الدكتور / رمضان حسين الشيخ تتنوع الصناعات في هذا العالم الفسيح الرحب، الفنُّ صناعة، والذوق صناعة، والخُلق صناعة، والازدهار صناعة، والحب صناعة، كلها صناعات مرغوبة، وخطوات مطلوبة، لكن صناعة أخرى يتقنها أهل الحِقد وأصحاب البغي: هي صناعة الكراهية!.. صناعة الكراهية يتبنَّاها طغامة فاسدة، ونُخبة كاسدة، تبثُّ سُمومها السوداء وأحقادَها الصفراء على مدار الساعة، صناعة بغيضة، وطريقة مَرِيضة، يُبغِضها الدِّين، ويجرِّمها رسولُ الإسلام، كيف يبثُّونها؟ ثمّة ما يدعو إلى القول إن الكراهية بين الدول والمجتمعات يجري إنشاؤها وإشعالها على نحو واعٍ ومقصود، على الرغم مما في ذلك من خطورة وقسوة على مشعليها وضحاياها.. يؤشر هذا التهييج والحشد المليء بالكراهية والتحريض إلى أزمات جوهرية في السياسة، يراد إخفاؤها أو تأجيل استحقاقاتها، لكنه لا يحل الأزمات، بل يضيف إليها أخرى جديدة. ومما يؤسفني القول بإن التحريض والدفع إلى الكراهية والعداء الاجتماعي على أسس قومية وطائفية أصبح سلعة رائجة في الدول العربية وهو يحظى بدعم سياسي وغطاء دول إقليمية لها مصلحة في بث التفرقة واحداث صراعات تحقق مأربها. وصار البغض ناراً مستعرة تعتمد في نموها على غياب الوعي وتحرق المجتمعات وتهدد السلم الاجتماعي وتثير الحروب الأهلية، تنهي التفاهم وتوجد الرغبة في الانتقام واستئصال المخالفين وتبرير التطرف والتعدي حتى على الأطفال والنساء وانتهاك الحرمات. ثمة اختلافات جوهرية بين ثقافة الغرب وثقافة الشرق في صناعة الكراهية. ففي حين تقرر ثقافتنا العربية والإسلامية احترام الإنسان، وحقه في العيش والكرامة، وتدعو إلى التعايش، والتفاعل الإيجابي بين الشعوب والحضارات، تؤمن ثقافة الغرب المادية بالحق في العيش برفاهية، حتى لو كان ذلك على حساب بقية الشعوب الأخرى، وهذا ما ساعد في تكريس مفهوم صناعة الكراهية، بدءاً بمفهوم صراع الحضارات، ونهاية التاريخ. لم يتوان الغرب عن استحداث طرق وأساليب حديثة للسيطرة على مقدرات الأمم، حيث أسهمت ثورة المعلومات والتكنولوجيا في تطوير أساليب، ووسائل الحروب، حتى أصبحت الحرب باستخدام القوى الناعمةSoft Power التي تعتبر من أفضل الطرق للسيطرة على عقول، وقلوب، وثروات الدول، خاصة الدول العربية. ويبقى تأثير القوة الناعمة أخطر من الحروب المباشرة كونه يستهدف الوجود المعنوي للإنسان بينما تستهدف الحروب العسكرية الوجود المادي للإنسان، ولتحقيق هذا التأثير النفسي البعيد المدى يتم وضع خطط ممنهجة تتمثل بنشر الشائعات، وبث الفتن وتزوير الوقائع، واللعب على الوتر الطائفي والطبقي وبهذا تبدأ الخطوات الأولى في مسيرة صناعة الكراهية التي يتم تغذيتها بين الحين والآخر لمنع هذه الشعوب من أن ترى ما يحدث خارج محيطها الضيق وبالتالي السيطرة عليها، ولكي يتم إحكام القبضة عليها بشكل مطلق، تقوم الدول المهاجمة بتغذية الخطاب الديني الطائفي والسياسي المتشدد لبثّ التفرقة