فى تطور الأمم وتقدمها يلعب المجتمع دوراً أهم من الدولة، وتسبق الثقافة السياسة، وتكون فى مقدمتها، ويكون الإنسان محور الحركة، ومعيار النجاح، حيث تكون منظومة القيم التى يحملها الإنسان العادى هى مقياس ما وصل إليه ذلك المجتمع من رقى وحضارة، وما وصلت إليه الدولة من تقدم وازدهار، فيتم قياس الدول بقوة مجتمعاتها، وتقاس المجتمعات بتماسك منظومات القيم التى يحملها أفرادها، سواء أكانت هذه القيم فردية مثل الصدق والأمانة والنزاهة، أو جماعية مثل النظام واحترام القانون.وإذا نظرنا إلى المجتمعات العربية منذ بداية هذا القرن فسنجد أن عملية تغيير النظم السياسية؛ سواء بالتدخلات الخارجية كما حدث فى العراق مع الغزو الأمريكى 2003، أو بالثورات الشعبية العفوية، قادت إلى تفكيك الدولة الوطنية العربية، وإنهيارها، وفتح المجال أمام ظهور الانتماءات العرقية والطائفية والجهوية، التى تهدف إلى تفتيت الدول الوطنية إلى دويلات متصارعة متنازعة، تحمل من الثارات التاريخية ما يحول دون استقرارها أو استمرارها. ونتج عن تفكك الدول، أو انهيارها، أو ضعفها تداعيات أشد خطورة على مجتمعاتها، فتراجعت إرادة العيش المشترك، وانقلب المجتمع على نفسه، ورجع الجميع إلى الحالة البدائية الأولي؛ حيث حرب الكل ضد الكل، وكراهية الكل للكل، وهنا فقد النظام الاجتماعى معناه، وتفككت منظومة القيم، ولم تعد قاسماً مشتركاً يحافظ على لحمة المجتمع، بل صار لنفس القيمة الاجتماعية تفسيرات متناقضة، لأن كل طرف يوظفها لتحقيق مصالحه، أو لسلب الآخرين حق الوجود.هنا ظهر نوع جديد من البشر أطلق عليه المفكر الإنجليزى كولن ويلسون اللامنتمى فى كتاب حمل نفس العنوان نشره 1956، هذا الإنسان اللامنتمى صار قائداً اجتماعياً وثقافياً وإعلامياً، وناشطاً سياسياً، ومناضلاً ثورياً، ومجاهداً داعشياً، ومن أصحاب ملايين المتابعين على شبكات التواصل الإجتماعي، هذا اللامنتمى صار هو صانع الثقافة العربية، وقائد الرأى العام العربي، ومحرك الثورات، والتظاهرات والعمليات الإنتحارية، وهو لا ينتمى إلا لنفسه وصورته ومداخيله، أو لحزب سياسي، أو جماعة دينية لا منتميه كذلك، تتحرك فى العالم الافتراضي؛ دون أن يكون لديها انتماء لوطن وأرض ومجتمع ودولة. هذه الكائنات اللامنتمية سواء أكانت أفراداً أم أحزاباً أم جماعات، أم دولة خلافة وهمية، جميعها بلا إستثناء فشلت فى البناء بعد التدمير، فشلت فى التركيب بعد التفكيك، فشلت فى إيجاد البدائل بعد قرن من نقد الأخرين، واتهامهم بجميع أنواع التهم، فشلت فى أن تطبق فى أرض الواقع كل الشعارات والدعاوى والأحلام التى خدرت بها الأتباع والأنصار والمتعاطفين.. ورغم كل ذلك الفشل فإن ذلك الكائن اللامنتمى مملوء بالكبر والغرور والغطرسة؛ يرفض أن يعترف بالفشل، ويرفض أن ينظر للوراء ويراجع ما فعل، ويرفض أن يكون فى فكره أو فعله تقصير، لانه هو العالم الخطير، والمفكر النحرير، وحيد دهره وفريد عصره...حالة بائسة من فشل المغرورين المتكبرين. وليسأل كل منا نفسه، الأسئلة الآتية، ويترك لضميره الإجابة.ماذا لو أدرك تنظيم الإخوان فى مصر منذ 3 يوليو 2013 أنه فشل فى الاحتفاظ بقيادة مصر؟ بغض النظر عن أسباب هذا الفشل، فقط أن يدرك أنه فى الحقيقة والواقع لا يستطيع أن يدير مصر؛ والجيش ليس معه والشرطة والقضاء والإعلام ، ومعظم جهاز الدولة، ألم يكن ذلك كفيلا بالحفاظ على مكتسبات ثورة يناير للجميع، بما فيها هذا التنظيم؟ ألم يكن ذلك طريقا لإنقاذ المجتمع المصرى والاقتصاد المصرى من مآسى الإرهاب والتوتر والاضطراب الذى شهدته مصر لأربع سنوات منذ ذلك التاريخ؟ ماذا لو أدركت القوى الطائفية التى دخلت العراق على الدبابة الأمريكية أنها فشلت فى الحفاظ على العراق، وأنها أدخلت العراق فى حروب أهلية متواصلة، وأنها فشلت فى الحفاظ على ثروته، وأنها أصبحت نموذجاً عالميا للفساد والنهب، وانتهاك حقوق الإنسان رغم أنها ترفع أطهر الشعارات الدينية والتاريخية؛ شعار آل البيت والحسين عليه السلام، ألا يستحيى هؤلاء الفاشلون الفاسدون من النبى الأعظم صلى الله عليه وسلم، والإمام على والحسين عليهما السلام؟ماذا لو أدرك قادة المعارضة السورية الذين يصعب حصرهم؛ أن فكرة الثورة وتغيير النظام فى سوريا لم تعد ممكنة بعد تدخل إيران وحزب الله من جانب وتدخل القاعدة وداعش وكل المهووسين بالقتل والنكاح من شذاذ الآفاق، وأن سوريا وطنهم أصبحت ملعبا لكل فرق الإجرام الإقليمية والعالمية، وأن الثورة لم تعد ثورة وإنما صارت حرباً أهليه بالوكالة عن فاعلين إقليميين ودوليين؟ألم يكن ذلك ضروريا لإنقاذ ملايين البشر من القتل والتهجير وانتهاك الأعراض؟ ألم يكن ذلك ضروريا للحفاظ على سوريا التى صارت أطلالاً من الخرائب؟...ألم يثبت الواقع أن قرار وقف الحرب ليس فى أيديهم؟...ولكن للأسف مازالوا يكابرون ولا يملكون شجاعة الإعتراف بالفشل حتى وإن أرجعوا هذا الفشل إلى مؤامرة دولية...مازالوا يتمنون فشل الهدنة وعودة القتال حتى يثبتوا لأنفسهم أنهم لم يفشلوا. نفس المنطق ينطبق على ثوار ليبيا الذين وصفهم أستاذ علوم سياسية ليبى أنهم أصبحوا ثيرانا تحطم كل شىء فى ليبيا، وينطبق بصورة أشد على الشاب المغرور فى اليمن الذى قتله حلم أن يكون حسن نصرالله آخر، فدمر اليمن وقضى على مستقبل جماعته، ومازال يخرج على شاشات التليفزيون مقلدا سيد جنوبلبنان...ندعو الله أن يرزق هؤلاء الفاشلين بعضا من الحياء. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف;