الدكتور / رمضان حسين الشيخ إن الحضارات الإنسانية حرصت على زرع قيم المهنية وحب العمل وإتقانه في نفوس أبنائها، باعتباره قيمة إيجابية مهمة تدل على تميز الفرد ومكانته، وتسهم في تطور المجتمع ونمائه واستمرار تفوقه، فتغرس فيهم منذ الصغر مبدأ الإخلاص في العمل - أي عمل ما دام شريفاً - وتحثهم على التفاني فيه، على اعتبار أنه ليس مجرد مصدر للدخل بل هو المواطنة الصحيحة التي تخدم المجتمع المصري. وعلى النقيض من ذلك تسود في مصر الحبيبة نظرة اجتماعية خاطئة تحولت إلى ثقافة وظيفية عامة لها مفاهيمها وملامحها السلبية التي ترى أن العمل هو مجرد تأدية وظيفة ما بأقل مجهود ممكن للحصول على بعض الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية، دون الاهتمام بالإخلاص والتميز والإنتاج، فالغاية تصبح تسلم الراتب في نهاية كل شهر. اذا اردنا أن نفهم مصطلح 'العمل المؤسسي' يجب علينا أن ندرك أن هناك نظريتين متناقضتين، وفي الوقت نفسه مكملتان بعضهما بعضا وهما نظرية 'المؤسسة الرائدة' وأسطورة 'القائد الفذ'. أسطورة الرجل العظيم أو 'القائد الفذ' إحدى الأفكار القيادية التقليدية التي انتشرت في بداية القرن التاسع عشر، وتقوم هذه الفكرة على بناء القائد شخصيته وإهمال شخصية المنظمة، ولهذا ستظل المؤسسة قائمة ولديها القوة على التغيير والنمو طالما بقي القائد، لكنها ستتوقف وتنهار بسرعة فائقة عندما يرحل عنها بنقل أو ترقية أو وفاة، وقد تبنت شركة زينث هذه الفكرة عندما وصف موظفوها قائدهم 'ماكدونالد' بالمفكر العنيد المتألق. وتتحاشى المنظمات التي تطمح إلى البقاء والاستمرارية هذا النوع من النظريات، لأنه مرتبط برموز وليس بفكر. ومن ثم استبدلت أسطورة 'القائد الفذ' بفكرة 'المؤسسة الرائدة'، حيث يبني القائد المؤسسة وتكون لديها آلية البقاء والقدرة على التطوير والتغيير الذاتي حتى لو رحل عنها مؤسسها، لأنه أنشأ داخلها خاصية النمو الذاتي، ومن أمثلة ذلك شركة موتورولا، ماريوت، بوينج، وسوني. وبناء خاصية النمو الذاتي للمؤسسات يحتاج إلى إبداع وعبقرية، فالقائد يصمم نظاما قادرا على استقطاب الكفاءات المتميزة وقذف الرديء من القياديين والعاملين والمتعاملين. فهذا النظام يشبه - إلى حد ما - جسم الإنسان الذي يحتفظ بالجيد من الطعام والشراب ونحوه ويقذف الرديء من الميكروبات والفيروسات. ما أحوجنا الآن إلى نشر مفهوم ثقافة العمل المؤسسي في مصر وجميع الجوانب المؤثّرة والمتأثّرة بالعمل، وبمن يستفيد من العمل سواء كان موظفا أم عاملا أم صاحب عمل، أم متلقيا للخدمة أم المجتمع ككيان واحد له صيغة اقتصادية وإعلامية واجتماعية وسياسية، وتشمل ثقافة العمل عددا من المجالات التي تتأثّر بمستوى ثقافة العمل، حيث يمكن تلخيصها في إجراءات العمل؛ وتطوير الذات؛ وبناء الأنظمة. إن بعث ثقافة العمل في مجتمعنا المصري، تستدعي بث روح العمل وقيمته في نفوس أطفالنا وشبابنا ونسائنا بنشر ثقافته، وبإظهار القدوة أمامهم من أجل ضمان تقديرهم، وتدريبهم علي العمل منذ الصغر، وكذا التأكيد على سياسة الثواب والعقاب في مجالات العمل المختلفة لضمان الجدية في التنفيذ، جنبا إلى جنب مع تشجيع العمل الخلاق وتفجير الطاقات الإبداعية من داخل الأفراد، وعدم الاعتماد على مجرد الأداء التقليدي الرتيب للعمل. يجب أن ندرك أن عصرنا اليوم يفرض علينا الاتجاه فوراً نحو العمل المؤسسي ومراجعة القطاعات المختلفة وتدعيمه سواء عن طريق بناء مؤسسات جديدة أو اصلاح الموجود منها وتهيئتها لتقوم بوظيفتها المحددة لها وفق المعطيات والأهداف. والمؤسسات إذا تم التخطيط لها وادارتها بشكل مناسب وفعال سوف تسهم في تطوير العمل. والعمل المؤسس ينجح ويؤدي إلى نتائج مثمرة إذا حظي بتنظيم جيد ومتابعة خاصة وجادة. ومن الضروري أن يقوم العمل المؤسسي على استراتيجية مفتوحة للجميع وخاصة أولئك الفاعلين والجادين في مجال اختصاصهم، والقادرين على الاسهام في أداء العمل بروح جماعية ووفق اطار مؤسسي يكفل لذلك العمل أفضل النتائج. في الوقت الذي أؤكد فيه على أهمية العمل المؤسسي دون التقليل من أهمية جهود الأفراد، فإن العمل المؤسسي بحاجة شديدة إلى ان ينضبط بضوابط تكفل له المرونة والشمولية في الخدمة، وانغلاق أي عمل مؤسسي على نفسه يقوده بلاشك إلى نتائج سلبية ولا يحقق لذلك العمل أو المجتمع أي فائدة تذكر. كما أن المؤسسات التي تخدم العمل العلمي والثقافي إذا لم تنضبط بضوابط واضحة وتكون نشطة وفاعلة فإن تلك المؤسسات تصبح رهينة للافراد الذين يديرونها وتنتفي عنها صفة المؤسسات. ولنتذكر أهمية العمل المؤسسي عندما نحتاج إلى معلومة متكاملة وأعمال مكتملة في جوانب معينة، وتزداد تلك الأهمية، بل ويزداد ذلك الهم عندما نرى تعدد الجهود وتناثر المصادر دون وجود رابطة واحدة تجمعها، وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر إن التوثيق في مصر الحبيبة لا يحظى بالاهتمام المطلوب رغم أهمية المعلومات. فالمعلومات أساس مهم من أسس القرار في أي مجتمع، ووجود تلك المعلومات في مؤسسات محددة حسب الاختصاص يقود إلى فائدة كبيرة لصانع القرار وحسن القرار. والغريب أن هناك جوانب لاتزال مهملة سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات مما يتطلب منا الالتفات اليها وتحديد العمل المؤسسي المناسب لها كي يتم خدمتها بالشكل الملائم. إنني أعتقد ان ملامح ثقافة العمل المطلوبة بمؤسساتنا المصرية يجب أن تتضمن: (ثقافة القيم والمبادئ السامية، ثقافة التجديد والتطوير والتحسين المستمر، ثقافة الإتقان والتفاني في الخدمة المتميزة، ثقافة الأسرة الواحدة المتماسكة والمتحابة). علماً بأن عدم تحقيق الرضا الوظيفي لدى كثير من الموظفين في القطاع الحكومي يأتي من ضمن أسباب قلة الانتاجية، خاصةً إذا ما عيّن الموظف على وظيفة لا تناسب تخصصه الأكاديمي أو تتوافق مع ميوله، مشدداً على أهمية إعادة صياغة آليات التوظيف، وعمل مراجعة شاملة للنظام الاداري أو السرعة في انجاز قانون الخدمة المدنية تشمل التوافق بين الوظيفة والمؤهل الأكاديمي، وصياغة برنامج مناسب للثواب والعقاب، يشمل وجود برنامج خاص للحوافز والمكافآت، مطالباً الجهات الحكومية على تغيير آلياتها في تقييم الموظف وعدم الاعتماد على آليات التقييم التقليدية، مع ضرورة وضع مؤشرات واضحة لقياس إنتاجية الموظف، وأن تتم تجديدها ومراجعتها بشكل دوري يتناسب مع ما يستجد من أمور، كذلك لابد من تحسين بيئة العمل الحكومي المادية والمعنوية، وإذا أردنا أن نحصل على إنتاجية مرتفعة ذات جودة عالية فلابد من أن نتعامل مع الموظف على اعتبار أنه كائن بشري له متطلبات غير العمل يلزم مراعاتها. أن الوعي بالعمل المؤسسي يحتاج إلى نقلة كبيرة في فهمنا للمسئوليات وتركيز العمل وتوحيد الجهات المتخصصة في جانب من الجوانب. ومن جوانب ذلك الوعي عدم اعاقة المؤسسات من قيامها بوظائفها المحددة لها من خلال دمج الاعمال التي تخصها وتركيز جهودها على الأعمال التي تدخل في اختصاصها. ومن جانب آخر، على المؤسسات الآخرى التي تتماثل في النشاط التنسيق بشكل فعلي والتعاون فيما بينها لتحقيق التكامل المطلوب بدلا من تشتيت الجهود والاسراف في الموارد المالية واهدار الطاقات. ديناميكية العلاقات بين العاملين في مكانٍ واحد أمرٌ في غاية الأهمية، والذي يؤثر كثيراً في كيفية سير هذا العمل هو الرئيس أو المدير ، والذي يجب أن يعرف بأنه في مكانه هذا لكي يُسهّل سير العمل ويقوم بتذليل الصعوبات ويحل المشكلات التي قد تنشأ بين العاملين في مكان العمل ، لذا لابد أن يكون المسؤول ، مديراً أم رئيساً رجلا ذا خبرة وعلم بكيفية قيادة المجموعات والتحلي بالصفات القيادية المهمة التي تُساعد على أن يسير العمل بشكلٍ سلس ، وإعطاء كل شخص حقه ، وجعله يشعر بالارتياح النفسي ، والذي هو مهم بشكلٍ كبير في تسيير عجلة العمل. إن الثقافة السائدة في مجتمعنا تلعب دوراً كبيراً في كيفية تسيير العمل، فثقافة المجتمع التي يكون للعمل فيه قيمة وأهمية كبيرة يأخذ العاملون العمل بشكلٍ جاد ، ويعملون دون تكاسل أو إهمال ويعتبرون العمل قيمة كبيرة للشخص، ولا يخلطون بين العمل والكسل أثناء أوقات العمل؛ فالعمل يكون عملاً جاداً دون تهاون أو استهتار. للآسف هذا ما ينقصنا في ثقافتنا نحو العمل، حيث نأخذ الوظيفة كأنها حق لنا ، لا نقوم بالعمل بشكلٍ جاد ولايهمنا مصالح المصريين الذين قد تتعطل مصالحهم، والموظف لا يأبه بالضرر الذي يقع على هؤلاء الذين وضع لخدمتهم ولكنه للأسف يتصرف وكأنه وضع في هذه الوظيفة لكي يُعذّب الناس بل وأحياناً يُهينهم في بعض دول العالم الثالث.. ويزيد الأمور سوءاً إذا كان العاملون على خلاف بين بعضهم البعض ، ويقوم كل شخص منهم بالقاء العمل على الشخص الآخر ، وتضيع الأعمال بين الموظفين المُحبطين.. وعدم وجود نظام واضح يجعل سير العمل سلساً ، ويعرف كل موظف وكل عامل ماذا يصنع إزاء الأعمال التي ترد إلى المؤسسة أو الإدارة التي يعمل بها. وعلينا أن نتعلم من التجربة اليابانية تلك هي التي ما نفتقده في مجتمعنا المصري وهي ما نحتاج إليه؛ فالفكرة القائمة لدينا تركز على قيمة العمل الفردي وبشكلها المشوه؛ فما إن تلتفت حولك حتى تجد أسماء شركات مثل: "شركة فلان وأولاده"، أو "أبناء فلان لصناعة كذا"، أو "إخوان فلان