ونشر الكراهية إلى أبعد مدى ممكن. فجاءت دعوة الغرب لنشر الديمقراطية كمدخل لاحتلال العراق 2003، ثم الدعوة للتغيير عقب ما يسمى بالربيع العربي بعد عام 2011 ، الذي تحول إلى خريف أسود دمّر دولاً بأكملها وفرّق شعوباً عن بعضها وخلق كراهية غير مسبوقة بين أبناء الشعب الواحد، وانتشار الفوضى، وإثارة النعرات الطائفية، والعنف، والإرهاب في المنطقة. واقع الأمر أن بيننا أشخاصاً ليسوا أعضاء في كتائب إلكترونية ولا شيء من هذا القبيل، هم فقط أشخاص جبلوا على الكراهية والكآبة والإحباط من أولئك الذين نلتقيهم في مجتمعاتنا ونتحاشى الحديث معهم، لكنهم وجدوا في شبكات التواصل ضالتهم لنشر الإحباط والكآبة على أوسع نطاق ممكن من البشر.. بل أكثر من دراسة علمية أشارت بأصابع الاتهام إلى شبكات التواصل الاجتماعي، مؤكدة مسؤوليتها عن حالات اكتئاب عصفت بحياة كثيرين منذ انضمامهم إلى مجتمعات الفضاء الافتراضي. أن شبكات التواصل الاجتماعي لم تكن الفكرة من إنشائها أن تصيب ملايين البشر حول العالم بالكآبة، بل العكس من ذلك تماماً، إذ تعد شبكة التواصل الاجتماعي ذراعاً إنسانية هيدروليكية عملاقة تضم مجموعات كبيرة من البشر، تجمعك بأصدقاء الماضي، وأقرانك في التخصص، وشركائك في الهوايات، وفوق هذا وذاك تثري معارفك وتزيد رصيدك من العلاقات الإنسانية، وتسافر من خلالها عبر صفحات الأصدقاء من غير حدودك إلى بلدانهم، تشاهد ملامح بلادهم، تصغي إلى أحاديثهم، تشاركهم أحلامهم وآلامهم ونجاحاتهم. بعض الأصدقاء الافتراضيين أصبحوا أصدقاء في الواقع، تبادلوا الزيارات في أوطانهم، وبعضهم نظموا تجمعات كبرى في شتى الفنون والآداب، نعم تجربة بالغة الثراء، لولا أن هناك دائماً من يفسدون كل شيء.. هناك دائماً نماذج بشرية تحتاج إلى إخضاعها للدراسات الاجتماعية، أو دراسات علم النفس ربما، لعلنا نعثر على (جِين) وراثي داخل أحدهم يكشف لنا عن هذه القدرة الهائلة على إفساد كل شيء، وتعكير صفو كل شيء، وصناعة الكآبة للآخرين على صفحات شبكات التواصل الاجتماعي، ويركز هذا النوع من الحروب على استهداف الشباب. ويعد الفراغ الفكري، وغياب الرؤية المستقبلية والإحباط لدى الشباب من أسباب انتشار خطاب الكراهية والفكر المتطرف، وممارسة العنف. إذ تشكل عوامل، مثل ضعف الثقة بالنفس، وانخفاض المستوى الثقافي، وسطحية الفكر من أهم الأسباب المؤدية بالشباب للانضمام للتنظيمات والحركات المتطرفة. كما أن نشر الكراهية، واستهداف الترابط المجتمعي يفتحان الباب لاستخدام العنف، والإرهاب ضد الآخر، الأمر الذي يفرض على الدولة والنظام الحاكم مواجهته بأعلى تكلفة. ولصناعة الكراهية نماذج مختلفة، سواء على المستوى العالمي، أي إشاعة الفرقة والانقسام، وإشعال الصراعات بين الدول والشعوب بعضها بعضاً، أو على مستوى رأسي بممارسة صناعة الكراهية داخل أبناء الدولة، أو الأمة الواحدة، أو الدين الواحد. ولعل الصورة الذهنية للعرب والمسلمين