كنا نفهم أن التجسس على مواقع الإنترنت لعبة مخابراتية وقرصنة عابثين وهواة حتى لعبتها الحكومة المصرية ضد أبناء الشعب الراغبين في التظاهر السلمي فأدركنا أنها تتخابر علي الشعب وتعبث به وبحقوقه، وكنا نفهم أن لعبة التكنولوجيا وتعطيل مواقع الإنترنت والتشويش على الاتصال لعبة تقوم بها المخابرات الأمريكية ضد أعدائها من تنظيم القاعدة في حروبها المستمرة معها حتى لعبتها الحكومة المصرية ضد أبناء شعبها من الراغبين في التظاهر السلمي فأدركنا أنها تنظر إلى الشعب كما لو كان العدو الذي تجب محاربته، وأنها تتعامل مع الشعب المصري كما تتعامل أمريكا مع تنظيم القاعدة. والأمر ليس غريبا على نظام يعطل القانون أن يعطل التكنولوجيا؛ من أجل تأمين نفسه .. لا شك أن تعطيل رسائل المحمول وشبكة الانترنت الدولية في مصر قبيل التظاهرات التي يقوم بها الشعب المصري وأثنائها يطرح إشكاليات عدة، ولعل أول هذه الإشكاليات ما يطرحه التساؤل: هل حق التظاهر والاحتجاج أمر مكفول دستورياً؟ .. إذا كانت الإجابة بنعم كما تدعي الحكومة فلماذا إذن محاولة التلاعب في التكنولوجيا من أجل تعطيل هذا الحق؟ ..إن محاولة تعطيل الحقوق الدستورية جريمة بموجب الدستور نفسه يجب أن تُحاسب عليها الحكومات مثلما أنه من حقها محاسبة الأفراد الذين يعتدون على الحقوق الدستورية، ولا شك أن حكومتنا ارتكبت جريمة بموجب الدستور عندما اخترقت الدستور نفسه فيما تدعي أنه دستوري، أو لكأنها تحطم رأس الدستور بدعوى المحافظة عليه!! لا أظن أننا بدعة فيما نفعله عندما نتظاهر، فكل شعوب الدنيا تتظاهر، والتاريخ الإنساني يؤكد أن كل الشعوب قديمها وحديثها من حقها أن تتظاهر سلميا إلا في نموذج الشعوب المقموعة من أنظمة ديكتاتورية طاغية.. وكون حكومتنا حاولت بموجب ما فعلته تعطيل هذا الحق الذي يربطنا بالإنسانية وبالشعوب المتحضرة وبالديمقراطية إذن هي حكومة لا تؤمن بما يجب أن يكون عليه شعبها من إنسانية وتحضر وديمقراطية، ولا تتمنى له ذلك في يوم من الأيام. قد تكون الحجة الجاهزة هي الدوافع الأمنية ، وفي رأيي أن مهمة الجهات الأمنية هي المحافظة كغيرها من الجهات على الحقوق الدستورية وليس تعطيلها، ثمة شماعات كثيرة جاهزة لتبرير جرائم النظم الحاكمة، من هذه الشماعات الدوافع الأمنية، وهي كلمة تحولت إلى مضمون هيلامي غير واضح الملامح خاصة إذا ما استخدمتها حكومة تتجاهل أمن المواطنين وحقوقهم وتفرغ جهدها لأمن النظام الحاكم وحقوقه. أما ثاني الإشكاليات فتتعلق بالاقتصاد المصري .. فالمعلوم أن تعطيل شبكة الانترنت وشبكات المحمول فيه تعطيل لخدمات كثيرة ومصالح كثيرة وشلل لكافة المؤسسات والمصالح والأعمال التي تعتمد على هذه الخدمات الاتصالية التي أضحت مرتبطة بالدرجة الأولي بالأعمال مثلما أنها مرتبطة بالمعلوماتية والاتصال .. فإذا فهمنا أن تعطيل هذه الخدمة سوف يعطل التظاهرات فكيف نفهم أن من حق الحكومة أن تشل مصالح الشعب وتعمد إلى تعطيل اقتصاد البلد الذي تحكمه؟ أما الإشكالية الثالثة تتضح من التنسيق المنسجم بين الحكومة وشركات الاتصالات من أجل تعطيل الحقوق الدستورية للمواطن المصري، وفي هذا ما يؤكد تزاوج رأس المال والسلطة في مصر، ولعله تزاوج محمود إذا كان الهدف منه هو تبادل المواقع في منظومة التنمية أو المشاركة الفاعلة من أجل الرخاء، لكن أن يكون التزاوج بينهما تآمرياً على الشعب من أجل تعطيل الحقوق الدستورية، فهذا هو المثير للغرابة وإن كان المثير أكثر للغرابة أن الحكومة تلعب لعبة مكشوفة تعلم جيدًا أنها مكشوفة وغير دستورية، ومع ذلك تلعبها دون اكتراث بوعي الشعب وغضبه وحقوقه، ولعل ذلك هو رابع الإشكاليات عندما تستغبي الحكومة شعبها وتستتفهه ولا تحترم وعيه ولا حقوقه وتلعب ألعاباً مكشوفة، وتعطي لنفسها كافة الحقوق لهذا اللعب على المكشوف وتستغل القانون