوروبي عموما .فقد كانت القصة القصيرة في عصر النهضة تغلب عليها الكوميديا ، وتعتمد حبكة مسلية ، مليئة بالاحداث الميلودرامية المتلاحقة دون أي محاولة للتعبير عن العوالم الداخلية للشخصيات ، وما يعتمل داخلها من افكار ومشاعر واحاسيس .
أخذ موباسان يقدم للقاريء لأول مرة قطعة من الحياة مع التوغل الى عوالم الشخصيات ووصف مشاعر الانسان التي لا تظهر للسطح في الحياة اليومية . وهذا ما اصطلح على تسميته ” النص المبطن ” أي تضمين النص بمعنى داخلي إضافي يضاف الى النص في ذهن القاريء الذكي .
في فصص موباسان اناس من جميع طبقات وفئات المجتمع الفرنسي ( الارستقراطيون ، القساوسة ، وعمال المصانع والمزارع ، والبحارة ، وكبار السن ، والاطفال ) . والقاريء يحس وكأنه يرى الزوايا المظلمة والمشبوهة في الواقع اليومي ، وما يحدث في الحانات الصاخبة وفي غرف قصور العاصمة الفرنسية .
تأثر العديد من كبار الكتاب في العالم بعالم موباسان واسلوبه الجذاب ، من ابرزهم ( أو.هنري ، وسومرست موم ، واسحاق بابل ). وكان موباسان محل اعجاب فريدريش نيتشة ، وليف تولستوي وايفان تورغينيف ، وانطون تشيخوف ، وايفان بونين .
قال تشيخوف ذات مرة لايفان بونين عام 1897 في يالطا :” نحن مدينون لموباسان في شرعنة جنس القصة القصيرة .فقد عانيتُ كثيرا لانني اكتب القصة القصيرة ، لأن النقّاد عندنا يقيمون العمل الأدبي حسب الطول.ولولا موباسان لكانت القصة القصيرة لا تعد ادباً “.
كما أتى تشيخوف على ذكر موباسان في العديد من أعماله الأدبية ، وأثنى على مهارته الفنية قائلاً : ” أنه أفضل كاتب فرنسي الى جانب فلوبير , موباسان كفنان كلمة ، وضع متطلبات ضخمة للفن القصصي ، بحيث باتت الكتابة على النمط القديم مستحيلة ” .
أما بابل فقد كان منذ خطواته الأولى في عالم الادب ، مسحورا بقصص موباسان . وكان يقول ان مدينته ( اوديسا) المشمسة ،عروسة البحر الأسود ، هي مرسيليا الروسية ، وانها لا بد أن تنجب في يوم من الأيام ( موباسانها ) الروسي . وقصة ” جي دي موباسان (1932) هي واحدة من أجمل وأشهر قصص إسحاق بابل .
موباسان في روسيا
كانت الطبقة الأرستقراطية الروسية في العهد القيصري تتحدث اللغة الفرنسية في حياتها اليومية ، وتتابع كل ما هو جديد في الحياة الفنية والثقافية الفرنسية . فتاة الرون – رغم مهنتها الرذيلة – أثارت اعجاب المثقفين الروس .
لعب ايفان تورغينيف – الذي كان شبه مقيم في باريس ، وتربطه علاقات صداقة وثيقة مع العديد من ابرز الكتاب الفرنسيين ، بينهم غوستاف فلوبير واميل زولا – دورا ملحوظاً في تعريف الوسط الادبي الروسي باعمال موباسان ، فقد كان حلقة الوصل بين الادبين الروسي والفرنسي . وكان تورغينيف قد تعرف على موباسان في مجلس غوستاف فلوبير ، واطلع على مؤلفاته اولا بأول ، وثمن عاليا موهبته المميزة . وتوقع له مستقبلا ادبيا باهراً ، وقال انه ياتي في المرتبة الثانية بعد تولستوي من حيث الموهبة ، وعن طريقه اطلع موباسان على اعمال ليف تولستوي ومنها روايتي “الحرب والسلام ” و”آنّا كارينينا ” . وقصة ” موت ايفان ايليتش ” . وكان موباسان بدوره يعد تورغينيف احد اساتذته في الأدب . وقد أهدى اليه مجموعته القصصية ” منزل تيليه “
كانت روايات وقصص موباسان تترجم الى اللغة الروسية بعد فترة وجيزة من نشرها في فرنسا . فعلى سبيل المثال لا الحصر . نشرت رواية موباسان الأولى ” الحياة ” في فرنسا عام 1883 وظهرت مترجمة الى الروسية في السنة ذاتها ، وكذلك رواياته الخمس الأخرى ” الصديق اللطيف ” ( 1885) و” مونت أريول ” (1886) ، “بيير وجان ” (1887- 1888) و” قوي كالموت ” ( 1889 ) ، و” قلوبنا” ( 1890) . كما كانت الصحف والمجلات الروسية تتسابق الى ترجمة ونشر أعمال موباسان ويقبل عليها الجمهور القاريء الروسي اقبالا ، لا يجده كاتب فرنسي آخر .
موباسان وتولستوي
كان تورغينيف يزور وطنه بين حين وآخر ، وعندما عاد من باريس عام 1981 زار ليف تولستوي في ضيعته المعروفة بإسم ( ياسنيا بوليانا ) . وكالعادة تحدثا طويلاً عن أبرز الأحداث الأدبية في باريس وموسكو . وكان تورغينيف قد جلب معه نسخاّ من مجموعة قصص موباسان ” منزل تيليه ” الصادرة في باريس حديثا.
عندما زرتُ منزل ( الآن متحف ) تولستوي في ( ياسنايا بوليانا ) أثار انتباهي مكتبته الشخصية ، حيث وجدت فيها مؤلفات أشهر الفلاسفة والكتّاب الروس والأجانب ، بينها النسخ الفرنسية الأصيلة لمؤلفات موباسان ، وكذلك ما ترجم منها الى اللغة الروسية . فقد كان تولستوي حريصا على متابعة الحركة الأدبية الفرنسية ، وقراءة أعمال غوستاف فلوبير وأميل زولا، وأناتول فرانس ، وجي دي موباسان باللغة الفرنسية فور صدورها في باريس
ثمة قصة لموباسان عنوانها ” في الميناء ” وهي قصة رائعة . وقد بلغ اعجاب تولستوي بهذه القصة مبلغا حمله على ترجمتها الى اللغة الروسية بتصرف ، واطلق عليها اسم ” فرانسوازا ” ونشرها ضمن كتابه ” دائرة القراءة “. كما أشاد تولستوي برواية موباسان الأولى المسماة ” الحياة ” حيث أعاد قراءتها عدة مرات ، وقال عنها أنها رواية ممتازة ، وربما أفضل رواية فرنسية بعد رواية ” البؤساء ” لفيكتور هيجو .
كتب ليف تولستوي دراسة مطولة عن جوهر الفن عموما وعن أعمال موباسان خصوصاً – والتي تحتفظ بكل قيمتها حتى اليوم – كمقدمة للترجمة الروسية لمؤلفات جي دي موباسان ، التي صدر الجزء الأول منها في موسكو عام 1894 وكانت للدراسة صدى ايجابي واسع في روسيا والدول الأوروبية وخاصة في فرنسا والمانيا .
جاءت الدراسة خلال تلك الفترة الساخنة ، التي كان فيها تولستوي يعيد النظر في دور الفن في حياة الفرد والمجتمع . وشكلت لاحقاً اساساً لأطروحته الشهيرة “ما الفن ” .
وكما أشار ( بوبوف ) سكرتير تولستوي في رسالة الى احد النقاد ، مؤرخة في 4 مارس 1994 ان موباسان كان مجرد ذريعة للكاتب العظيم لبسط آرائه في الفن عموماً .
وكتب تولستوي يقول : “
ربما لم يكن ثمة كاتب آخر آمن بهذا الاخلاص ، ان كل النعم ، ومعنى الحياة تكمن في المرأة والحب . لقد وصف موباسان بقوة مشاعره المتأججة المرأة ، وحب المرأة من كافة الجوانب . وربما لا يوجد في تأريخ الأدب كاتب آخر وصف بهذا الوضوح ، وهذه الدقة كافة النواحي الفظيعة للظاهرة ذاتها التي لاحت له كأسمى الظواهر . وكلما أوغل موباسان في هذه الظاهرة ، تجلت له على نحو أوضح ، وتعرّت من قشورها ، ولم تبق منها سوى نتائجها “.
وصف موباسان في رواياته وقصصه الماركيزات ، والعاملات ، والبنات النحبفات ، والممتلئات ، والسيدات الناضجات ، والأمهات ذوات الخبرة ، الشقراوات منهن والسمراوات . وأغرم بالجمال الأنثوي، حيث تشكل منحنيات الجسد ، وملامح الوجه ثيمة رئيسية في أعماله .
ولا شك ان تولستوي كان قاسيا في حكمه على معظم روايات موباسان ، الذي كان طوال حياته الإبداعية يحاول تحليل عيوب الطبيعة البشرية . واتخذ في هذا التحليل موقف المدقق الموضوعي وليس موقف الواعظ . وهو موقف يتناقض مع كل تقاليد الأدب الروسي للقرن التاسع عشر ، مما يفسّر احكام تولستوي الأخلاقية الصارمة حول عدد من روايات موباسان .
ولكن الرواية لا تشكل سوى جزءاً يسيرا من نتاجات موباسان ، فقد كتب الى جانب ذلك – عددا كبيرا من القصص القصيرة ، التي نالت اعجاب تولستوي وثمنها عاليا .
ان الفن شيء والأخلاق شيء آخر . وكان موباسان يقول :” هل تطلبون مني موقفاً أخلاقياً ؟ ليس لدي هذه الحشمة الأدبية . وما هي هذه الحشمة ؟ . امنحوا الكاتب حرية التفكير والابداع وفقا لميوله ، وسماته الروحية والنفسية ، التي تميز درجة استثارته الوجدانية ، ويتجلى ذلك في سلوكه وموقفه تجاه الواقع المحيط به “.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.