البابا تواضروس يصلي قداس عيد القيامة في الكاتدرائية بالعباسية    حزب العدل يشارك في احتفالات «الإنجيلية» بأعياد القيامة    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن الأحد 5 مايو 2024    «تجارية الجيزة»: انخفاض أسعار الأجهزة الكهربائية بنسبة 30%    انخفاض كبير الآن.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد 5 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    احتجاج مناهض للحرب في غزة وسط أجواء حفل التخرج بجامعة ميشيجان الأمريكية    رئيس الحكومة الجزائرية يبحث مع أمين عام منظمة التعاون الإسلامي سبل الدفاع عن قضايا الأمة    ياسمين نوح تعلن اعتزالها بعد تتويج الزمالك ببطولة إفريقيا    عمرو وردة: رحلت عن بانسيرايكوس لهذا السبب.. وأتواصل مع صلاح    مختار مختار ينصح كولر بهذا الأمر قبل نهائي إفريقيا أمام الترجي    نادر السيد يفضل مشاركة هذا اللاعب لتعويض المثلوثي أمام سموحة    كريم فهمي يُعلق على ارتداء على معلول شارة قيادة نادي الأهلي: ليه كلنا فرحانين؟    دار الإفتاء تنهي عن كثرة الحلف أثناء البيع والشراء    ضياء رشوان: نتنياهو لن يجرؤ على مهاجمة رفح الفلسطينية    تساحي هنجبي: القوات الإسرائيلية كانت قريبة جدا من القضاء على زعيم حماس    عاجل.. تأكد رحيل ثلاثي الأهلي في نهاية الموسم    تحرك عاجل من اتحاد الكرة في قضية الشحات والشيبي    «أمطار تضرب هذه المناطق».. بيان عاجل من الأرصاد بشأن حالة الطقس اليوم (احذروا التقلبات الجوية)    مصطفى بكري: اتحاد القبائل العربية كيان مدني يقف خلف الدولة والقوات المسلحة    عبارات تهنئة بمناسبة عيد شم النسيم 2024    "حب جديد هيدق بابك".. بشرى سارة لمواليد برج الجوزاء اليوم (توقعات الصعيد المهني والمادي)    جيانكارلو اسبوزيتو بطل Breaking Bad ينضم لعالم Marvel    شقيق ياسمين صبري يتعرض للإغماء في أمريكا    مطران دشنا يترأس قداس عيد القيامة المجيد بكاتدرائية الشهيد العظيم مار جرجس    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    مستشار الأمن القومي الإسرائيلي: كنا قريبين من القضاء على السنوار واجتياح رفح قريب جدا    لغز روشتة الأطباء أبرزها، شعبة الأدوية تكشف أسباب نقص الأدوية رغم انتهاء أزمة الدولار    احتدام المنافسة بانتخابات البرلمان الأوروبي.. الاشتراكيون في مواجهة تحالف المحافظين مع اليمين المتطرف    بمشاركة مصطفى محمد.. نانت يتعادل مع بريست في الدوري الفرنسي    محافظ القليوبية يشهد قداس عيد القيامة المجيد بكنيسة السيدة العذراء ببنها    بسبب الاستحمام.. غرق طفل في مياه ترعة بالقليوبية    بعد الوحدة.. كم هاتريك أحرزه رونالدو في الدوري السعودي حتى الآن؟    الزراعة تعلن تجديد اعتماد المعمل المرجعي للرقابة على الإنتاج الداجني    نميرة نجم: حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها غير موجود لأنها دولة احتلال    إصابة 10 أشخاص فى أسيوط إثر انقلاب سيارة "تمناية"    سعاد صالح: لم أندم على فتوى خرجت مني.. وانتقادات السوشيال ميديا لا تهمني    صيام شم النسيم في عام 2024: بين التزام الدين وتقاطع الأعياد الدينية    خاص| زاهي حواس يكشف تفاصيل جديدة عن البحث على مقبرة نفرتيتي    بمناسبة عيد القيامة.. رئيس قضايا الدولة يشارك في احتفال الكاتدرائية المرقسية    بسبب ماس كهربائي.. المعمل الجنائي يعاين حريق مخزن قطع غيار بالعجوزة    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    