كانت مبادرة المفكر القومي والمناضل الوطني د. عزمي بشارة مع ثلة خيرة من النخب الثقافية والوطنية الفلسطينية إلى "اللقاء التشاوري العربي بشأن فلسطين" في بيروت في 23 – 24 أيلول / سبتمبر الماضي، من أجل "حماية الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني"، تحركا ربما متأخرا باتجاه إعادة القضية الفلسطينية إلى حاضنتها الشعبية العربية أملا في أن تعود كما كانت القضية المركزية للأمة أنظمة حكم وشعوبا، بقدر ما كانت احتجاجا مباشرا على الانكفاء الاقليمي على الذات الفلسطينية لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، هذا الانكفاء الذي طال أكثر مما يجب. وإذا كان القيادي في حركة فتح ومسؤول ملف القدس حاتم عبد القادر قد عرف "الحقوق الثابتة" خلال اللقاء بأنها ثوابت البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية المتمثل في "حل الدولتين" فكشف بالتالي المثالية السياسية التي دفعت إلى دعوته وغيره من الملتزمين بهذا البرنامج من قبل اصحاب المبادرة الذين لهم تعريف مختلف للثوابت الوطنية الفلسطينية في إطار الميثاق القومي والميثاق الوطني للمنظمة، فإن هذا الشذوذ عن التيار الرئيسي للقاء لا يقلل من أهمية الصحوة العربية المتمثلة في المبادرة باتجاه تصويب خلل استراتيجي في الحركة الوطنية الفلسطينية قادها إلى ما هي عليه في الوضع الراهن يتلخص في عزلها طوعا عن عمقها العربي والاسلامي وارتهانها ل"حسن نوايا" التحالف الأميركي – الإسرائيلي. وتذكر هذه المبادرة بوجود ممثلين لحركتين قوميتين عربيتين في قيادة المنظمة (اللجنة التنفيذية)، كان الأحرى بهما أن تبادرا إلى مثلها، وهما جبهة التحرير العربية المنبثقة عن حزب البعث (العراق) التي تكاد تكون منفردة في دعمها، أو في الأقل في عدم معارضتها، لقيادة النهج التفاوضي في المنظمة، إلا لفظيا، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي انكفأت إقليميا على الهم الوطني من مدخل يساري مفترقة عن تاريخها القومي وتبحث عن "جبهة" لليسار لا عن جبهة وطنية أو عربية في فلسطين وهي المنبثقة عن حركة القوميين العرب العريقة، والتي تساءل بعض قادتها مؤخرا (عبد الرحيم ملوح مثلا) عن الأسباب التي جعلت التيار القومي العربي من خارج المنظمة في فلسطين وفي خارجها يصطف اليوم دفاعا عن الحركة الاسلامية بينما كان تاريخيا مصطفا إلى جانب اليسار الفلسطيني، متجاهلين أن هذا التيار عربيا وفلسطينيا كان منحازا دائما إلى الثوابت القومية والوطنية في فلسطين، وكان منحازا إلى اليسار الفلسطيني عندما كان اليسار منحازا إلى هذه الثوابت ولما تخلى عنها انحاز إلى الحركة الاسلامية التي تبنت هذه الثوابت. والملاحظ أن المراجعة السياسية الجارية في أوساط الجبهة الشعبية اليوم التي قادت إلى تعليق عضويتها في اللجنة التنفيذية للمنظمة تتمحور حول مراجعة مسيرة التفاوض لا مراجعة استراتيجية "حل الدولتين" التي حولت الثوابت الوطنية إلى موضوع للتفاوض والمساومة وقادت إلى المفاوضات أصلا. وكان أصحاب المبادرة النخبوية للقاء بيروت قد أسسوا الهيئة الفلسطينية للدفاع عن الثوابت الوطنية ثم غيروا اسمها إلى الهيئة الوطنية لحماية الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني قبل أن يتوجهوا عربيا إلى لقاء بيروت التشاوري العربي الذي طغى على مداولاته توجه للتحول إلى هيئة "عربية" شعبية لها هيئات متفرعة عنها في كل قطر من أقطار التجزئة العربية. فهل هذه صحوة قومية للحركة الوطنية الفلسطينية أم صحوة عربية على مركزية القضية الفلسطينية ؟ واللافت للنظر أن هذا التوجه العربي الشعبي للنخب الفلسطينية يسير بموازاة توجه عربي رسمي لرئاسة منظمة التحرير وأن كلا التوجهين يكشف إدراكا فلسطينيا بالحاجة الماسة إلى الحماية العربية في محاولة واضحة تبحث عن مخرج عربي من فخ اتفاقيات أوسلو التي وصفتها "الهيئة الوطنية صاحبة مبادرة بيروت ب"النكبة الثانية"، وتحركا فلسطينيا باتجاه تحميل العرب المسؤولية عن قضيتهم المصيرية في فلسطين. وفي هذا السياق يأتي حرص رئاسة منظمة التحرير على اعتماد جامعة الدول العربية مرجعية وغطاء لقرارها السياسي، وفي السياق ذاته يلجأ الرئيس محمود عباس إلى لجنة المتابعة لمبادرة السلام العربية بالقاهرة في السادس من الشهر الحالي. حقا لقد كانت اتفاقيات أوسلو مفصلا في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية افترقت فيها عمليا وقانونيا بموجب الاتفاقيات الموقعة بين منظمة التحرير وبين دولة الاحتلال الاسرائيلي عن عمقها الجغرافي السياسي العربي والاسلامي وانفردت فيها بالقرار دون العرب جميعا أنظمة وشعوبا. ومع ذلك فإن معادلة العلاقات العربية الفلسطينية ليست بهذه البساطة وما زال الكثيرون يتجادلون حول من هو المسؤول عن اتفاقيات أوسلو وهل هي الدول العربية أم هي قيادة منظمة التحرير. كتب المحلل السياسي والمؤرخ الفلسطيني عبد القادر ياسين: "إذا كان القائد الفلسطيني محصلة للتوازنات الرسمية العربية، منذ كانت الجامعة العربية، فإن دخول" منظمة التحرير إلى مناطق الحكم الإداري الذاتي المحدود في الضفة الغربية وقطاع غزة قد "أخضعها ... للتوازنات الأميركية – الاسرائيلية بالدرجة الأولى". ولاحظ ياسين أن قيادة المنظمة "دلفت إلى نفق أوسلو" في محاولة للافلات من تصميم دول الخليج العربية على الاطاحة "السياسية" بالراحل ياسر عرفات عقابا على تأييده للرئيس العراقي الراحل صدام حسين. لكن فات ياسين أن يلاحظ بأن الانكفاء الإقليمي الفلسطيني بدأ قبل ذلك كثيرا ببرنامج "النقاط العشر" الذي قاد لاحقا إلى تبني "حل الدولتين"، لا بل إنه انكفاء أقدم حتى من ذلك تمثل باستبدال "الميثاق القومي" لمنظمة التحرير ب"الميثاق الوطني" بعد وصول حركة فتح إلى قيادة المنظمة واستغلالها الهزيمة العربية في سنة 1967 كذريعة "لليأس" من العرب من أجل التركيز على "القرار الوطني الفلسطيني المستقل". وفات ياسين في المقابل أن يلاحظ بأن كل النظام الرسمي العربي وليس دول الخليج فقط وقف متفرجا على عرفات والمنظمة عندما أطاحت دولة الاحتلال الاسرائيلي "عسكريا" بخيارهما المقاوم في لبنان أوائل ثمانينات القرن الماضي، ثم وقف هذا النظام متفرجا ثانية على عرفات عندما نجحت إسرائيل في ما فشلت فيه دول الخليج ليس لكي تطيح بعرفات سياسيا فحسب بل لتصفيته جسديا بحصاره حتى استشهاده. إن معادلة العلاقات العربية الفلسطينية معقدة وليست بسيطة حقا. لكن المؤكد أن منظمة التحرير قد ارتكبت خطأ استراتيجيا عندما بدأت تتصرف كدولة قبل حتى أن تقترب من كونها كذلك وتخلت عن العمل كحركة تحرر وطني، فالتصرف كدولة عزلها عن عمقها الشعبي العربي والاسلامي لتصبح جزءا لا يتجزأ من العجز الرسمي العربي والاسلامي بينما كانت قد انتزعت معظم انجازاتها وهي تعمل كحركة تحرر وطني تمثل جزءا لا يتجزأ من الحركة القومية والشعبية العربية والاسلامية في نضالها ضد النفوذ الأجنبي واستبداد الأنظمة على حد سواء. ولا يجادل أحد اليوم بأن فلسطين كانت هي القضية المركزية لحركة التحرر الوطني العربية الساعية إلى الوحدة القومية ولم تكن أبدا القضية المركزية للنظام العربي ككل أو لأي من دول التجزئة العربية. ومن هنا أهمية المبادرة العربية للنخب الفلسطينية في بيروت. لكن أصحاب هذه المبادرة ليسوا التعبير الوحيد عن وجود صحوة عربية في فلسطين، إذ لهم رديف في "التيار القومي العربي في فلسطين" الذي أقر مسودة برنامجه السياسي مؤخرا ويحضر لعقد مؤتمره التأسيسي. ولثوابتهم كذلك رديف جاهز داخل الأراضي المحتلة في حركة حماس التي لا تختلف ثوابت ميثاقها كثيرا عن ثوابت الميثاق القومي والميثاق الوطني لمنظمة التحرير قبل تعديله لمواكبة اتفاقيات أوسلو، وتدفع حماس اليوم ثمنا باهظا لاستمرار حمايتها لهذه الثوابت، ولهذه الثوابت أيضا جماهير واسعة "تحميها" أوصلت حماس إلى السلطة من ناحية ووضعت فصائل منظمة التحرير التي تخلت عنها في موقف وطني صعب لم تخرج منه حتى الآن، مما يثير سؤالا منطقيا عن "الجديد" الذي تضيفه "الهيئة الوطنية" التي أعلنت أنها ليست محايدة بين التنسيق الأمني مع الاحتلال وبين المقاومة لكنها ما زالت توحي بأنها محايدة في الانقسام الفلسطيني الراهن القائم أساسا بسبب الاختلاف على الثوابت كما تعبر الهيئة ولقاء بيروت العربي التشاوري عنها، ومما يقود إلى الحديث عن الاضافة الوحيدة الجديدة للهيئة المتمثلة في محاولة إعادة اللحمة بين الحركة الوطنية الفلسطينية وبين نظيرتها الشعبية العربية. غير أن النخب الشعبية العربية التي شاركت في "مشاورات" بيروت لا تعد بأمل كبير، فهي تمثل المؤتمرالقومي العربي والمؤتمر القومي الاسلامي ومؤتمر الأحزاب العربية، وقد أعلنت هذه المؤتمرات جميعها بلسان ناطق واحد باسمها تأييدها لمبادرة الهيئة الوطنية، غير ان المظلة التي وفرتها هذه المؤتمرات مجتمعة للهيئة ربما تكون مفيدة لها سياسيا أكثر من فائدتها السياسية للهيئة نفسها، لأن هذه المؤتمرات التي تعقد مؤتمرات سنوية بانتظام منذ سنين لم تستطع أن تغير شيئا لا في المشهد العربي ولا في المشهد الوطني في أي قطر عربي، وبخاصة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وبالتالي فإن دورها العملي الوحيد يقتصر على ركوب موجات الغضب الشعبي العربي العفوي في المناسبات مثل الغزو الأميركي للعراق أو الإسرائيلي للبنان أو العدوان الشامل على قطاع غزة قبل حوالي عامين لتتحول إلى ناطق باسم هذه العفوية الشعبية دون أن تتمكن مرة