لعل الكثيرون توقفوا كثيرا عند الحديث الشريف : " لا هجرة بعد الفتح " وحتى الآن لم يقدموا إجابة شافية . واعلم أن الهجرة هجرتان : 1- هجرة مكانية . 2- وهجرة نفسية . وفى تصورى أن النفسية مقدمة على المكانية ، بل لا تصح ولا تصدق المكانية دون أن تكون النفسية سبقتها. ولعلك الآن تريد تفصيلا أكثر وزيادة بيان. وأقول لك : هل وقعت الهجرة الكبرى من مكة إلى المدينة إلا بعد أن ابتلى الله سبحانه وتعالى المسلمين ومحص الله المؤمنين ؟! لقد حدثت رحلة الإسراء قبل الهجرة ؛ ولما أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكذبها المشركون وحدهم ، بل ارتد عدد ليس قليل ممن كانوا قد أسلموا ، فهل كان من المعقول أن يأمر الرسول المسلمين بالهجرة إلى الحبشة قبل أن يفتضح حال هؤلاء ممن ارتدوا ؟! وأنقل بعض مما جاء قى شرح الحديث كما عند ابن بطال فى شرحه على ( صحيح البخاري ) ، قال: فهذا ( يقصد نص الحديث ) بين أن الهجرة منسوخة بعد الفتح إلا أن سقوط فرضها بعد الفتح لا يسقطها عمن هاجر قبل الفتح ، فدل أن قوله صلى الله عليه وسلم : " لا هجرة بعد الفتح " ليس على العموم ؛ لأن الأمة مجمعة أن من هاجر قبل الفتح أنه يحرم عليه الرجوع إلى وطنه الذى هاجر منه ، كما حرم على أهل مكة الرجوع إليها ، ووجب عليهم البقاء مع النبى ، والتحول معه حيث تحول لنصرته ومؤازرته وصحبته وحفظ شرائعه والتبليغ عنه ، وهم الذين استحقوا اسم المهاجرين ومدحوا به دون غيرهم. ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم رثى بسعد بن خولة أن مات بمكة فى الأرض التى هاجر منها ، ولذلك دعا لهم فقال: " اللهم أمض لأصحابى هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم " . وذكر أبو عبيد فى كتاب ( الأموال ) أن الهجرة كانت على غير أهل مكة من الرغائب ولم تكن فرضا ، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للذى سأله عن الهجرة: " إن شأنها شديد ، فهل لك من إبل تؤدى زكاتها ؟ قال : نعم. قال: فاعمل من وراء البحار ؛ فإن الله لا يترك من عملك شيئا " . ولم يوجب عليه الهجرة. وقيل: إنما كانت الهجرة واجبة إذا أسلم بعض أهل البلد ولم يسلم بعضهم لئلا يجرى على من أسلم أحكام الكفار . فأما إذا أسلم كل من فى الدار فلا هجرة عليهم ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس حين أمرهم بما أمرهم به ولم يأمرهم بهجرة أرضهم : " وقد عذر الله المستضعفين من الرجال والنساء الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا " يعنى: طريقا إلى المدينة . وأما الهجرة الباقية إلى يوم القيامة فقوله صلى الله عليه وسلم:" المهاجر من هجر ما نهى الله عنه". ( وعلى الله قصد السبيل ) دكتور / عبد العزيز أبو مندور