استئت كثيراً من استخدام بعض الكتاب من العلمانيين وغيرهم عبارة " المعتدلين من رجال الدين " في كتاباتهم واعتبرت ذلك من آلاعيبهم ؛ ذلك لأن تلك العبارة يفصلها البعض منهم ويستخدمونها وفقاً لأهوائهم وتحقيقاً لأغراضهم الشخصية ، فالغريب أننا نجد عند هؤلاء أن معتدلي اليوم من رجال الدين في قضية ما هم متشددي الغد في قضية أخرى ، وهكذا يخلط هؤلاء الكتاب الحق بالباطل ويستطيعون أن يدافعوا عن أفكارهم وآرائهم من خلال آراء علماء الدين وفقهاءه ، فيلتبس الأمر على القراء ويظنون أن هؤلاء الكتاب على حق وهم ليسوا كذلك ، ولعل هذا الأمر قد ظهر في الآوانة الأخيرة بصورة واضحة من خلال قراءتنا في كتابات الكثيرين من العلمانيين والليبراليين والحداثيين ومن على شاكلتهم ، وهو ما جعلنا نسعى إلى أن ننبه إلى ذلك الأمر ونحذر الناس منه وندعوا الجميع إلى اليقظة والكياسة في فهم ونقد ما يُعرض عليهم من أفكار وآراء واجتهادات حتى يُفضح الكذّابين المخادعين ويُستبان أمرهم . ولتوضيح ماسبق فسأضرب لذلك مثالاً كان واضحاً للجميع وتابعه الكثيرون وشُغل به الناس لفترة طويلة ألا وهو " قضية النقاب " فلقد رأينا الكثيرين من كارهي النقاب بصفة خاصة وصور التدين بصفة عامة يخروجنا علينا ليذكروننا في كتاباتهم بأئمة وعلماء - نحن لا نجهلهم بل نعرفهم أكثر مما يعرفونهم - ورأيناهم يشيدون بهؤلاء العلماء ويباركون آرائهم واجتهاداتهم المستنيرة ، ومن ثم يستدعون آراء هؤلاء العلماء والفقهاء الرافضة للنقاب ، ولزيادة الحبكة فإنهم يشيرون إلى المصدر ورقم الصفحة وربما دار الطباعة للدلالة على صدقهم وسلامة نيتهم ، ولكن لسوء الحظ فإن هؤلاء يقعون في فخ عظيم لأنهم يرفضون بأفعالهم وكتاباتهم آراء وأفكار واجتهادات أخرى لهؤلاء العلماء والفقهاء ، وبهذا نراهم قد وقعوا في تناقضٍ عجيب ، فلقد أكدوا لنا خبث سريرتهم وسوء نواياهم حينما جعلوا المعتدلين من رجال الدين من تتوافق آرائهم وأفكارهم واجتهاداتهم مع أهواءهم الشخصية وإلا فهم من المتشددين الرجعيين الذين ترفض آرائهم ولا يشار إليها لا من قريب ولا من بعيد . ولعله من أكثر من ذُكر في قضية النقاب من هؤلاء العلماء فضيلة الشيخ العلامة / محمد الغزالي رحمه الله والذي يعد علماً من أعلام الأمة - مهما اختلف معه البعض - ولأن الشيخ كان دائماً من الرافضين للنقاب الداعين إلى الحجاب الشرعي فلقد رأينا الكثير من هؤلاء الكتاب يستدعون كتاباته وآراءه للتنديد من خلالها بأنصار النقاب وذلك بعد أن يسردوا فضائل الشيخ ومواقفه العظيمة - وهو غني عن ذلك - ولكن بالتمحص في آراء الشيخ وكتاباته وخطبه واجتهاداته في الكثير من القضايا الأخرى نجد أن الشيخ يرفض ويجافي الكثير من أفكار وآراء هؤلاء الكتاب في تلك القضايا ، بشكل يجعلني أتحدى أن يُسرد هؤلاء الكتاب آراء الشيخ في تلك القضايا ، وهذا إن فإنما يدل على خبث نية هؤلاء الكتاب وسوء مقصدهم في الحفاوة بآراء الشيخ في قضية النقاب بينما يضربون بآراءه عرض الحائط في قضايا أخرى كثيرة ، وسأضرب لذلك بعض الأمثلة : قضية " العري والتبرج " والتي يراها هؤلاء الكتاب من خلال كتاباتهم المتعددة أنها حرية شخصية وباب من أبواب المدنية ويكتبون دائماً مدافعين عن حرية المتبرجات مستهزأين بمن يخالفهم ، وللننظر إلى كلام الشيخ في تلك القضية وأتحدى أن يُنقل منها شيء كما قلت فالشيخ في كتابه " قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة " ، وتحت عنوان " ثياب النساء " يقول : " من حق المرأة أن تكون جميلة المظهر ، بعد أن تكون تامة العقل كريمة الشمائل ، هل " الساري " الهندي الذي يكشف قدراً من البطن والظهر يكفل هذا الجمال ؟ هل الفستان الأوروبي الذي يكشف أدنى الفخذين ، وينحسر – عند الجلوس – عن أواسطها يكفل هذا الجمال ؟ الحق يقال أن حائكي هذه الملابس لا يوفرون للمرأة كرامتها ، ولا يرجون لها وقارا وإنما يهيجون ضدها غرائز السوء ..... ويبدو أن الحضارة الحديثة تقصد إلى هذا قصدا ، فقد كنت أسير على أحد الشواطىء فوجدت رجلاً وامرأة يسيران جنباً إلى جنب ! هو يلبس سراويل كاملة " بنطلون طويل " وهي تلبس ما يكشف عن نصف أفخاذها " شورت " لماذا هذا الأختلاف ؟ أيراد به خيراً للمرأة ؟ ... إن تعرية المرأة حيناً ، وحشرها في ملابس ضيقة حيناً آخر ، عمل لم يشرف عليه علماء الأخلاق وإنما قام به تجار الرقيق ، ولكي نوفر تربية شريفة للجنسين يجب أن نعترض هذا الموكب الساخر من الكاسيات العاريات ... وقد قلنا : إن من حق المرأة أن تتجمل ، ولكن ليس من حقها أن تتبرج ! ولا أن ترتدي ثوب سهرة تختال فيه وتستلفت الأنظار بل إن الأسلام رفض ذلك من الرجال والنساء جميعاً . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء " وإنها لطفولة عقلية سخيفة أن يرى امرؤ مّا مكانته في حذاء لامع أو رداء مطرّز بالحرير أو الذهب !..... ومع سيادة الحضارة الحديثة رأيت عادة جديدة لا يقبلها الدين ، هي ارتداء النساء ملابس الرجال حتى ليكاد المرء يعجز عن التفريق بين الجنسين ! وهذه أحوال مَرَضية يبرأ منها النساء العظيمات !..... وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم – قوله : " لعن الله المتشبيهين من الرجال بالنساء ، والمتشبهات من النساء بالرجال " وفي رواية أخرى : " لعن رسول الله المخنثين من الرجال ، والمترجلات من النساء " .... وقلت : إن الميالين للعري من شباب اليوم أقرب إلى الحيوان منهم إلى الأنسان . ". وهناك أيضا قضية " تحكيم الشريعة الأسلامية " والتي يرفضها هؤلاء الكتاب رفضاً تاماً ويصفون من يُنادي بها بالرجعية والتشدد وأنا أتمنى أن يقرأ هؤلاء ما قاله الشيخ وأتساءل هل سيقبلون كلامه في تلك القضية كما قبلوا كلامه في قضية النقاب أم أنها الأهواء ؟ ولنرجع إلى ما كتبه الشيخ في كتابه الذي ذكرناه تحت عنوان " أفحكم الجاهلية يبغون ؟ " حيث يقول في بعض أجزائه : " إن القوانين التي وضعها الناس لأنفسهم ، والتي رفضت القصاص ، وتهاونت مع المجرمين بدأت تؤتي نتائجها المرّة.. لأنها قوانين – من الناحية الأنسانية – فقدت التمييز بين الخير والشر والحسن والقبح ، والعدل والظلم ، ولأنها من الناحية الدينية نسيت الله وجحدت حقه في الحكم بين عباده .... إذا انحرف مزاج امرىء ما فقتل صاحبه في ساعة غضب فلا قصاص ! لأنه مع تعمد القتل لم يرتكبه بعد تفكير طويل !! هذا هو التشريع الذي نقلناه عن أوروبا ، ثم ارتقت أوروبا إلى أسفل فقررت إلغاء عقوبة الأعدام !.... وقد سمعت بعض صعاليك الفكر من العرب المهزومين يردد الصيحة نفسها !! إنه لا إيمان ولا عقل ! ... ومع فساد الفطرة واستبعاد الوحي واستغناء الناس بهواهم فسنرى الأعاجيب .... وبدل أن يحيي هؤلاء ( رجال اليهودية والنصرانية أوروبا وأمريكا ) أمر الله الذي أماتوه يطلبون من المسلمين مشاركتهم في الأثم والتواطؤ معهم على ألا يقوم للسماء حكم ! ... فإذا طالب أحد بالعودة إلى الأحكام السماوية هاجت أوروبا وماجت ، وأنذرت بأن العودة إلى الرجعية ستقابل بالويل والثبور وعظائم الأمور ... " أفحكم الجاهلية يبغون ؟ " نعم ما يبغون غيره !!." ، وما أكثر ما يمكن أن نعدده للشيخ الفاضل من آراء واجتهادات في قضايا يعجز هؤلاء الكتاب - لشيء في أنفسهم – أن يكتبوا عنها أو يتحدثوا فيها متّبعين لرأي الشيخ تجاهها كما فعلوا في قضية النقاب فكفاهم كذبا وتضليلا وخداعا للأمة. وأذكرهم أخيراً ببعض أقوال الشيخ رحمه الله - والموجودة في كتابه المذكور آنفا - وأتمنى أن يستفيدوا منها وينشروها كما نشروا غيرها " إن الميدان الفني في العالم العربي خبيث التربة ، مختل الموازين ! إلا من عصم الله .. والغريب أن يحدوه في طريقه الزائغ حملة أقلام تحالفوا مع الشيطان على حرب الإسلام ونسيان الله والشغب على كل جديد نقيّ ، وعلى كل قديم زكيّ ، لأنهم تحت عنوان العلمانية يتآمرون على قتل أمة ، تنشد الحياة في ظلال الإيمان والتقوى ، بعيداً عن الإلحاد والعهر " ، " وإذا كان الدفاع عن الإسلام تهمة ، فإن حبل الإتهام يجب أن يطول حتى يمكن أن يختنق به كل داع إلى الشرف والجدّ والحق ، وذلك ما يرضى به الضمير العلماني في أرجاء الأمة العربية !! " ، " لقد فكرت طويلاً في هذا المسخ الذي أصاب طوائف من أمتنا فأصابها ما أصاب اليهود قديماً عندما جعلهم الله قردة وخنازير! .. إن هذا المسخ بدأ بين المثقفين الذين احتقروا لغتهم ، وأهانوا تراثهم الأدبي ، وشعروا ألا كيان لهم إلا إذا تحدثوا بلسان أجنبي ، وتعاملوا بتقاليد مستوردة .. " ، " إن هناك انحداراً تهوى به أمتنا في مجال اللغة والأدب والفن ، وإذا لم نسارع إلى علاجه سقطنا في هاوية لا قرار لها ... " ، " إن الشعر العربي العامر بالجمال والحكمة اختفى من لغة التخاطب .. وكنا قديماً نحارب الغزو اللغوي فأمسينا اليوم ننشىء للأطفال مدارس اللغات التي تؤخر العربية أو تهملها لتبني على أنقاضها اللغات الأخرى " ، " والمقلق أن اليهود يربون أولادهم على نحو آخر ، فالتاريخ العبري ، وأحداث العهد القديم ، والذكريات التي غبرت عليها عشرات القرون ، واللغة التي نزعت عنها الأكفان وعادت إلى الحياة ، والحماس الديني الملتهب ، والتعاون الوثيق بين الزوجين في الحقل أو في المصنع أو في الإدارة ، وتحديد ساعات اللهو لتكون عوناً على ساعات مضاعفة من العمل الشاق المثمر ... كل ذلك يكتنف التربية المنزلية والمدرسية ، ويعد بني إسرائيل ليوم حاسم مع العرب التائهين .... " ، " إن الأقلام التي تنسى الله ، والدار الآخرة ، ومدارج الكمال الإنساني آن لها أن تحتجب أو تنكسر ، فإن بقاءها ذريعة فناء ماحق لكل ما في العالم من خير ".