مواعيد صرف معاش تكافل وكرامة بالزيادة الجديدة لشهر مايو 2024    أوستن: لا مؤشرات على نية حماس مهاجمة القوات الأمريكية في غزة    جنازة مهيبة لطالب لقى مصرعه غرقًا بالمنوفية (صور)    أوستن: لا مؤشرات على نية حماس مهاجمة القوات الأمريكية في غزة    انتهاء أزمة الشيبي والشحات؟ رئيس اتحاد الكرة يرد    أهداف برشلونة في الميركاتو الصيفي    نجم الأهلي يقترب من الرحيل عن الفريق | لهذا السبب    "الدفاع التايوانية" تعلن رصد 26 طائرة و5 سفن صينية في محيط الجزيرة    اليونسكو تمنح الصحفيين الفلسطينيين جائزة حرية الصحافة    رسالة جديدة من هاني الناظر إلى ابنه في المنام.. ما هي؟    20 لاعبًا بقائمة الاتحاد السكندري لمواجهة بلدية المحلة اليوم في الدوري    ارتفاع عدد ضحايا القصف الإسرائيلي على منزلًا شمال رفح الفلسطينية إلى 6 شهداء    10 أيام في العناية.. وفاة عروس "حادث يوم الزفاف" بكفر الشيخ    تركيا تعلق جميع المعاملات التجارية مع إسرائيل    كاتبة: تعامل المصريين مع الوباء خالف الواقع.. ورواية "أولاد الناس" تنبأت به    "نلون البيض ونسمع الدنيا ربيع".. أبرز مظاهر احتفال شم النسيم 2024 في مصر    هل يجوز الظهور بدون حجاب أمام زوج الأخت كونه من المحارم؟    حكم البيع والهبة في مرض الموت؟.. الإفتاء تُجيب    سعر الريال السعودي اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالتزامن مع إجازة البنوك وبداية موسم الحج    بعد انفراد "فيتو"، التراجع عن قرار وقف صرف السكر الحر على البطاقات التموينية، والتموين تكشف السبب    بركات ينتقد تصرفات لاعب الإسماعيلي والبنك الأهلي    سر جملة مستفزة أشعلت الخلاف بين صلاح وكلوب.. 15 دقيقة غضب في مباراة ليفربول    مصطفى كامل ينشر صورا لعقد قران ابنته فرح: اللهم أنعم عليهما بالذرية الصالحة    تعيين رئيس جديد لشعبة الاستخبارات العسكرية في إسرائيل    أول تعليق من أسرة الشهيد عدنان البرش: «ودعنا خير الرجال ونعيش صدمة كبرى»    الإفتاء: لا يجوز تطبب غير الطبيب وتصدرِه لعلاج الناس    العثور على جثة سيدة مسنة بأرض زراعية في الفيوم    انخفاض جديد مفاجئ.. أسعار الدواجن والبيض اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالبورصة والأسواق    انقطاع المياه بمدينة طما في سوهاج للقيام بأعمال الصيانة | اليوم    برلماني: إطلاق اسم السيسي على أحد مدن سيناء رسالة تؤكد أهمية البقعة الغالية    أحكام بالسجن المشدد .. «الجنايات» تضع النهاية لتجار الأعضاء البشرية    فريدة سيف النصر توجه رسالة بعد تجاهل اسمها في اللقاءات التليفزيونية    السفير سامح أبو العينين مساعداً لوزير الخارجية للشؤون الأمريكية    عز يعود للارتفاع.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    نكشف ماذا حدث فى جريمة طفل شبرا الخيمة؟.. لماذا تدخل الإنتربول؟    كيفية إتمام الطواف لمن شك في عدده    قتل.. ذبح.. تعذيب..«إبليس» يدير «الدارك ويب» وكر لأبشع الجرائم    معهد التغذية ينصح بوضع الرنجة والأسماك المملحة في الفريزر قبل الأكل، ما السبب؟    خبيرة أسرية: ارتداء المرأة للملابس الفضفاضة لا يحميها من التحرش    ضم النني وعودة حمدي فتحي.. مفاجآت مدوية في خريطة صفقات الأهلي الصيفية    "عيدنا عيدكم".. مبادرة شبابية لتوزيع اللحوم مجاناً على الأقباط بأسيوط    محمد مختار يكتب عن البرادعي .. حامل الحقيبة الذي خدعنا وخدعهم وخدع نفسه !    شايفنى طيار ..محمد أحمد ماهر: أبويا كان شبه هيقاطعنى عشان الفن    قفزة كبيرة في الاستثمارات الكويتية بمصر.. 15 مليار دولار تعكس قوة العلاقات الثنائية    مجلس الوزراء: الأيام القادمة ستشهد مزيد من الانخفاض في الأسعار    اليوم.. الأوقاف تفتتح 19 مسجداً بالمحافظات    بشير التابعي: من المستحيل انتقال إكرامي للزمالك.. وكولر لن يغامر أمام الترجي    سفير الكويت: مصر شهدت قفزة كبيرة في الإصلاحات والقوانين الاقتصادية والبنية التحتية    الحمار «جاك» يفوز بمسابقة الحمير بإحدى قرى الفيوم    هالة زايد مدافعة عن حسام موافي بعد مشهد تقبيل الأيادي: كفوا أيديكم عن الأستاذ الجليل    برج السرطان.. حظك اليوم الجمعة 3 مايو 2024: نظام صحي جديد    البطريرك يوسف العبسي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يحتفل برتبة غسل الأرجل    جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات    تعرف على طقس «غسل الأرجل» بالهند    بطريقة سهلة.. طريقة تحضير شوربة الشوفان    القصة الكاملة لتغريم مرتضى منصور 400 ألف جنيه لصالح محامي الأهلي    صحة الإسماعيلية تختتم دورة تدريبية ل 75 صيدليا بالمستشفيات (صور)    بالفيديو.. خالد الجندي يهنئ عمال مصر: "العمل شرط لدخول الجنة"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



1 21 سبتمبر 1959
نشر في أخبار الأدب يوم 30 - 08 - 2014

درجة الحرارة في القاهرة أقرب إلي البرودة، سحب خريفية تغطي الدلتا. الشيوعيون في سجون عبد الناصر، وحملات إعلامية مخططة لتشويههم.
لص غامض يسطو علي "كرمة ابن هاني" بيت الشاعر أحمد شوقي علي نيل الجيزة، المسروقات عبارة عن نخلة من الذهب أهداها أمير البحرين لشوقي احتفالا بتنصيبه أميرا للشعر العربي، وكأس من الفضة هدية من الاتحاد النسائي برئاسة هدي شعراوي.
عناوين الجرائد الرئيسية تتحدث عن مظاهرات حاشدة في العراق ضد عبدالكريم قاسم، بعد إعدامه لقادة "ثورة الشواف"، وجريدة "أخبار اليوم" تنشر نصا بعنوان "الكتاب الملعون" وتطلق علي قاسم لقب "نيرون بغداد" الذي تبني أفكار الكتاب الملعون الذي يطعن في الدين الإسلامي، وخصصت الجريدة صفحة للداعية عبدالرازق نوفل لتفنيد دعاوي الشيوعيين ضد الدين.
علي المستوي الدولي اهتمت الصحف بأول زيارة لرئيس سوفياتي إلي الولايات المتحدة، حيث ألقي نيكيتا خروتشوف خطابا في الأمم المتحدة، طالب فيه "بإلغاء الجيوش من كل دول العالم والغاء وزارات الدفاع والكليات العسكرية..والاكتفاء فقط بمجموعات صغيرة لحفظ الأمن الداخلي"..