لدى شعوب الدول الغربية تعد أبرز الأمثلة لصناعة الكراهية على المستوى الأفقي العالمي، حيث عمدت دوائر غربية وأمريكية لتشويه صورة العرب والمسلمين، خاصة بعد أحداث وقوع 11 سبتمبر2001م، ورأينا رواجاً لظاهرة (الإسلامو- فوبيا)، ثم تطور الأمر بعد اندلاع ما يسمى الربيع العربي، وانتشرت الفوضى في أرجاء المنطقة، التي خلفت وراءها أبرز صور العنف والإرهاب، والتي تجلت بظهور تنظيم الدولة (داعش). ويمكن أن توجه صناعة الكراهية ضد أبناء الدين الواحد، أو الأمة الواحدة، وذلك لخلق الأزمات، وإثارة الفتنة، والتعصب المذهبي، والقبلي. وبالتالي، يدمر الوطن بأيدي أبنائه، أي أن التدمير هنا يكون من الداخل، وليس من الخارج، ودون أن يتكلف مشعلو الحروب أي تكاليف. ويعد الصراع في العراق، واليمن، وسوريا، وليبيا أبرز الأمثلة لصناعة الكراهية داخل أبناء الوطن والواحد، ويكون الهدف في النهاية إشغال أبناء الوطن عن قضاياهم الأساسية، وإضعاف إيمان الشعب بعقيدته، وأفكاره، ومبادئه القومية، والوطنية. وتتمثل أهم وسائل صناعة الكراهية في نشر الأكاذيب، والتلاعب النفسي، وتزييف الحقائق، وتزوير الواقع، وهذا ما يؤدي إلى التغذية بالكراهية، وتوفير البيئة الفكرية والعقائدية الحاضنة للعنف، والإرهاب. ويمكن تقسيم أنواع الكراهية إلى كراهية اجتماعية، وثقافية. وتعد الكراهية الدينية أخطر الأنواع، ويقصد بها ذلك النمط الذي يتصل بالمجال الديني، ويتحدد به. بينما تنشأ الكراهية الاجتماعية نتيجة أسباب نفسية، تنبع من الأوضاع السياسية، أو الاجتماعية، كما تعد الخطابات الوطنية، والدينية، والسياسية المتشددة مصدراً لنشر الكراهية الثقافية. لا أعرف حقيقة دوافع بعضهم في الإساءة إلى الآخرين على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، بالتطاول عليهم، أو الدخول في معارك كلامية معهم، أو حتى الاعتراض عليهم ومناقشتهم في كل شيء طوال الوقت، نعم لا بأس في الحوار والنقاش، فهذا إحدى وظائف هذه الشبكات، لكن المشكلة حين يكون دور أحدنا أن يعارض وحسب، يحاصر الآخرين كلما حاولوا الحديث بإيجابية عن أي شأن من الشؤون، يأخذ كل حديث إيجابي بعيداً عن مقصد صاحبه إلى منطقة مظلمة، حتى إن كثيراً من مرتادي شبكات التواصل أصبحت لدى كل منهم شكوى من أشخاص بعينهم تخصصوا في بث التشاؤم والإحباط، وكأنهم يتخذون من شبكات التواصل أداة لقتل كل أمل، وفرض رؤيتهم السوداوية لكل شيء على الجميع. وهناك آخرون لديهم طريقة مختلفة في تكدير الصفو العام، نعم هو لا يشتبك معك كلما بدت منك بادرة تفاؤل على حسابك، ولا يسبك من باب احترام حقك في أن تقول ما تشاء على حسابك من دون أن يتطفل أحدهم عليك، لكنه يخصص حسابه لبث موجات متلاحقة من التشاؤم والكراهية والسب العام أحياناً الذي يدخل في حكمه كل ما تقع عينه على تغريداته، أو مشاركاته، الأمر الذي يجعل حسابات بعضهم أشبه بأحجار العثرة في طريق أحدنا، عليه أن يرفع قدمه ليتخطاها، حتى يحتفظ بسلامه النفسي. ما من شك في أن إشاعة أجواء الكراهية وبث الإحباط بين مجتمع ما، إحدى وسائل حروب الجيل الرابع التي تكلف بعض الدول كتائب إلكترونية للاضطلاع بمهام من هذا النوع في مجتمعات الدول الأخرى المعادية، وما الثورات العربية عنا ببعيد، فبهذه الطريقة نفسها دفع الناس للثورة بعد بلوغ الإحباط الذي يبث لهم على شبكات التواصل مداه، لكن واقع الأمر أن بيننا أشخاصاً ليسوا أعضاء في كتائب إلكترونية ولا شيء من هذا القبيل، هم فقط أشخاص جبلوا على الكراهية والكآبة والإحباط من أولئك الذين نلتقيهم في مجتمعاتنا ونتحاشى الحديث معهم، لكنهم وجدوا في شبكات التواصل ضالتهم لنشر الإحباط والكآبة على أوسع نطاق ممكن من البشر، لا أعرف حقيقة دوافع هؤلاء، ولدي فضول أن أعرف، فقط وجدت الأمر مؤرقاً لكثيرين، فوددت الإشارة إليه، لعل المختصين في العلوم الاجتماعية أو علم النفس، يدلون بدلوهم في دوافع صناع الإحباط حتى يتسببوا في حالات الكآبة هذه لملايين البشر. يعكس الوضع المضطرب الذي تعانيه المجتمعات العربية خطورة صناعة الكراهية، والحروب النفسية التي تشنها القوى الاستعمارية لاستنفاذها، والتأثير فيها سلبيا، وضرب استقرارها، واستغلال مواردها، وضمان الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية، مما يفرض على الدول العربية التعاون لمواجهه هذا النوع من الحروب، ويستوجب هذا الوضع على الدول العربية كافة ضرورة توافر استراتيجية قومية عربية موحده ضد العنف، والتطرف، والإرهاب لإرساء قيم التسامح، والعفو، وتعزيز فكرة الانفتاح على الآخر، وغرس القيم والسلوك الإيجابي. كما يجب الاهتمام بالمواطن العربي، وتثقيفه، وتوجيهه لقضيته الأساسية. أيضاً، يجب على الدولة أن تعمل على تجديد الخطاب الديني ليتواكب مع مستجدات العصر، كما تستوجب محاربة الكراهية إزالة مختلف أشكال التمييز، وإرساء الأسس الداعمة للهوية الوطنية، وحث المواطنين على رفع راية الوطن، مما يعزز حس المسؤولية الوطنية لديهم، فضلا عن سن تشريعات وقوانين فعالة لمكافحة التمييز والكراهية. كما يكون من الضروري على الدولة مواجهة حالة الفراغ الفكري لدى الشباب، وتدريبهم على الفكر النقدي، وذلك لتجنب إثارة الفتن، مع التأكد من أي مواد إعلامية تحض على الكراهية، والعنف، يتم بثها عبر شبكة الإنترنت، فضلاَ عن استغلال طاقة الشباب، وتربيتهم على ثقافة العمل التطوعي لخدمة المجتمعات، وتنمية الشعور بالمسئولية الوطنية، وزرع قيم التسامح، والعفو، وحب الوطن. كما يجب على الدول أن تضطلع بدورها الأساسي في تحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة كسبيل أساسي لمواجهة الإرهاب، والفقر، وخفض نسبة البطالة، والحد من الفساد، وزيادة الاستثمارات. الدكتور / رمضان حسين الشيخ باحث وكاتب في العلوم الإنسانية وفلسفة الإدارة الخبير الدولي في التطوير الاداري والتنظيمي [email protected]