واحدة من تحويلها إلى حركة سياسية منظمة قادرة على الفعل السياسي المؤثر والمتواصل. لذلك فإن مسارعة نمر حماد، مستشار محمود عباس، إلى انتقاد الهيئة ولقاؤها التشاوري في بيروت أو تسرع البعض بإصدار بيان انتقاد لها من عمان يحمل أسماء 32 توقيعا كان أحدهم في الأقل مشاركا في لقاء بيروت هما مسارعة وتسرع يمثلان أهون التحديات للهيئة قبل انعقاد مؤتمرها التأسيسي في تشرين الثاني / نوفمبر المقبل، على الأرجح في دمشق. فالهيئة تبدو في توجهها العربي ك"الذاهب إلى الحج والناس عائدة منه" كما يقول المثل الشعبي العربي، إذ في الظاهر على الأقل لا يبدو الواقع العربي الرسمي والشعبي مستعدا لاستقبالها. فعلى الصعيد الرسمي تكاد تكون الحركة القومية العربية، وهي الحاضنة الطبيعية لهكذا توجه، تبدو مهزومة جميعها لولا قاعدة باقية في سوريا هي مع ذلك مهددة ومستهدفة، ويقود النظام الرسمي العربي اليوم كل من ناصبوا الحركة القومية العداء دائما، وتلقت هذه الحركة ضربة قوية أريد لها أن تكون قاضية باحتلال العراق بعد ضربة مماثلة استهدفت القضاء عليها أيضا بالعدوان الاسرائيلي عام 1967 وما تلاه من انقلاب على كل ما كان يمثله جمال عبد الناصر من قيمها. وعلى الصعيد الشعبي يبدو جزء كبير من الأمة مستقطبا باتجاه المقاومة العراقية للاحتلال الأميركي وجزء آخر يستقطبه رد عدوان إسرائيلي محتمل جديد على لبنان، حيث تبدو عقدة معادلة العلاقة العربية الفلسطينية في أجلى صورها شعبيا، إذ بالرغم من وجود المقاومة الاسلامية الداعمة لنظيرتها الوطنية في الداخل الفلسطيني فإن المقاومة الفلسطينية لا تستطيع ممارسة دورها من الخارج على الحدود الوحيدة التي لا يحكمها النظام الرسمي العربي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي .. بقرار "شعبي" لا رسمي ! لقد كان ظهور الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة بعد النكبة جزءا من الحركة القومية العربية الصاعدة التي قادت إلى ثورة 23 تموز / يوليو في مصر عام 1952، واندلاع الثورة الجزائرية بعد عامين، وتحطيم مصر وسوريا لاحتكار السلاح عام 1955، وتأميم قناة السويس وفشل العدوان الثلاثي البريطاني – الفرنسي – الإسرائيلي على مصر في العام التالي، وإلغاء المعاهدة الأردنية – البريطانية وطرد "غلوب باشا" في الأردن، وإسقاط حلف بغداد، وتحقيق الوحدة بين مصر وبين سوريا، إلخ. وقد كانت هزيمة الحركة القومية العربية في عدوان عام 1967 إيذانا بتدهور الوضع العربي انهيارا متسارعا قاد إلى الانكفاء الاقليمي للحركة الوطنية الفلسطينية انكفاء انتهي اليوم بتبنيها عمليا لشعار "إزالة آثار العدوان" الاسرائيلي في ذلك العام. وما لم تقم الحركة القومية العربية من عثرتها فإن الآذان العربية سوف تظل صماء عن سماع أي استنجاد فلسطيني بالعرب، وليست مبالغة الاستنتاج بأن مصير الحركة القومية العربية تقرره المقاومة العراقية اليوم بقدر ما يقرره انحياز القاعدة الباقية للعروبة في سوريا انحيازا تاما لهذه المقاومة حتى تنتصر، وعند انتصارها سيكون للحركة الوطنية الفلسطينية شأن آخر بالتأكيد. *كاتب عربي من فلسطين [email protected]*