وفي الظواهر الاجتماعية المحلية واصلت بعض الجرائد حملتها ضد من اسمتهم "اتباع جيمس دين". وهم مجموعة شباب يقلدون النجم الأمريكي (1931 - 1955) أسطورة المراهقين الذي قدم شخصية جيم ستارك في فيلم "متمرد بلا سبب" 1955، قبل وفاته المفاجئة في حادث سيارة.
الحملة ضد الشباب اتهمتهم بالتمرد علي جيل الآباء، وممارسة رقصة مستهترة تسمي"تشا تشا".. وتدخين السجائر وإطلاق شعورهم بلا تهذيب. وقد انضم للحملة خطباء مساجد انتقدوا في خطبة الجمعة فساد وانحلال الشباب، كما طالب صحفيون وسياسيون بتجنيدهم لتهذيبهم وتعليمهم الرجولة.
كان وزير الحربية عبد الحكيم عامر مهتما بمكافحة هذه الظاهرة، والبوليس الحربي يحلق شعر كل من يرقص "تشا تشا" أو يغني أغنية عبد الحليم حافظ الجديدة "ابو عيون جريئة".
الصحف تتضمن صورة لعامر مع جمال عبدالناصر بعد أن القي قبل يومين خطابا في مدينة رشيد بمناسبة ذكري انتصارات المدينة علي الجيش البريطاني، العناوين تركز علي تصفية الإقطاع وتوزيع الأراضي علي المزارعين، وإطلاق "مشروع ناصر لتمليك الماشية للفلاحين".. ووزع عبد الناصر في الاحتفال بالفعل أول عشر مواشي قبل أن يعود من الإسكندرية بصحبة عامر في قطار مكشوف، لتحية الجماهير التي خرجت علي طول الطريق.
في القاهرة كان المسرح القومي يقدم "العشرة الطيبة"، وفرقة الريحاني تقدم "حكاية كل يوم"، وسلسلة "كتابي" تصدر ترجمة عربية لرواية باسترناك "دكتور زيفاجو" في جزءين، وسلسلة مكتبة الفنون الدرامية تصدر ترجمة لمسرحية تينسي وليامز "قطة علي صفيح ساخن"، ورياض السنباطي انتهي من تلحين "الحب كدة" التي ستفتتح بها أم كلثوم موسمها الغنائي، و أحمد بهاء الدين يكتب من استوكهولم عن مسرحية سارتر"سجناء التونا".. المسرحية التي تهز أوروبا كلها، ويعدها أخطر عمل فني منذ نهاية الحرب العالمية.في جريدة الأخبار يحاور ناصر الدين النشاشيبي البروفيسور ستن فريبرج عضو مجلس إدارة جائزة نوبل الذي يعلن أن : "الجامعات العربية مسئولة عن عدم ترشيح أي عربي لجائزة نوبل"...
دور السينما كاملة العدد، أفيشات الأفلام الجديدة تحتل مساحة كبيرة من اعلانات الصحف، يمكن أن نرصد في ذلك اليوم أكثر من 15 فيلما أجنبيا من بينهم "حسناء النهر" لصوفيا لورين، " ذو الوجه الأصفر" لبوب هوب وجين رسل، أعظم مغامرات طرزان، ونفس العدد تقريبا للأفلام المصرية، منها "عاشت للحب" لزبيدة ثروت، "الحب الأخير" لهند رستم وأحمد مظهر،" البوليس السري" لإسماعيل يس، وفيلمان شارك فيهما نجيب محفوظ، هما "احنا التلامذة" من إخراج عاطف سالم، و"بين السما والأرض" من إخراج صلاح ابو سيف.
2
في الصفحة العاشرة بدأت جريدة "الأهرام" نشر أول حلقة من رواية نجيب محفوظ الجديدة "أولاد حارتنا".. بعد أن وقع عقدا يحصل بموجبه علي 1000 جنيه، وهو أكبر مبلغ دفعته جريدة مقابل نشر "قصة" حسبما نشرت في تقديمها للرواية.
الواقع يبدو متداخلا فنيا وفكريا وسياسيا، محفوظ يكتب سيناريو "احنا التلامذة" عن قصة لتوفيق صالح، وكامل يوسف، ودعاية الفيلم الذي قام ببطولته عمر الشريف، وشكري سرحان، ويوسف فخر الدين مع تحية كاريوكا، ركزت علي اعتباره "فيلم كل شاب وكل فتاة، كل أب وكل أم، كل اسرة وكل بيت..يحارب الميوعة ويدعو للقوة والبناء".. وهي العبارة التي كتبت بخط واضح علي أفيش الفيلم، وكأنها امتداد لحملة تهذيب اتباع جيمس دين.. العارفون بمحفوظ وتقاليد السينما يرجحون أن العبارة لا تخص محفوظ، بقدر ما تخص المنتج حلمي رفلة الذي تحدث عن الفيلم في مجلة "الجيل" باعتباره جزءا من رسالة " ضد أشباه جيمس دين بعد أن تعددت مظاهر ميوعتهم وكثرت حوادث انحرافهم، ما ادي الي تدخل بوليس الآداب، وبعد أن دفعهم الحرمان إلي طريق الالم..طريق الشر". رفلة قال أنه اختار نجيب محفوظ لكتابة السيناريو لأنه "عرف بعمق دراسته، وقوة تصويره للشخصيات وبراعته في التعبير عن احساسيسها وانفعالاتها".
