ثلاثون عاما خلت، من تمييع الرأي وإفساده، وتعطيله، كانت لها آلياتها الممنهجة، المعروفة لكل راصد للحياة السياسية في عهد مبارك البغيض.. وها نحن نعاني من تداعياتها على حياتنا السياسية والاجتماعية، وقد أضحى كل بهلوان سياسي قادر على حشد الجماهير مستغلاً عطب الرأي وغيابه وفساده. ولعل ظاهرة أبي إسماعيل أوضح مثال على جناية النظام السابق على العقل المصري .. جماهير عريضة ترتع في الأمية والفراغ الفكري والثقافي تتجرع خوفها ومرارة الكدح من أجل الوجبات الثلاث، كلها أرسلت لحاها وتناسخت في صورة واحدة بعد الثورة وقد وجدت ذاتها في زعامة دينية وسياسية مجانية خلف أبى إسماعيل والأمر ليس مكلفاً ، فقط أرسل لحيتك وألصق بوستر أبي إسماعيل لتصبح زعيما مزدوجا بين السياسية والدين... كيف استطاع محام ، صاحب مكتب محاماة أن يحشد الملايين من المؤيدين لمجرد أنه أرسل لحيته وأدعى أنه سيقيم شرع الله في الأرض، وكيف أن أحداً لم يسأله من الملايين التي تحتشد خلفه وترفع عليه رداء القداسة ما علاقتك بالسياسة أو بشرع الله. نعم إن الشعار براق : إقامة شرع الله، وكأن أحداً من الأنبياء لم يقمه حتى الآن !!، أخيرا قيض الله له رجلاً يقيمه هنا في مصر، وهو رجل من غير علماء الدين أو فقهاء العصر، وهو لكي يقيمه لابد أن يصعد إلى سدة الحكم ويصبح رئيساً أو رجل دولة أو خليفة المسلمين وهو ليس من السياسيين. صحيح أن أبو إسماعيل اشتغل مع أحزاب سياسية كثيرة منها الوفد والأحرار والعمل، كما عمل مع أخوان وترشح عنهم في دائرة عام 2005 في دائرة الدقى والعجوزة دون أن يفوز، ثم بعد الثورة مع حزب النور السلفي، ولكن ليس دليل براعة أو حنكة سياسية بقدر ما أنه دليل على أنه بغير هوية سياسية. لقد سارت خلفه الملايين بشكل نمطي عجيب دون أن يسأله أحد ، إذ لا وقت للنقاش حول شرعية رجل سيقيم شرع الله، جميعهم على استعداد للتضحية بدمائهم من أجل صعود أبي إسماعيل إلى الحكم، الوسيلة الوحيدة لتطبيق شرع الله. وتطبيق شرع الله شعار جميل رفعه من قبل الخوميني، كما رفعه بن لادن، وطالبان، ومن قبلهم يزيد بن معاوية وكل خلفاء بني أمية، ومن بعدهم الخلفاء العباسيين وإن صَاحَبَه أو رافقه عند بعضهم شعار آخر هو الدعوة إلى آل البيت، التي استغلتها جماعات سياسية في لحظات ضعف الدولة العباسية لتقيم بها دويلات عدة في غرب وشمال إفريقيا مثل: الفاطمية والإدريسية والأغلبية وغيرهم. ولم يسلم الشرق منها فكانت البويهية والحمدانية مستغلة نفس الشعار، وكلها ترفع لواء إقامة شرع الله الذي تنازعت حوله فرق إسلامية كثيرة مذهبية وسياسية وفلسفية منذ أيام الفتنة الكبرى بعد مقتل سيدنا عثمان وحتى وقتنا هذا، بل إنها نفس الدعوة التي أزاح بها العباسيون الأمويين وأقاموا بها دولتهم على جثثهم ، وهو نفس الشعار الذي استغلته ملل ونحل وقبائل وفصائل كثيرة في لحظات ضعف الدولة العباسية لإقامة دويلات على أنقاض الدولة العباسية المتداعية، وهو نفس الشعار الذي انقسم حوله العرب في الأندلس وتفتتوا شيعاً وملوك طوائ. ليس الأمر جديدا في الفكر السياسي الإسلامي أن يستغل الساسة الدين، وأن يحشدوا خلفهم الملايين وأن يقيموا الدول مستغلين السلطة الروحية على الناس. وليس غريباً أن يقدس الناس آباءهم الروحانيين ، وأن يخلعوا على البهلوان السياسي صفة المخلَّص، وأن يعتبروه إمامهم وقدوتهم وأن يضفوا عليه بعض القداسة، هذا الأمر حدث مع كل الزعماء السياسيين الذين استغلوا الدين على مدى التاريخ كله، ليس غريبا أن يكون الدين مطية الساسة وطلاب الولاية، ولكن الجديد أن تكون العقول فارغة إلى هذا الحد الذي يتمكن معه السياسي من ملء فراغ العقول في زمن وجيز لا يتعدى العام منذ قيام ثورة 25 يناير وحتى احتشاد أنصار أبي إسماعيل في ميدان العباسية وزحفهم على وزارة الدفاع المصرية لاحتلالها وتطهيرها من الكفرة الذين استبعدوا الجليل أبا إسماعيل الذي سيقيم شرع الله. في نفس التوقيت هناك تيار ديني في الشارع المصري مسلوب الوعي أيضاً خاضع بدوره لآباء روحانيين كثر يدعونه مرة لانتخاب عمر سليمان قبل أن يتم استبعاده، ثم لانتخاب أحمد شفيق بعد ذلك، ولست أدرى من سينتخبون بعد شفيق.. ما الذي يدعو هذا الفصيل لانتخاب واحد من أركان النظام السابق دائماً مع أنه تيار يرفع شعار إقامة شرع الله أيضاً. وكيف يكون شرع الله مرة مع أبي إسماعيل ومرة مع واحد من أركان النظام السابق؟ الحقيقة لا إجابة يمكن أن تكون مقنعة عن سؤالنا إلا إذا كان الأمر اختلافا في المرجعيات الفكرية الإسلامية التي تحدد فهم كل فصيل لشرع الله فهما مختلفا عن الآخر وحسب قدرة البهلون السياسي أو الأب الروحي على التأثير في وعي الجماهير.. ولا عزاء لنا نحن المسلمين الذين لا نريد التحزب الديني أو الانضواء تحت شعارات الساسة المستغلين للدين أو دعاوى الآباء الروحانيين أو غيرهم. غير أن إجابات أخرى عن سؤالنا يمكن أن تكون مقنعة أيضاً، فالنظام السياسي في فترة مبارك استغل كثير من الجماعات الدينية وتعاون معها لكسر شوكة جماعات أخرى متطرفة كالقاعدة مثلا، هذه الجماعات كانت تنادي وحتى ثورة 25 يناير بعدم الخروج على الحاكم، وهي نفسها من تعبئ الفراغ بعد الثورة إما بتأييد واحد من نظام مبارك أو بتأييد أبي إسماعيل.. إلى أي مدى خرَّب النظام السابق الحياة الروحية والدينية وأستغل الدين والآباء الدينيين؟! وإلى أي مدى سنظل نعاني من هذا الخلل حتى ننظف العقول والأفئدة ونعيدها إلى شرع الله مجرداً من أهواء الساسة البهلوانيين أو الآباء الروحانيين الذين يستغلهم الساسة والولاة لتدعيم سلطانهم؟! بدون وعي سيظل الدين مطية البهلوان السياسي، ولا أظن إلا أن جحا لو عاد في عصرنا وأرسل لحيته وزعم أنه سوف يطبق شرع الله، ولصق نفس العدد الذي لصقه أبو إسماعيل من البوسترات وأوراق الدعاية في ميادين مصر ، لفعل بنفوس الناس ما فعل أبو إسماعيل وربما أكثر، لا لشيء إلا لأن النظام المصري السابق عمل على مدى ثلاثين عاما خلت على تفريغ الوعي المصري والثقافة المصرية والفكر المصري والتعليم المصري من محتواه وتركه فارغا إلا من البهلوانية السياسية التي لونت حياتنا بلون الخداع والسطو على الوعي المصري أو على المال العام المصري أو على عرش مصر، تعدد ت وجوه السطو، والسطو واحد.