للتجارة والتصنيع" أكثر من ملاحظ، فنحن نعشق عمل المؤسسة القائم على مفهوم "الحاج، أو المعلم أو الفرد". وإن من أهم ما يميز ثقافة العمل لدي اليابانيون ما يلي: 1) حب العمل : أن العامل الياباني يحب العمل بشكل كبير بل ويقدسه ويقبل على عمله بجد وكأنه يمارس طقوس دينية وهو ينظر إلى مكان العمل على أنه مقدس، ولا ترى في أماكن العمل أي مظاهر للهو أو المرح كما لا تري إلا أشخاص جادين ومنكبين على العمل ويظهر هذا بالأخص في اجتماعات العمل حيث لا يبدي اليابانيون أي نوع من الانفعالات خلال الاجتماعات كما يتكلمون بنغمة منخفضة ثابتة ويستمعون بعناية فائقة وغالباً ما يغمضون عيونهم للتركيز على ما يقوله محدثهم. 2) النظام الاجتماعي واحترام الأكبر سناً: ساعد النظام الاجتماعي والأسري التقليدي والصارم في بناء مؤسسات الأعمال بشكل أبوي حيث يعامل المدراء والموظفون الأكبر سنا بقية الموظفين بشكل أبوي وضمن قوانين أسرية تفرض عليهم احترام الاكبر وتبجيله وبشكل عام يتميز اليابانيون باحترام العلاقات الاجتماعية وتقديسها وبالتالي ينال المدير في اليابان سلطة قدسية يصعب أن يحصل عليها المدير في أي بلد آخر. 3) الانتماء للمؤسسة والتقدم الوظيفي: ينظر الموظف في اليابان إلى المؤسسة التي يعمل بها وكأنها بيته الثاني فما أن ينضم لمؤسسة ما حتى يصبح جزء لا يتجزأ منها ويبقى بها طيلة حياته حيث يتم تقييمه بصورة بطيئة وبدقة كبيرة وترتبط العلاوات والتقدم الوظيفي بمدى التقدم بالعمر والتقدم الوظيفي فنادراً ما ترى مديراً قبل سن الخامسة والأربعين. 4) العمل الجاد ليس أهم من الترفيه عن النفس: بعد ساعات العمل الشاق ينهي اليابانيون يومهم بالمرح وهذا ليس فقط تقليد متوقع بل هو أشبه بواجب ديني، وبينما يكون مكان العمل مقدس وكئيب يخرج اليابانيون في النوادي الليلية مجونهم ومرحهم وبالإضافة الي المهمة التي يقوم بها النوادي ليلية من موازنة العمل الجاد بالمرح يلتقي رفاق العمل فيها ليتبادلوا الخبرات ويعمقوا العلاقات فيما بينهم، قد يعجب الكثيرون من درجة الالتزام بالعمل في ثقافة الأعمال في اليابان إلا أن الغريب هو أن هذه الثقافة تلزم العاملين أن يرفهوا عن أنفسهم بشكل يومي. والتساؤل الذي يدور في ذهني الآن.. مقارنا بينها وبين مصرنا الحبيبة ومقارناً بين الانسان الياباني والانسان المصري مهما كان موقعه ومتسائلاً ماذا قدم هذا الانسان المصري لوطنه؟!، ومتى ينهض الانسان المصري من نومه ومتى يدرك المسئولية وينبذ الاتكالية ومتى ينطلق في رحاب العلم والبحث العلمي ومتى يتخلى عن الغوغائية الكلامية؟ كل عام وعمال مصر في خير وتوفيق من الله.. إن سواعدكم تغرس بذور الأمل، وعرقكم يرويها لتصير بعزيمتكم مصر دولة منتجة ومصدرة، لا مستهلكة فقط.. ونفخر دوماً ب "صنع في مصر". الدكتور / رمضان حسين الشيخ خبير الإدارة والتنمية والتطوير المؤسسي باحث وكاتب في العلوم الإنسانية وفلسفة الإدارة إستشاري التدريب وتنمية الموارد البشرية وتصميم النظم مصمم منهج فرسان التميز لتغيير فكر قادة المؤسسات [email protected]