الفيلم الثاني الذي عرض متزامنا مع نشر "أولاد حارتنا" هو "بين السماء والأرض" من إخراج صلاح أبوسيف، عن قصة لمحفوظ، وشارك أبو سيف في كتابة السيناريو، الذي يمثل نقلة في سينما محفوظ من الواقعية إلي الانفتاح علي الرمز، كما في "أولاد حارتنا" التي تخلي فيها عن "الواقعية الصريحة" التي بلغت ذروتها في "الثلاثية"
»بين السماء والأرض« يطرح أسئلة فلسفية معلقة لا يمكن الوصول فيها إلي إجابة، ربما مثل أبطال الفيلم العالقين بين السماء والأرض. بصمات محفوظ واضحة بقوة كسيناريست يبدع في البحث عن حلول فنية لمحدودية المكان (احداث الفيلم تدور في اسانسير) وهذه منطقة أجاد محفوظ الإبداع فيها كروائي، سواء في »زقاق المدق« الرواية التي تدور أحداثها في حارة ضيقة أو »ثرثرة فوق النيل«.. حيث تدور الاحداث في عوامة علي النيل
بخلاف المكان المحدود الذي تخرج منه عوالم نابضة بالحياة، يسأل محفوظ طوال الفيلم اسئلة فلسفية عن حدود الواقع والخيال.. عن الخطيئة.. الموت والحياة والعقل والجنون.. الخ.. شخصيات الفيلم في المكان المغلق المحدود تمثل ربما اطياف المجتمع بتناقضاتهم، هناك الارستقراطي (الأكثر رقة)، المجنون (الأكثر عقلا في المكان)، الفنانة التي تستعد لتصوير فيلمها الجديد، اللص الصغير، والآخر الكبير، البواب... المرأة الحامل التي تلد في اللحظة التي يموت فيها مختنقاً عجوز مريض، الزوجة الخائنة، والمتحرش... خارج الأسانسير أي خارج الأحداث عوالم أخري، لكنها ليست منفصلة عما يدور في (الأسانسير).. ربما كان أهمها مشاهد الفيلم (الذي يتم تصويره (داخل الفيلم الأصلي)، حيث ينتظر المخرج بطلة فيلمه لتصوير مشاهدها.. ومن ضمن هذه المشاهد رجال أمن يؤدون دورهم، وتتصور العصابة التي ستسرق إحدي الشقق أنهم رجال امن حقيقيون، وتبدأ معركة غير متكافئة..يصرخ المخرج: »دي سينما يا بني آدم مش لعبة. افهموها بقي«، بينما ينهال عليهم الرصاص الحقيقي الذي لم يكن متفقاً عليه...ما الفرق بين الواقع والخيال؟ وبين الواقع والسينما؟ ربما كان هذا هو سؤال الفن الرئيسي.. ربما أيضا كانت رسالة أبوسيف ومحفوظ وتصورهما للفن..لا يبقي الحال علي ما هو عليه، يتم انقاذ الجميع، بعد أن اقتربوا من الموت، وتنتهي أحداث الفيلم بأن يعود كل شخص الي الطريق الذي قرره... (الاقتراب من الموت ما بيغيرش كتير في الاشخاص)... نهاية الفيلم، واحدة من اجمل النهايات في السينما المصرية. هند رستم بطلة الفيلم الذي يتم تصويره داخل الفيلم تقول للمخرج: »دي القصة اللي تستاهل إننا نعملها فيلم مش القصة اللي بنعملها«... المخرج (داخل الفيلم) بيرد عليها: بس دا فيلم اتعمل وانا شفته وكان بطولة هند رستم.... وإخراج أبو سيف. أي أننا نجد أنفسنا أمام لعبة فنية من ألعاب محفوظ وأبوسيف.... ولكنها لا تخلو من الرسالة السياسية.. حيث يحلمان بذوبان الطبقات. المدهش أن الفيلم عندما عرض للمرة الأولي لم يلقَ ترحيباً من النقاد، هاجمه تقريباً كل الصحافيين بحجة أن تجربة الموت تجربة »جَد« لا تستحق الهزر كما فعل بها أبوسيف ومحفوظ.. أو أن »المخرج والمؤلف صبّا ماء ساقعاً علي رؤس المتفرجين« حسب تعبير موسي صبري في مقالته النقدية عن الفيلم.. ولكن ألم يدرك النقاد وقتها أن` أبوسيف ومحفوظ كلاهما كان يلاعب الموت!
3
فلاش باك
11 فبراير 1959
الأهرام تسأل المدير الجديد لمصلحة الرقابة علي المصنفات الفنية الأديب نجيب محفوظ: ما أمنيتك؟
يجيب: أمنيتي أن أواصل كتابة رواية "أولاد حارتنا" التي بدأت فيها.
كانت هذه هي المرة الأولي التي يتحدث فيها محفوظ عن روايته التي لايزال يكتبها، وقبل نشرها بسبعة أشهر كاملة، وبالعنوان نفسه الذي نشرت به، وهو ما يعني أن محفوظ دفع بالرواية للنشر مباشرة بعد الانتهاء منها، وليس صحيحا أنها ظلت عامين كاملين في درج مكتبه.. إذ تبدأ السنة المحفوظية في الكتابة من سبتمبر إلي إبريل، ثم يتوقف لمدة أربعة أشهر في الصيف بسبب مرض الحساسية في العينين، وهو ما يعني أن محفوظ انتهي من كتابة الرواية في إبريل من نفس العام قبل اجازة "التأمل والتفكير والراحة" كما يسميها.
محفوظ في حواره قال إن هناك أزمة في المجتمع المصري، هي أزمة ثقافة وانتقد السينما معتبرا أنها تسير "بالاجتهاد". بعد خمسة أشهر من هذا الحوار تحدث محفوظ إلي جريدة "الجمهورية "عن أمنية أخري له، تمني أن توافق عليها الدولة هي " إحالة الأدباء إلي المعاش في سن الخمسين حتي يتفرغوا للكتابة".. وتحدث أيضا عن رغبته في أن تقوم الدولة بتنظيم رحلات للأدباء والفنانين ليعرفوا بلادهم، فهو لا يعرف شيئا عن أسوان أو الأقصر، ولم يخرج من القاهرة إلا إلي الإسكندرية ورأس البر. بعد أيام من هذا الحوار سافر محفوظ إلي يوغسلافيا. كانت رحلته الأولي إلي خارج مصر، ليقضي هناك خمسة عشر يوما ويعود قبل نشر أولاد حارتنا بشهر، وينشر في الأهرام انطباعاته عن الزيارة.
2 مايو 1959
نشرت مجلة "الإذاعة" التي يرأس تحريرها حلمي سلام، هذا التنويه في باب "أدب وأدباء": يسر مجلة "الإذاعة" أن تعلن قراءها أنها قد اتفقت مع نجيب محفوظ علي أن ينشر بها روايته الجديدة " أولاد حارتنا".. وستبدأ المجلة نشر حلقاتها عقب انتهاء أشهر الصيف."
لكن "الإذاعة" لم تنشر الرواية كما أعلنت، فقد ذهبت "أولاد حارتنا" إلي الأهرام، وأصبح السؤال: كيف وصلت "أولاد حارتنا" إلي الأهرام؟
4
لدينا إجابات متعددة وحكايات كثيرة.. منها ما حكاه محفوظ نفسه، ومنها ما حكاه محمد حسنين هيكل...الاختلافات بين الروايات بسيطة،قد لا تغير الشئ الكثير.
وصلت أولاد حارتنا إلي الأهرام عن طريق مدير تحريرها علي حمدي الجمال، وفي رواية أخري عن طريق توفيق الحكيم، وفي رواية ثالثة عن طريق إحسان عبدالقدوس. ولكن المؤكد أنها وصلت إلي هيكل عن طريق مدير تحرير الأهرام وقتها علي حمدي الجمال الذي طلب من هيكل أن يقرأها بعناية، هيكل أدرك قبل النشر ما الذي يمكن أن تسببه الرواية، ولكنه لم يتراجع عن نشرها، بل قرر كما قال ليوسف القعيد في كتابه " عبدالناصر والمثقفون والثقافة" أن ينشرها يوميا لا أسبوعيا كما اعتادت الأهرام من قبل وذلك "حتي يفوِّت علي أي جهة خاصة الأزهر أن يكون لديها رد فعل علي نشرها". بدأت الضجة بعد الحلقة السابعة عشر، شكاوي وبلاغات عديدة ضد الرواية وتطلب تحرك الأزهر لوقف النشر، فسأل عبد الناصر هيكل عن الحكاية. وعندما عرف الموضوع قال له: »هذه رواية كتبها نجيب محفوظ ولا بد من نشرها، حتي آخر كلمة«. ومع اشتداد الضغوط بعد أيام من الضجة، طلب هيكل من محفوظ ممارسة دور الرقيب علي نفسه وحذف فقرات عديدة منها يمكن أن تزيد المحتجين احتجاجا.(ولكن لم يتم التأكد من هذه الواقعة التي تستند فيها مارينا ستاغ صاحبة كتاب »حدود حرية التعبير« علي مقال نشرته مجلة الهلال عقب حصول محفوظ علي نوبل..
محفوظ قال لرجاء النقاش في كتابه " صفحات من مذكرات نجيب محفوظ":
" بدأت الأزمة بعد أن نشرت الصفحة الأدبية بجريدة "الجمهورية" خبرا يلفت فيه النظر إلي أن الرواية المسلسلة التي تنشرها جريدة الأهرام فيها تعريض بالأنبياء.. وبعد هذا الخبر المثير، بدأ البعض، ومن بينهم أدباء للأسف، في إرسال عرائض وشكاوي يطالبون فيها بوقف نشر الرواية وتقديمها إلي المحاكمة، وبدأ هؤلاء يحرضون الأزهر ضدي علي أساس أن الرواية تتضمن كفرا صريحا، وأن الشخصيات الموجودة في الرواية ترمز إلي الأنبياء..وقد عرفت هذه المعلومات عن طريق صديق لي هوالأستاذ مصطفي حبيب الذي كان يعمل سكرتيرا لشيخ الأزهر، وكان شقيقه يعمل وكيل نيابة، وهوالذي أخبرني أن أغلب العرائض التي وصلت إلي النيابة العامة أرسلها أدباء". محفوظ أوضح في حوار آخر مع عادل حمودة، وفي وجود محمد حسنين هيكل: " ولم يكن ليلتفت إلي ما فيها ( الرواية) أحد لولا أن انتبه إليها كاتب يساري في جريدة الجمهورية: ربما أحمد عباس صالح أو سعد الدين وهبة، وقال: ياجماعة، خذوا بالكم. دي مش رواية عادية. دي رواية عن الأنبياء. ساعتها قامت القيامة" (الأهرام/ 13 يناير 2007).
الغريب أن جريدة الجمهورية لم تنشر شيئا عن الرواية في بريد القراء(حسب رواية محفوظ)، كانت تنشر في ذلك الوقت رواية " البيضاء" ليوسف إدريس، وهي الرواية التي ينتقد فيها بعنف التنظيمات الشيوعية المصرية، بدأ النشر بعد 12 يوما من نشر محفوظ " أولاد حارتنا". وقد نقلت مارينا ستاغ عن يوسف إدريس قوله إنه نشر "البيضاء" في "الجمهورية" بتشجيع من صلاح سالم، أحد ضباط ثورة يوليو. وكان مشرفاً علي "الجمهورية" في ذلك الوقت، رغبة منه في منافسة "الأهرام" في نشر رواية مسلسلة لكاتب كبير، إذن من المؤكد أن نشر "البيضاء" كان لهذا السبب، والمفارقة أن إدريس اليساري يهاجم الشيوعين في الجمهورية، ومحفوظ الذي لم ينتم يوما إلي تنظيمات يسارية يدافع عنهم في روايته بالأهرام، بل ويحذر سلطة يوليو من المساس بهم.. كما أن جريدة المساء التابعة أيضا لدار التحرير نشرت في 21 ديسمبر 1959 خبرا قصيرا كتبه محرر الأدب في الصحيفة أن محفوظ "سينتهي بعد أيام من نشر روايته المسلسلة التي ينشرها بالأهرام ويتوقع الوسط الأدبي أن تثير الرواية بعد انتهائها مناقشات حامية للأسلوب الذي صاغ به محفوظ الرواية والشكل الفني لها" تاريخ نشر الخبر كان تاليا علي الضجة. إشارة محفوظ إلي أن الهجوم الذي بدأه أحمد عباس صالح قد يكون صحيحا، هو لم يكتب شيئا في ذلك الوقت أو أثناء الأزمة عن الرواية..ولكنه أعلن فيما بعد موقفه الكامل من الرواية..كتب:" عندما كتب نجيب محفوظ " أولاد حارتنا" لم أتحمس لها، إذ كانت في رأيي استعارة فنية من الرؤية الماركسية للتاريخ، الذي مر بخمس مراحل تنتهي بالمرحلة التي يسودها العلم وتقنياته، وهي رواية تحاول التوفيق بين الرؤية الدينية والرؤية العلمية، وغالبا كانت قضية العلم والدين من قضايا عشرينيات القرن الماضي". ويضيف:" بالنسبة لي كنت نافرا من الرؤية من تلك الصياغات التي تهتم بالرمز دون ضرورة، وكنت أعتقد أن الفن يلجأ إلي الرمز حين يكون المجال المعبر عنه مغلقا علي العقل والخبرات الحياتية.....(....) وبالتالي أولاد حارتنا لا تضيف جديدا إلا تلك المصالحة الأخيرة بين الدين والعلم، وهي فكرة كامنة في الفلسفة الهيجيلية، وما أظن أن محفوظ كان مطلعا عليها جيدا".
5
أول هجوم علي الرواية كان في مجلة "المصور"، في رسالة أرسلها قارئ يدعي محمد أمين إلي الشاعر صالح جودت محرر باب " أدب وفن" في 18 ديسمبر 1959 أي قبل توقف نشر الرواية باسبوع كامل. القارئ اختار جودت لأنه" من القلائل الذين لم يدخلوا سوق النفاق".. واعتبر أن محفوظ في روايته الجديدة:" يحيد ويجانب كل أصول القصة، فكتابته الأخيرة لا هي رمزية ولا هي واقعية، ولا هي خيال، ولا تنطبق علي أي قالب معروف"..
وأضاف:" جاء محفوظ ليتحدي معتقدات راسخة، ولهذا يتعذر علي كائن من كان حتي ولو محفوظ نفسه أن يقدمها بمجرد كتابة قصة...التستر وراء الرموز أضعف قضية نجيب محفوظ في مجتمع يجل الدين بطبيعته.." جودت رد علي صاحب الرسالة :" لا أستطيع أن أحكم علي القصة الأخيرة لمحفوظ، الذي لا شك في أنه يعد قصاص الطليعة عندنا اليوم، فإذا كان قد نحا في قصته الجديدة نحوا جديدا غير ما تعودناه في روائعه السابقة، فالحكم في ذلك لمن قرءوا القصة"...ويضيف:" الباب مفتوح لرسائل القراء الذين قرءوا قصة محفوظ". ولكن لم يكتب أحد مرة أخري!
لكن مجلة الإذاعة لم تنس ثأرها، وشاركت في الهجوم علي محفوظ بعد تراجعه عن نشر الرواية لديهم. كتب حلمي سلام رئيس التحرير مقالا بعنوان " مواطن الشبهات" في ديسمبر 1959..شن فيه هجوما شديدا علي محفوظ الذي أعلن أنه لن يكتب للسينما أي سيناريو طالما ظل في منصبه مديرا للرقابة..ابتعادا بنفسه عن مواطن الشبهات..وسأل سلام: "ما رأيك في الاعلانات السينمائية الكثيرة التي نقرأها في هذه الأيام وكلها تحمل اسم نجيب محفوظ ككاتب للقصة أو للسيناريو أو للحوار؟".
محفوظ أرسل ردا مطولا علي ما جاء في مجلة الإذاعة دفاعا عن نفسه..قال:" عندما تفضل السيد ثروت عكاشة وزير الثقافة والإرشاد، بعرض هذا المنصب الدقيق علي.. قدمت له قائمة ضمنتها بيان الأعمال السينمائية التي كنت فرغت منها، أو اتممت التعاقد عليها، قبل أن يتفضل الوزير بعرض منصب مدير مراقبة الأفلام علي.. واوضحت للسيد الوزير أنني لن أستطيع بعد قيامي بمسئوليات هذا المنصب متابعة العمل في السينما لأن ذلك سيضعني في موقف صعب، يستحيل علي معه التوفيق بين العملين..ويعرضني لما لا أحب لنفسي أن أتعرض له". واضاف محفوظ في رده:" وكان السيد الوزير كريما عندما أدخل في حسابه الخسائر المادية التي سوف تصيبني نتيجة لهذا القرار الذي اتخذته..والذي قصدت به أن أحمي اسمي، ومنصبي، من أيه شبهات قد تثار حولهما- كان الوزير كريما في تقديره لهذا الموقف، عندما وعدني بأنه سيعوضني عن هذه الخسائر بتكليفي بالقيام بالأعمال السينمائية التي ينتظر أن تقوم بها..أو تساهم فيها وزارة الثقافة والارشاد..حمدت للسيد الوزير موقفه الكريم هذا والتزمت قراري..فلم أتعاقد..ولم أكتب للسينما حرفا واحدا جديدا علي القائمة التي بين يدي وزير الثقافة..والتي تنطوي علي بيان الأعمال السينمائية التي كنت فرغت منها قبل أن أتولي ذلك المنصب الدقيق الذي أشغله. وهذه الأعمال السينمائية التي يعلن عنها في هذه الأيام مقرونة باسمي..وكذلك التي سوف يعلن عنها خلال الأشهر القادمة من العام الجديد ليست سوي محتويات القائمة التي أشرت إليها..والتي لم أتعاقد علي شيء سواها". لم يكن بيان محفوظ بردا وسلاما علي المجلة، ولم يتوقف هجومها عليه، وإنما استمر الغمز واللمز بين الحين والآخر ضد افلامه ومنصبه..وكتاباته!
6
التزم محفوظ الصمت تماما طوال أيام نشر الرواية التي انتهي نشرها يوم الجمعة 25 ديسمبر 1959، في ذات اليوم ذهب نجيب محفوظ إلي ندوته الأسبوعية في "كازينو الأوبرا"..اعتاد ان ينصرف كل أسبوع في الواحدة والنصف، ولكنه في ذلك اليوم حرص علي البقاء حتي الثالثة والنصف لسخونة النقاش حول الرواية الجديدة. تزعم رفض الرواية في الندوة مدرس أدب في كلية الآداب وناقد صحفي في إحدي الجرائد اليومية، لم تشر جريدة "الجمهورية" التي غطت تفاصيل اللقاء الي اسميهما. ولكن محفوظ أوضح وجهة نظره كاملة في الرواية لأول مرة..قال محفوظ:" إنه يريد الكشف عن الهدف الأساسي للبشرية، وهو البحث عن سر الكون، وحتي تستطيع البشرية الكشف عن هذا السر، تحتاج إلي التفرغ له والاستعداد، وهي لن تتمكن من هذا إلا بعد القضاء علي استغلال الأغنياء للفقراء، والصراع بين الناس من أجل لقمة العيش". وأضاف محفوظ:" القصة تصور هذا الصراع المرير الذي تزعمه الأنبياء والرسل دفاعا عن الفقراء وتهيئة العيش السعيد للناس أجمعين حتي يتفرغوا للبحث الأعظم، ولكن ما إن تنتهي الرسالة حتي يعود الأغنياء فيقبضون علي زمام الأمور، وتعود المعركة من جديد للوصول إلي العدل والرفاهية للجميع، ثم تدخل "العلم" بعد انتهاء الرسالات ليقوم بنفس الغاية وهي إسعاد الناس، ولكن المستغلين سخروا العلم لمصلحتهم أيضا، وقتلوا رمزه في القصة، إلا أن شخصا آخر استطاع الهروب بسر الاختراعات العلمية الحديثة ليعاود الكفاح من أجل إنهاء الصراع بسبب لقمة العيش والتفرغ لمعرفة سر الحياة". الناقد الذي لم تذكر الجريدة اسمه اعترض علي ما قاله محفوظ معتبرا أن " القصة لم تضف جديدا، هي فكرة قديمة، هي مجرد تسجيل لتاريخ البشرية بلا إضافة من الكاتب الذي لم يحاول أن يستخلص من هذا التاريخ مغزي عاما جديدا، أو موقفا فكريا خاصا، وأنه فضلا عن ذلك قد جعل العلم يتمسح في الغيبيات، في حين أنه نبذها من أول ظهوره حتي الآن". في 12 نوفمبر 1960 تحدث محفوظ مرة أخري عن روايته مدافعا عنها..عندما أجرت مجلة " الإذاعة" تحقيقا بعنوان " الجديد الذي أحلم بتحقيقه" مع أدباء وفنانين من بينهم عبدالوهاب، وأمينة رزق، صلاح جاهين. قال نجيب محفوظ: "حلمي ان أترك الأدب وأعيش مرتاح البال في مزرعة أعمل بها بعيدا عن ضجيج المدينة وأهل المدينة". فسألته المجلة:" أنت مثلا كنت تسير في كل رواياتك وقصصك ككاتب واقعي طبيعي..يصف ويحلل..ثم ظهرت لك فجأة آخر رواية كتبتها " أولاد حارتنا" وكان لونك فيها يختلف تماما عن واقعيتك التي عرفناها عنك في كل قصصك، كانت أولاد حارتنا رواية رمزية، تناولت فيها شخصيات صغيرة ورمزت بها إلي شخصيات خطيرة أنت تقصدها؟ فرد محفوظ:" أبدا، أنا لم أرمز إلي شخصيات كبيرة أنا قصدت الرمز من خلال هذه الشخصيات الصغيرة إلي أفكار كبيرة، فبعض الشخصيات رمزت بها إلي التفكير الديني، وبعضها إلي التفكير العلمي، لأصور أفكار العصر الذي نعيشه، ونعيش قلقه، وأنا أعرف فترة القلق النفسي والخوف التي يعانيها الفنان قبل أن يقدم علي تحقيق فكرة جديدة أو حلم جديد.. أما ما هو الجديد الذي أريد أن أكتبه بعد " أولاد حارتنا" فأرجوك يا عم..انت عاوز توديني في داهية".
7
مبكرا جدا انشغل محفوظ بالفكرة الرئيسية التي دارت حولها "أولاد حارتنا"، تحديدا في أوائل الثلاثينيات عندما التقي سلامة موسي لأول مرة. روي محفوظ تفاصيل هذا اللقاء في "ثلاثيته"..عندما يلتقي أحمد شوكت (في شخصيته جانب من جوانب نجيب محفوظ مثله مثل كمال عبدالجواد في الرواية ذاتها ) بعدلي كريم (الذي يبدو في الرواية معادلا فنيا لسلامة موسي) ليعمل معه في مجلته " الإنسان الجديد".. نصيحة عدلي لشوكت:" أنت تدرس الأدب، إدرسه كما تشاء، ولكن لا تنس العلم الحديث، يجب الا تخلو مكتبتك، إلي جانب كتب الأدب، من كتب داروين وفرويد وماركس وإنجلز، هؤلاء علماء. لكل عصر أنبيائه، وأنبياء هذا العصر هم العلماء".سلامة موسي هو الأب الروحي لنجيب محفوظ، القارئ الأول لأعماله الأولي، مرشده أيضا لما ينبغي أن يقرأ، ثلاثيه محفوظ تكشف ذلك بجلاء، وأيضا حواراته المتناثرة: "وجهني سلامة موسي إلي شيئين مهمين هما العلم والاشتراكية ومنذ دخلا مخي لم يخرجا منه إلي الآن".. إذن بذرة الفكرة الأولي ألهمه إياها موسي الذي كان:" أكبر مبشر في جيلنا بالعدالة الاجتماعية وبالعلم وبالرؤية العصرية، وبقدر تطرفه في الدعوة للعلم والصناعة وحرية المرأة كان في الجانب السياسي معتدلا فلم يجنح إلي الديكتاتورية... لذلك اعتبره الأب الروحي للاشتراكية والديمقراطية". محفوظ نفسه احتفظ بتلك الأفكار، كان مشغولا بالفعل بدور العلم في حياة البشر وتقدمهم. في 22 اغسطس 1959 ( أي قبل أقل من شهر علي نشر "أولاد حارتنا" أجري عبدالله أحمد عبدالله حوارا مع محفوظ في مجلة الإذاعة.. سأله عن حكمته التي التقطها من الحياة: أجاب محفوظ علي الفور: "العلم.. أساس الملك". كما كان يلح دائما في حواراته :" أتمني أن يأتي اليوم الذي نتفق فيه جميعا علي أن العلم وحده هو ديوان العرب".

8
رتب حسن صبري الخولي، المبعوث الشخصي للرئيس عبدالناصر لقاء بين محفوظ وعدد من شيوخ الأزهر المعترضين علي نشر الرواية، وكان من بينهم ثلاثة كتبوا تقارير أوصت بمصادرة الرواية ووقف نشرها وهم الشيخ محمد الغزالي والشيخ محمد أبو زهرة والشيخ أحمد الشرباصي. ذهب محفوظ في الموعد المحدد ولكن لم يذهب الشيوخ الذين خشوا-ربما- من المواجهة، ودار حوار بين الخولي ومحفوظ انتهي الي اتفاق " جينتل مان" أنه بإمكان محفوظ نشر الرواية في اي بلد عربي باستثناء مصر إلا بموافقة الأزهر. وافق محفوظ وظل ملتزما بالاتفاق..معتبرا أن لديه في الرواية رسالة لم تصل.. يقول: " شعرت أن رسالتي لم تصل فلم أسع للدفاع عنها ولم أسع الي نشرها". رسالة محفوظ سياسية بالأساس، فقد كانت "أولاد حارتنا" بداية مرحلة إبداعية جديدة في حياته... مرحلة ما بعد الواقعية التي انتهت بالثلاثية التي شعر بعدها أن " الإطار الواقعي استنفد كل ما لديه من طاقة فنية" يري غالي شكري أن النهاية الحزينة للثلاثية تقول بصراحة وجرأة أن هناك ازمة في المجتمع، وأن هذه الأزمة هي أزمة الحرية والتخلف الحضاري"...المرحلة الجديدة بدأت مع أولاد حارتنا انتهت هذه المرحلة مع هزيمة 67.. وحسب غالي شكري:" نستطيع أن نتلقف معظم الأفكار الواردة في "أولاد حارتنا" حول الوقف والبيت الكبير والجبلاوي والنظار والفتوات واخيرا عرفة والحنش، في بقية الأعمال التالية ابتداء من اللص والكلاب وحتي ميرامار، ولكننا حين نتلقف هذه الافكار الرئيسية سوف نشهد ما طرأ عليها من تغيير كبير يحول دون التعرف علي الأصل البعيد". هل كان يقصد محفوظ أن لثوار يوليو طريقين: طريق الأنبياء وطريق الفتوات؟ وهل أدركوا رسالته؟ أم أن صراع الأجنحة داخل الدولة الناصرية انتهي في تلك الفترة إلي انتصار الرجعية أو اليمين الديني مبكرا. يقول محفوظ في حوار معه ( جريدة القبس الكويتية - ديسمبر 1975): لا أكتب إلا إذا حدث انفصام بيني وبين المجتمع، أي إذا حدث عندي نوع من القلق وعدم الرضا، بدأت أشعر أن الثورة التي اعطتني الراحة والهدوء بدأت تنحرف وتظهر عيوبها، بدأت تناقضات كثيرة تهز النفس، بدأت أشعر أن هناك عيوبا وأخطاء كثيرة تهز نفسي، وخاصة من خلال عمليات الإرهاب والتعذيب والسجن، ومن هنا بدأت كتابة روايتي الكبيرة " أولاد حارتنا" والتي تصور الصراع بين الأنبياء والفتوات. كنت أسأل رجال الثورة : هل تريدون السير في طريق الأنبياء أم الفتوات؟".
جرت الرواية علي محفوظ الكثير من المشكلات..إذ شن وزير الاقتصاد آنذاك حسن عباس زكي هجوما شديدا علي وزير الثقافة ثروت عكاشة لأنه أسند مهمة الرقابة لرجل " متهم في عقيدته الدينية" كما اتصل به مدير مكتب كمال الدين حسين يخبره بغضب الوزير علي موافقته علي تحويل " أولاد حارتنا" الي مسرحية، وهو ما نفاه محفوظ الذي اوضح له أن المسرحية التي تعرض له مأخوذه من رواية " بداية ونهاية" وليست من " أولاد حارتنا"...وأمام هذا التصيد طلب ثروت عكاشة من محفوظ أن يترك جهاز الرقابة ويتولي مسئولية جهاز السينما، وهو جهاز جديد مهمته إعانة نقابة السينمائيين، ودعم جوائز المهرجانات! لكن المدهش أن الرواية تحولت إلي مسلسل إذاعي عام 1970 بالاسم ذاته، وعرضته صوت العرب من بطولة سميحة أيوب وتوفيق الدقن وكريمة مختار. ولم يعترض أحد.
9
لم يكن التفسير الديني للرواية هو السبب الوحيد في مصادرتها، بل تعددت التفسيرات التي ازعجت السلطة نفسها، وخاصة أن الجناح اليميني للسلطة الناصرية كان في حالة صعود، فعقدت مؤتمرات عديدة بهدف " تعبئة الفن والثقافة لمكافحة الاستعمار والشيوعية"..ويرصد شريف يونس في كتابه " نداء الشعب" العديد من الاجراءات التي تمت لتحقيق ذلك سواء في مؤتمرات أو بيانات صادرة من جمعيات الأدباء أو عن لجنة " التوجيه القومي" التي أصدرت في أعقاب نشر أولاد حارتنا "ميثاق شرف" للأدب والعلم والفن أعلنوا فيه الاستمرار في دورهم التوجيه.. والمشاركة بما يملكون من طاقات فنية وعلمية في بناء المجتمع الاشتراكي الديمقراطي التعاوني".. وأخيرا " صون الانتاج الفني والفكري من عوامل الهدم والانحراف والعمل علي جعله وسيلة إيجابية وإعلاء شأنه". كل هذه الاجراءات حسب تعبير شريف يونس تهدف إلي " إدماج كل فروع الفن والأدب فضلا عن المؤسسة الدينية الإسلامية بالذات في الآلة الدعائية للنظام".
وسط كل اجراءات التوجيه والتعبئة وقف النظام حائرا ماذا يفعل تجاه نجيب محفوظ..و"أولاد حارتنا". يحكي هيكل أن جمال عبدالناصر نفسه اتصل به ليسأله عن الرواية ..واخبره: " إن الأزهر أو وزارة الاوقاف لا أذكر كلموني عن الرواية، سألته: هل قرأتها، قال قراءة الأعمال الادبية مسلسلة لا تريحني، سأقرأها بعد نشرها في كتاب". ثم يقول هيكل في حواره: " أردت ان اكسب وقتا لاستكمال ما تبقي من الرواية، فقلت لعبد الناصر: خليهم يعملوا لجنة من رجال الأزهر ويفحصوا الرواية". وقد جاء قرار اللجنة بمنع النشر، وكان ذلك قبل عشرة ايام من انتهاء النشر، لكن النشر استمر حتي نهاية الرواية، وقد حرصت علي أن اختم الحلقة الاخيرة بعبارة: "انتهت الرواية".
محفوظ نفسه لاحظ انه يخضع للمراقبة، كما أن بنت أخت الدكتور حسن صبري الخولي الممثل الشخصي للرئيس عبدالناصر اخبرته في ندوته الأسبوعية التي كانت تتردد عليها أن " سيارة محملة بمجموعة من العسكر ومعهم ضابط برتبه كبيرة توجهوا إلي بيت محفوظ لاعتقاله، ولكن صدرت لهم أوامر بالعودة وعدم اكمال المهمة ......"
ولكن الأهم من ذلك هو ذهاب محفوظ إلي مبني المخابرات العامة لاستجوابه بدون أن يعرف حول الرواية..وهو ما حكاه لرجاء النقاش:" أتذكر أن الفنان فريد شوقي عرض علي الدكتور ثروت عكاشة فكرة فيلم سينمائي يدور في إطار عمل المخابرات المصرية، وطلب تدخله لدي المخابرات لكي تسهم في تمويله، وافق عكاشة وأسند إلي مهمة كتابة السيناريو وعندما فرغت من الكتابة استدعاني للقائه في مكتبه، وطلب مني الذهاب إلي مبني المخابرات ومقابلة المسئولين هناك واستطلاع رأيهم في السيناريو، ومعرفة مدي رغبتهم في تمويل الفيلم. ولم أكن أعرف مكان مبني المخابرات فحدده لي وذهبت..وفي المبني التقيت نائب رئيس المخابرات طلعت خيري الذي كان مختصا بمثل هذه الأمور (...) لاحظت عند دخولي مكتب نائب رئيس المخابرات وجود شخص يحدق في ثم هم بالانصراف، فاستبقاه خيري طالبا منه الانتظار لأن الحديث سيدور عن السينما ويمكن أن يفيدنا هذا الشخص في المناقشة. لم يعرفني هذا الشخص بنفسه وفتح معي حوارا طويلا عن الثلاثية، ثم حدثني عن " أولاد حارتنا" والمشكلات التي ثارت حولها، وسألني عما أقصده من ورائها ومدي صحة ما يقال عن وجود تجاوزات دينية بها؟....انتهي اللقاء وانصرفت. وبعد عدة شهور شاهدت صورة في الصفحة الأولي لجريدة الأهرام للرئيس عبدالناصر في إحدي جولاته الأفريقية وتوقفت أمام صورة شخص يظهر في الصورة خلف عبدالناصر..إنه نفس الشخص الذي كان يتحدث معي في مكتب طلعت خيري... وكانت دهشتي شديدة عندما علمت أنه رئيس المخابرات صلاح نصر"...
علي الفور قفز في ذهن محفوظ أن اللقاء مدبر، وان ذهابه إلي مبني المخابرات سبقته ترتيبات ما... يشير محفوظ إلي أن أصدقاء كثيرين له أن المخابرات كان لديها اعتقاد بأن الرواية موجهة ضد النظام، وانهم اشتموا فيها رائحة مؤامرة، وذهب أصدقاء آخرون إلي أن الأزمة التي آثارها الأزهر ضد الرواية كانت بتدبير المخابرات نفسها، والتي ارادت أن تستفز مؤسسة دينية كبري بهدف النيل مني.
10
بعد حصول محفوظ علي نوبل تجدد الجدل مرة أخري، وخاصة أن لجنة الجائزة أشارت في تقريرها إلي الرواية باعتبارها "رواية بحث الإنسان الدائم عن القيم الروحية"..ليبدأ هجوم جديد علي الرواية...في الحفل الذي أقامه الرئيس الأسبق مبارك لتكريم محفوظ ومنحه "قلادة النيل" أرفع وسام مصري، أثار عدد من المثقفين قضية منع " أولاد حارتنا"..وقال مبارك: ليس هناك ما يمنع نشرها..وهو ما تحمس له وزير الثقافة آنذاك فاروق حسني الذي أعطي تعليماته لهيئة الكتاب بالبدء فورا في نشر الرواية مادام لا يوجد حكم قضائي يمنع نشرها. وقد نشرت جريدة الجمهورية هذا الخبر في صفحتها الأولي، المدهش أن اجتماعا لمجلس الوزراء في 30 نوفمبر 1988 ناقش موضوع طبع الرواية، وانقسم المجلس إلي فريقين..فاروق حسني المتحمس للنشر..وعلي الجانب الآخر وزير الإعلام صفوت الشريف الذي رفض طبع الرواية، وطلب عرض الموضوع علي الرئيس مبارك مرة أخري، واستقر الرأي علي منع الرواية. لا يتذكر فاروق حسني هذه الواقعة، مؤكدا أنه هو من أعطي أوامره لسمير سرحان رئيس هيئة الكتاب وقتها بطبع الرواية بدون تدخل من مبارك، لكن جابر عصفور ويوسف القعيد اللذين شهدا تكريم محفوظ يؤكدان علي صحة الواقعة. ويبدو أيضا أن لنظام يوليو في مراحله المختلفة جناحين، ودائما ما ينتصر العنصر الأمني اليميني، حيث أصدر مجمع البحوث الأسلامية بعد يوم واحد من اجتماع مجلس الوزراء قرارا يجدد فيه منعه لصدور الرواية، رغم أن أحداً لم يطلب منه أساسا إذنا أو يقدم له طلبا لابداء الرأي. هل كان صفوت الشريف وراء هذا المنع الثاني..وبالتالي وراء هذا التقرير؟ لا أحد يعلم الإجابة..
11
بعد أيام من حصول محفوظ علي نوبل، صدرت رواية سلمان رشدي " آيات شيطانية".. وبعد عدة شهور أصدر الخميني فتواه الشهيرة بقتل رشدي باعتباره مرتدا، وبعيدا عن موقف محفوظ من رواية رشدي..سئل عمر عبدالرحمن مفتي الجماعة الإسلامية عن رأيه في رواية رشدي فأجاب:" لو أن الحكم بالقتل نفذ في نجيب محفوظ حين كتب "أولاد حارتنا" لكان ذلك بمثابة درس بليغ لسلمان رشدي.."...
وكرر إجابته تلك في العديد من الصحف وفي خطبته للجمعة..بصيغ أخري:" لو قتلنا محفوظ من 30 سنة مكنش طلع سلمان رشدي". والغريب أن رجال الأمن المصري اتصلوا بمحفوظ لكي يخصصوا له حراسة خاصة، فرفض قائلا: "عبارة عمر عبدالرحمن ليست فتوي بالقتل، ولكنها جملة شرطية لأنه بيقول لو قتلنا محفوظ من 30 سنة". بالفعل ما قاله عبدالرحمن لم يكن فتوي، كان رسالة أو إشارة لقتل محفوظ..وهو ما استجاب له شاب عاطل، جاهل لم يقرأ لمحفوظ حرفا ليرتكب الجريمة في يوم الجمعة 14 أكتوبر 1994، وكان محفوظ يستعد لركوب السيارة متجهاً إلي ندوته الأسبوعية وطعنه في رقبته محدثاً جرحاً غائرا ولاذ بالفرار إلي أن تم القبض عليه وعلي المجموعة المشاركة في الجريمة. اعترف بأنه ارتكب الجريمة بسبب " أولاد حارتنا" التي لم يقرأها...وفي تحقيقات النيابة أعاد محفوظ التأكيد علي هدفه من الرواية :" أولاد حارتنا مثل كليلة ودمنة ترسم عالما متصورا لتوحي بعالم آخر. فنحن بين الحيوانات عايشين في غابة، لكن نحن نعرف والقارئ العادي يعرف إن قصدنا نقد البشرية ونظام الحكم والعلاقات بين الأفراد، وحكمة الحكماء، وسفاهة السفهاء، ولكن مادام التزمنا ان احنا في الغابة، فلازم يكون أبطالنا من الحيوانات، ولا نحاسب ونحن نعاملهم معاملة الحيوانات، لأننا نعامل المرموز له بالحيوان، وعلي نفس النمط أنا مشيت في أولاد حارتنا، بأعرض فيها لمصريين في حارة، وأسلوب حياتهم الظالم بكل ما فيه"... ويضيف محفوظ في التحقيق معه:" هؤلاء (يقصد محاولي قتله) لا يقرؤون القصص الأدبية بعين أدبية أو إنسانية تريد أن تعرف الحقيقة وصراع الخير والشر، المهم في نظرهم أن العمل يكون خاضعا حرفيا لتعليمات الدين، وحتي في ذلك هم يغالون، لأن الدين نفسه عرض قصة الخير والشر، وقصة عصيان إبليس علي الذات الإلهية، وروايات كلها تدور حول مفاهيم واضحة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون القصد منها التعرض لأي دين من أديان السماء، أو الازدراء به والقول بانني كافر او مرتد فيه افتراء". بعد أن أدلي محفوظ بأقوله طلب منه رئيس النيابة ان يوقع علي اقوله، لكن اليد المصابة لمحفوظ لم تستطع امساك القلم، فاضطر وكيل النيابة أن يأخذ بصمة محفوظ!
ظل محفوظ علي موقفه، متمسكا برفض نشر الرواية في مصر تنفيذا لاتفاقه " الجنتلمان" مع المبعوث الشخصي للرئيس عبدالناصر، بدون موافقة الأزهر، واعترض علي قيام بعض الجرائد بنشر الرواية بدون الرجوع إليه، وبعد الحادث زاره محمد الغزالي الذي كتب أول تقرير طالب فيه بمنع الرواية..كما طلب خالد محمد خالد أن يكتب مقدمة لها..وبالفعل التقي بمحفوظ وسأله عدة أسئلة عن الرواية واجابه محفوظ عن ظروف نشر الرواية...وفهم الأزهر لها..قال محفوظ:" الأزهر قرأها باعتبارها تاريخا وليس كونها عملا فنيا"... ولكن الرواية لم تصدر في حياة محفوظ صدرت بعد رحيله..بمقدمة لأحمد كمال أبوالمجد..كأنها صك براءة لاهوتية!
12
اللص الغامض الذي سطا علي فيلا أمير الشعراء في اليوم الذي بدأ فيه نجيب محفوظ نشر " أولاد حارتنا" لم يعد غامضا، فقد سطا بعد أيام علي فيلا أم كلثوم، وتمكن البوليس من القبض عليه، وحكي في التحقيقات أنه ارتكب 58 جريمة.. ولكن قبل محاكمته تمكن من الهرب!
وبعد شهور قليلة.. كانت الصحف تتتبع خطوات اللص: محمود أمين سليمان، تفتش في تفاصيل حياته وعلاقاته، وتاريخه، وعائلته..وزواجه الفاشل.. " السفاح" أصبح لقبا له..إذ لم يعد لصا يسرق بيوت المشاهير وإنما قاتل أيضا.. قاتل بحثا عن العدالة كما قال. حكاية محمود أمين سليمان كانت الموضوع الرئيسي لكل الجرائد في مصر، باعتبارها قضية رأي عام.. علي مدي ثلاثة شهور تقريبا.. الصحف تفتش في حياة اللص الذي تحول كما كتبت جريدة المساء:" في خيال بعض الناس إلي أسطورة شعبية". في اليوم الذي تمكنت فيه الشرطة من محاصرة اللص في إحدي مغارات حلوان.. طلب سليمان من محاصريه أن يسلم نفسه بشرط أن يأتي له البوليس بزوجته سبب مأساته.. ثم طلب بعد ذلك أن يأتوا له بالكاتب الصحفي رئيس تحرير الأهرام محمد حسنين هيكل، ثم طلب أيضا أن يأتوا له بورق أبيض لأنه يريد أن يكتب مذكراته... الغريب أن الشرطة فتشت آخر شقة أقام فيها اللص في شارع محمد علي، لتجد رسالة موجهه إلي رئيس تحرير الأهرم محمد حسنين هيكل،..كتبها سليمان في كراسة مدرسية، ونشر هيكل نصها في الصفحة الأولي من الأهرام، طلب اللص منه أن ينشر له الأهرام سيرته الذاتية، في حلقات، بل كتب اللص عناوين الحلقات :"محمود أمين يتكلم بعد صمت ويخص الأهرام بهذه الرسالة" وشرح لهيكل بإسلوب روائي ملئ بالأخطاء اللغوية دوافعه للسرقة، وخيانة زوجته له". .. ونفي عن نفسه أن يكون " سفاحا، بل مجرد إنسان منكوب بخيانة زوجته". نشر هيكل الرسالة كاملة... لتنتهي قصة " السفاح صحفيا..لكن كان هناك "عقل" آخر يتتبع، ويربط الحوادث والدوافع.. ويتابع الرسائل..وينشغل بها.. لم يتوقف نجيب محفوظ كثيرا أمام الصخب والضجيج الذي احدثته " أولاد حارتنا".. المعركة حولها لم تشغله طويلا، فقد كان مشغولا بالسفاح، أو اللص الغامض، والذي سيكون فيما بعد بطلا لروايته " التالية"، حتي أن الكاتب يحيي حقي سأله في تلك الأيام: ماذا تقرأ هذه الأيام وما يشغلك؟ فأجابه: لا شغل ولا تفكير إلا في محمود امين سليمان. وإذا كان هم محفوظ في أولاد حارتنا كان الوصول إلي "مصرع الطغيان..ومشرق النور والعجائب".. فإنه حاول أن يختبر ذلك في "اللص والكلاب" التي كانت إعادة كتابة ل " أولاد حارتنا"..هي قصة واحد من ابناء الحارة، باحث عن العدالة، مستخدما نبوته الخاص منفردا للوصول إلي العدالة.. ولكن دون أن يقدم بديلا فيكون مصيره الفشل. أعمال محفوظ التي تلت " أولاد حارتنا" لم تكن سوي حكايات أخري عن الحارة..أو حكايات عن ابنائها ولكن في رحلة بحثهم عن " مشرق النور". " اللص والكلاب".. هي صفعة نجيب محفوظ لمن تآمروا علي أولاد حارتنا، هي إعادة كتابة لها ، وهو ما ادركته " الرقابة" وقتها..فرفضت الرواية الجديدة.. وكادت أن تمنعها..!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.