بالصور.. نائب محافظ البحيرة تشهد قداس عيد القيامة بكاتدرائية دمنهور    عوض تاج الدين: تأجير المستشفيات الحكومية يدرس بعناية والأولوية لخدمة المواطن    لطلاب الثانوية العامة 2024.. خطوات للوصول لأعلى مستويات التركيز أثناء المذاكرة    رئيس الغرفة التجارية بالجيزة: شركات عدة خفضت أسعار الأجهزة الكهربائية بنسب تصل إلى 30%    مهران يكشف أهمية استخدام الذكاء الاصطناعي في التأمين    محافظ بني سويف يشهد مراسم قداس عيد القيامة المجيد بمطرانية ببا    نجل «موظف ماسبيرو» يكشف حقيقة «محاولة والده التخلص من حياته» بإلقاء نفسه من أعلى المبنى    تحذير من الأرصاد بشأن الطقس اليوم: عودة الأمطار وانخفاض مفاجئ فى درجات الحرارة    المنيا تستعد لاستقبال عيد القيامة المجيد وشم النسيم    أهالي الجنود لجيش الاحتلال: اقتحام رفح يعني فخ الموت.. لم نعد نثق بكم    رسالة دكتوراة تناقش تشريعات المواريث والوصية في التلمود.. صور    قداس بدولة الهند احتفالا بعيد القيامة    التحالف الوطني يكرم ذوي الهمم العاملين بالقطاعين العام والخاص بالأقصر    ب 150 ألف مقدم.. تفاصيل شقق الإسكان المتميز قبل طرحها بأيام- (صور)    "زلزال".. تعليق صادم من تامر أمين على صورة حسام موافي وأبو العينين (فيديو وصور)    من القطب الشمالي إلى أوروبا .. اتساع النطاق البري لإنفلونزا الطيور عالميًا    دعاء يغفر الذنوب والكبائر.. الجأ إلى ربك بهذه الكلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة في السياسة والأدب ( 6 )
نشر في شباب مصر يوم 12 - 06 - 2015

دخلت قاعة مدرسة متوسطة الجمهورية ، مثلما طالبني قرار طردي منها ، وجدت مدير المتوسطة ، ريسان مطر ، ومعه رجلان لا أعرفهما ، ولم أرهما من قبل ، كان أحدهما يمسك بحزمة من عصي الخيزران ، بينما وقف الآخر الى جانب المدير الذي صاح بي أن أتقدم نحوه ، وأن أضع كتبي التي كنت أحملها على أرض القاعة الاسمنتية ، ثم قال لي بصوت عالٍ : مد يديك وافتحهما : مددت أنا يديي ، وراح هو ينهال علي ضربا بتلك العصا المؤلمة جدا ، ولم يكتف ِ هو بذلك ، بل راح يضربني على ظهري وعلى أرجلي وعلى أجزاء أخرى من جسدي .
لقد تحول هو بين لحظة وأخرى من رجل تربوي الى رجل شرطة جلاد من الطراز الأول ، وعلى طريقة رجال حزب البعث في تحولهم من أعضاء في ذلك الحزب الى جلادين قتلة ، ومن هؤلاء صدام حسين ، أحد طلاب كلية الحقوق في جامعة بغداد ثم نائب لرئيس الجمهورية أحمد حسن البكر ، وهو لما يزل طالبا في السنة الرابعة من تلك الكلية ، فوقتها قاد صدام عصابة تدعى مثلما سموها هم ب " بجهاز حنين " وكانت تلك العصابة تتكون بالاضافة الى صدام من المجرم مدير الأمن العام ، ناظم كزار ، الذي كان طالبا معنا في جامعة بغداد ، ثم عبد الوهاب الأعور ، وهو رجل من أهل محافظة بابل ، وأخيرا جبار كردي وهو شقي من شقاوات بغداد ، هذه العصابة قادت عمليات قتل وتصفيات جسدية للكثير من العراقيين المعارضين داخل بغداد وخارجها ، وقد باشرت عملها المشين هذا بعد وصول حزب البعث في حكمه الثاني يوم السابع عشر من شهر تموز سنة 1968م ، وقد عرفت العصابة هذه عند الناس في بغداد باسم : أبو طبر ، والطبر آلة حادة كانت تلك العصابة تقتل بها المعارضين لحكمهم ، ولكن مع ذلك فقد ازداد القتل كثيرا في العراق اليوم ، مثلما ازدادت عصابات الموت فيه بعد أن تمشت الديمقراطية الأمريكية في شوارعه بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م .
بعد وجبة التعذيب التي تلقيتها على يد المدير الجلاد ريسان مطر حملت كتبي بصعوبة بالغة جدا ، وخرجت من المدرسة ، وكنت في غاية الألم والحزن ليس لأنني تعرضت الى ذلك التعذيب وحسب ، وإنما لأني فقدت الدراسة في تلك المدرسة ، وبينما كنت أواصل السير في شارع الجمهورية من مدينة الناصرية ، وقبالة فندق الهاشمي منه ، وعند الساعة العاشرة صباحا توجه نحوي معلم من أهل الشطرة يدعى : جاسم ، سألني لماذا خرجت أنت من المدرسة في هذه الساعة المبكرة ؟ قلت له : طردوني من المدرسة والدراسة ! رد هو على الفور : احمل حقيبتك الآن ، واذهب لأبيك ، فهو قادر وحده على اعادتك للمدرسة ثانية .
كان المعلم جاسم يعلم ، على ما يبدو ، أنني كنت مسجونا بتهمة انتمائي للحزب الشيوعي ، وقد علمت ، فيما بعد ، أنه كان من تنظيمات الحزب الجديدة التي تشكلت في المدينة بعد انقلاب شباط الأسود عام 1963م ، كما انني عرفت أيضا أن السبب الذي عجل بطردي أنا وبعض آخر من طلاب مدرستي هو توزيع قطع حلوى " جكليت " على طلاب المدرسة ، وقد كانت تلك القطع ملفوفة بورق في داخله منشور صغير يحمل التهاني بمناسبة ميلاد الحزب الشيوعي . ولهذا حذرني الرجل الذي اصطحبه والدي معه الى إدارة مدرستي ، والذي ساعدني كذلك في إعادتي من جديد للدراسة فيها ، قد قال لي وقتها ، وبعد أن وافق مدير المتوسطة ، ريسان مطر ، على إعادتي تلك ، قال : إياك إياك أن توزع قطع حلوى على الطلاب ، وإياك أن تستلمها من الآخرين في حال توزيعها بالمدرسة !
عدت الى صفي الدراسي من جديد ، وكنت وقتها قد أديت جميع امتحانات الفصل الثاني لكل الدروس ، ما عدا امتحان مادة الكيمياء التي رفضت مواصلة الإجابة على أسئلة الامتحان فيها حين سمعت ساعتها اعلان طردي من المدرسة ، رغم أن أستاذ المادة عبد علي الكاظمي وهو من أهالي بغداد ، ويبدو أنه كان من أعضاء الحزب الشيوعي الغير معروفين ، قد طلب مني مواصلة الإجابة على تلك الأسئلة ، كما أن هذا الاستاذ قدم لي مساعدة لن أنساها ما حييت ، وذلك حين التقيته ونحن خارجين من مطعم الحسيني الواقع في شارع الجمهورية ، وهو المطعم الذي اعتدنا أن نتناول فيه طعام الغداء كل يوم ، عندها قلت له : أنت تعلم – يا أستاذ – الظروف الصعبة التي مررت بها طوال هذه الأشهر ، ورغم كل تلك الظروف القاسية حصلت أنا على درجات عالية في كل الدروس باستثناء درس الكيمياء الذي لم أستطع أن أنجز الامتحان الفصلي فيه ، وعلى هذا أطلب منك أن تمنحي درجة نجاح عند تسليمك درجات السعي السنوي لإدارة المدرسة ، وأنا أتعهد لك أنني سأحصل على درجة عالية في الامتحان النهائي . رد علي هو قائلا : كم تريد ؟ قلت له أريد درجة النجاح الصغرى ، أي خمسين درجة ، قال لي متسائلا : خمسون فقط !؟ قلت : نعم . خمسون فقط . ثم ودعته وانصرفت .
ما كنت أحسب أن الاستاذ سيمنحني الدرجة التي طلبتها ، ولكنني فوجئت حين نادى علي مدير المتوسطة ، ريسان مطر نفسه ، وهو يوزع على الطلاب شهادات درجات السعي السنوي قائلا : قل لي يا سهر كيف دبرتها ؟ أنت ناجح بتفوق في أغلب الدروس . قلت له : أستاذ أنا طالب مجد رغم أنني أمضيت فترة طويلة في السجن . رد هو : ساراك في الامتحانات النهائية ! قلت له ستراني ناجحا بتفوق في كل الدروس ، ثم ناولني هو شهادتي وانصرفت من المدرسة .
أديت الامتحانات النهاية لتلك السنة الدراسية المشؤومة ، ونجحت بتفوق فيها ، وحصلت على درجة عالية في درس الكيمياء ، وقد كانت خمس وثمانين من المئة التي هي الدرجة العليا للنجاح في أية مادة دراسية ، وقد أزعج نجاحي هذا بعض من أفراد الحرس القومي ، فقد سألني بعضهم كيف نجحت ؟ ولكن فرحة النجاح هذه لم تدم طويلا ، فبعد أيام من نهاية الدراسة لتلك السنة حدثت انتفاضة معسكر الرشيد في بغداد في اليوم الثالث من شهر تموز عام 1963م ، تلك الحركة التي قام بها جنود ذلك المعسكر ، وبعض من أعضاء الحزب الشيوعي من خارج المعسكر المذكور ، وبقيادة العريف البطل الشهيد حسن سريع ، اعتقلت أنا ثانية ، ودخلت السجن من جديد ، لكن هذه المرة لم أمكث به طويلا ، وذلك بسبب تدخلات عشائرية هذه المرة أدت الى اطلاق سراحي ، والذي اعتقلني وغيري في هذه المرة هو المدرس طاهر حاجم رئيس الحرس القومي في مدينتنا ، وكذلك أفراد من الحرس القومي ذاك ، يعاونهم نفر من الشرطة ، وقد علمت فيما بعد أن المدرس طاهر حاجم قد قتل في محافظة الديوانية إبان انتفاضة أذار عام 1991م التي أعقبت حرب الكويت أو حرب الخليج الثانية ، والتي هي لا تلك ولا هذه ، وإنما هي حروب النفط والمال !
بعد خروجي من السجن ، وخلال أيام العطلة الصفية ، انصرفت الى قراءة نجيب محفوظ ، فقد كنت منشدا لقراءة رواياته بشكل عجيب ، وعلى الرغم من أنني تعرفت على روائيين عرب وأجانب غيره ، لكن عالم نجيب محفوظ ظل قريبا للنفس ، في واقعية محايدة ، لا ينحاز فيها قلمه لطرف على آخر ، فهو يترك الواقع الذي يكتب عنه يعبر عن هذا الانحياز ، فزيطة صانع العاهات في روايته " زقاق المدق " رجل معدم ، فقير ، لكنه مع ذلك كان يمارس مهنة قذرة ، وسعيد مهران في روايته " اللص والكلاب " رجل سرقوا منه ابنته ، ولكن الشرطة راحت تطارده ، فهو يرى أنه كان على حق ، ولهذا هتف : " إن ما أخذ بالسرقة لا بد أن يسترد بالسرقة " . وهذا مبدأ عمل به الشرق منذ عهود سحيقة ، وذلك حين شمخت مسلة حمورابي على أرض بابل ، تلك الوثيقة التي نظر لها سعيد مهران بإجلال .
بعد عدة سنوات مضت على ذاك الزمان كتب لي صديق عزيز هو كاني ياسين جواد " أبو عمار " رسالة من العراق ، وكنت أنا وقتها أعمل مدرسا في القطر الجزائري ، يخبرني في تلك الرسالة بأن رواية صدرت لنجيب محفوظ بعنوان : حب تحت المطر ، ويضيف صديقي الى ذلك : إن نجيب محفوظ قد تحول فكريا نحو اليسار فيها ، وحال زيارتي للقاهرة في صيف تلك السنة توجهت لواحدة من المكتبات فيها ، وقمت بشراء تلك الرواية ، مثلما اشتريت في نفس الوقت : البيان الشيوعي الذي كتبه كارل ماركس ، وفريدريك انجلز ، وكان هذا غب نكسة حزيران 1967م بسنوات ، وبعد أن عزز الرئيس جمال عبد الناصر علاقة مصر بالاتحاد السوفيتي .
صرت أسهر في قراءة تلك الرواية بالشقة التي استأجرتها في مدينة الاعلام وخلف مسرح البالون تماما ، وبرغم من أن صديقي أبو عمار كان على صواب فيما كتبه لي ، ولكنني لم أجد تغييرا فكريا عند نجيب محفوظ ، وإنما الذي تغير هو الواقع الذي كتب عنه ، فنجيب محفوظ ظل أمينا على واقعيته في الكتابة ، باستثناء رواية واحدة على ما أذكر خرج بها عن هذا الخط قليلا هي رواية " الشحاذ " التي قرأتها أنا بسن مبكرة . فقد كان فيها شيء من تساؤل فلسفي . فعمر حمزواي بطل الرواية يعيد نفس التساؤل عن الموت والوجود ، ذلك التساؤل الذي سبقه إليه ابن سومر ، كلكامش ، في ملحمته قبل ألوف من السنين .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.