وأجهزة الدولة ومخصصات الشعب وأمواله من أجل تعطيل حقوقه ثم تطالب الجميع بضبط النفس واحترام القانون والدستور، وتلك هي خامس الإشكاليات عندما تفعل الحكومة عكس ما تقول وهي تمارس عملاً سياسياً أقرب إلى العماء والكذب منه إلى الصدق وفهم الواقع واستبصاره، ففي الوقت الذي تدَّعي فيه الحكومة أنها تسير بنا إلى الأمام تعود بنا إلى عصر ما قبل العلوماتية. أما سادس الإشكاليات تتعلق بموقف الحكومة من الإعلام والحقيقة، إن الحكومة بما فعلته إنما تعطل العمل الإعلامي والاتصالي بين القنوات الفضائية ووكالات الأنباء ومصدر الخبر، وهي تعلم أنها تعطل الوصول إلى الحقيقة والخبر وتمارس قرصنة إعلامية ليست من حقها، ولعل حكومتنا كانت أوضح ما تكون وهي تفصح عن غرضها هذا وهي تقبض على الصحفيين والمصورين وتحطم كاميراتهم وتستولي على الشرائط ، وتشوش على القنوات الفضائية العربية والأجنبية وتقطع إرسالها؛ من أجل منع وصول الحقيقة إلى العالم .. هذه هي شفافية النظام الحاكم في مصر وهذه هي ديمقراطيته المفضوحة، التي تأكد معها العالم أننا أمة لا تعرف التحضر، بقدر ضلاعتها في القرصنة والبلطجة وهي وتقمع الرأي وتحجب الحقيقة وتضلل العالم.. ولو كانت حكومتنا نزيهة بالفعل لما خشيت الرأي والإعلام و الحقيقة ، الإشكالية أنها فضحتنا معها أمام العالم، وأظهرتنا كأمة متخلفة مقموعة مستعبدة يضربها البوليسيون وعصابات وزارة الداخلية وقناصتها بالهراوت والشلاليت والقنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي والرصاص الحي ويدهسنا بعرباته المدرعة والمصفحة وأخيرا بالبلطجيين المرتزقة المدعومين بأموال رجال الأعمال المصريين سواء الذين هربوا إلى الخارج أو أولئك الذين لا يزالون حول النظام يدعمونه بما لديهم من خطط إرهابية عقيمة فاضحة أمام العالم الذي ينظر إلى مصر كبلد صاحبة حضارة من أقدم الحضارات، ليتأكد العالم بنظرة مغايرة أننا أمة صاحبة أفظع نظام دكتاتوري في التاريخ. لا شك أن تعطيل شبكة الانترنت والمواقع الإلكترونية والتجسس على المواطنين من خلالهما بجانب تعطيل شبكات المحمول كل تلك أفعال تؤكد القرصنة الرسمية على حياة الناس وحرياتهم ورغباتهم في التواصل والاتصال في الوقت الذي تدعي فيه الحكومة أنها مع الحريات ومع التظاهر السلمي ومع مطالب الناس.. لا شك أن المفارقة بين قول الحكومة وسلوكها يعد في حد ذاته دافعا للتظاهر وليس العكس، وكأن الحكومة بفعلها تصب الزيت على النار التي تحاول بقولها أن تخمدها، ولا شك أن إخماد النار يكون بالفعل لا بالقول وما فعلته الحكومة لا يؤيد قولها وتلك معضلة هذه الحكومة التي تقول ما لا تفعل أحيانا، وتفعل عكس ما تقول أحيانا أخرى، ولا أظن أنها حكومة على درجة كبيرة من الغباء، أو أنها لا تعي ما تقول، بل الأصح أنها استفحلت إلى درجة الفتونة والتغطرس المكسبان للضلال، وتعاظمت إلى درجة أنها لم تعد تحسب حساباً للشعب، لقد ساهمت الحكومات المتعاقبة على مصر بوسائل إعلامها الرسمية التي تهتف ليل نهار بمطالب النظام الحاكم وحياته وحكمته ، ساهمت في تمييع رأي الشباب وإلهائهم ، كما أنها استتفهت الشعب وعطلت القانون حتى أنها صدَّقت أنها بلا شعب وبلا مطالب جماهيرية وبلا قانون، وأن الحكم يعني التحكم كما يعني تعطيل القانون حتى فوجئت بما لم تكن تضعه في الحسبان، وأن الشعب باقٍ مثل الوطن لم يمت. لا شك أن الشعوب لا تغفر الجرائم التي تُرتكب بحقها، ومهما تذرعت بالصبر، ولا شك أننا شعب صبور، ولكن على الحكومة ألا تستمرئ صبر هذا الشعب، وعليها أن تعي أن الباقي هو الشعب والوطن وليست الحكومات أو النظم الحاكمة والدليل من التاريخ وحده.. فكم توالت على مصر من حكومات وأنظمة حاكمة وطنية وغير وطنية على مدي التاريخ كله؟ ولنا أن ننظر لندرك كيف أنها زالت جميعها فيما بقى الشعب والوطن.