شباب المصريين بالخارج مهنئا الأقباط: سنظل نسيجا واحدا في وجه أعداء الوطن    صوامع الشرقية تستقبل 423 ألف طن قمح    التخطيط: 6.5 مليار جنيه استثمارات عامة للإسماعيلية للعام المالي الحالي    الجيش الإسرائيلي يفرض حظر نشر على حادث كرم أبو سالم    أخبار الأهلي: موقف كولر من عودة محمد شريف    رونالدو: الهدف رقم 900؟ لا أركض وراء الأرقام القياسية ... 66 هاتريك أغلبها بعد سن الثلاثين، رونالدو يواصل إحراج ليونيل ميسي    «قطار الموت» ينهي حياة فتاة داخل مدينة ملاهي بأكتوبر    الجد الأعظم للمصريين، رحلة رمسيس الثاني من اكتشافه إلى وصوله للمتحف الكبير (فيديو)    اعرف حظك وتوقعات الأبراج الاثنين 6-5-2024، أبراج الحوت والدلو والجدي    جامعة بنها تنظم قافلة طبية بقرية ميت كنانة بطوخ    "خطة النواب": مصر استعادت ثقة مؤسسات التقييم الأجنبية بعد التحركات الأخيرة لدعم الاقتصاد    التنمية المحلية: استرداد 707 آلاف متر مربع ضمن موجة إزالة التعديات بالمحافظات    وزير الإسكان: قطاع التخطيط يُعد حجر الزاوية لإقامة المشروعات وتحديد برامج التنمية بالمدن الجديدة    «شباب المصريين بالخارج» مهنئًا الأقباط: سنظل نسيجًا واحدًا صامدًا في وجه أعداء الوطن    نتنياهو: إسرائيل لن توافق على مطالب حماس وسنواصل الحرب    إعلام عبري: حالة الجندي الإسرائيلي المصاب في طولكرم خطرة للغاية    روسيا تسيطر على بلدة أوتشيريتينو في دونيتسك بأوكرانيا    زعيم المعارضة البريطانية يدعو سوناك لإجراء انتخابات عامة عقب خسارة حزبه في الانتخابات المحلية    صحة غزة: ارتفاع إجمالي الشهداء إلى 34 ألفًا و683 شخصًا    كنائس الإسكندرية تستقبل المهنئين بعيد القيامة المجيد    البابا تواضروس: فيلم السرب يسجل صفحة مهمة في تاريخ مصر    حمدي فتحي: مستمر مع الوكرة.. وأتمنى التتويج بالمزيد من البطولات    وزير الرياضة يتفقد منتدى شباب الطور    بين القبيلة والدولة الوطنية    في إجازة شم النسيم.. مصرع شاب غرقا أثناء استحمامه في ترعة بالغربية    «الداخلية» في خدمة «مُسِنّة» لاستخراج بطاقة الرقم القومي بمنزلها في الجيزة    التعليم: نتائج امتحانات صفوف النقل والاعدادية مسؤلية المدارس والمديريات    رفع حالة الطوارئ بمستشفيات بنها الجامعية لاستقبال عيد القيامة المجيد وشم النسيم    بالصور.. صقر والدح يقدمان التهنئة لأقباط السويس    «سلامة الغذاء»: تصدير نحو 280 ألف طن من المنتجات الزراعية.. والبطاطس في الصدارة    ماري منيب تلون البيض وحسن فايق يأكله|شاهد احتفال نجوم زمن الفن الجميل بشم النسيم    أنغام تُحيي حفلاً غنائيًا في دبي اليوم الأحد    بعد انفصال شقيقه عن هنا الزاهد.. كريم فهمي: «أنا وزوجتي مش السبب»    بالتزامن مع ذكرى وفاته.. محطات في حياة الطبلاوي    الليلة.. أمسية " زيارة إلى قاهرة نجيب محفوظ.. بين الروائي والتسجيلي" بمركز الإبداع    حفل رامى صبرى ومسلم ضمن احتفالات شم النسيم وأعياد الربيع غدا    الإفتاء: كثرة الحلف في البيع والشراء منهي عنها شرعًا    دعاء تثبيت الحمل وحفظ الجنين .. لكل حامل ردديه يجبر الله بخاطرك    «الإسكان» تنظم ورش عمل مكثفة للمديريات حول تطبيق التصالح بمخالفات البناء وتقنين أوضاعها    جامعة بنها تنظم قافلة طبية بقرية ميت كنانة في طوخ    رئيس هيئة الرعاية الصحية يبحث تعزيز التعاون مع ممثل «يونيسف في مصر» لتدريب الكوادر    لتجنب التسمم.. نصائح مهمة عند تناول الرنجة والفسيخ    "الرعاية الصحية" بأسوان تنظم يوما رياضيا للتوعية بقصور عضلة القلب    فاينانشال تايمز: الاتحاد الأوروبي يضغط لاستبعاد قطاع الزراعة من النزاعات التجارية مع الصين    الأهلي يجدد عقد حارسه بعد نهائي أفريقيا    الاتحاد يواصل تدريباته استعدادًا لمواجهة الأهلي.. وأتوبيسات مجانية للجماهير    «التعليم»: المراجعات النهائية ل الإعدادية والثانوية تشهد إقبالا كبيرًا.. ومفاجآت «ليلة الامتحان»    «منتجي الدواجن»: انخفاضات جديدة في أسعار البيض أكتوبر المقبل    البابا تواضروس خلال قداس عيد القيامة: الوطن أغلى ما عند الإنسان (صور)    السيطرة على حريق شقة سكنية في منطقة أوسيم    ضبط دهون لحوم بلدية غير صالحة للاستهلاك الآدمي في البحيرة    المديريات تحدد حالات وضوابط الاعتذار عن المشاركة في امتحانات الشهادة الإعدادية    «الدفاع المدني الفلسطيني»: 120 شهيدا تحت الأنقاض في محيط مجمع الشفاء بغزة    مختار مختار: عودة متولي تمثل إضافة قوية للأهلي    محمود البنا حكما لمباراة الزمالك وسموحة في الدوري    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    رسالة دكتوراة تناقش تشريعات المواريث والوصية في التلمود.. صور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جناية العقل الفقهي على العلم
نشر في شباب مصر يوم 09 - 09 - 2014


د. عبدالحكيم الفيتوري
لقد جرت معارك ضارية بين العقل الكهنوتي والعقل العلمي في أوروبا، فكانت قيادة العقل الكهنوتي بيد رجال الفقه في الدين المسيحي، وقيادة العقل العلمي بيد رجال العقل والبحث العلمي من أمثال غاليلو وغيره، واسفرت تلك المعارك عن قتل وحرق وتكفير مجموعة من العقلاء الذين تأسست الحضارة الغربية على نظرياتهم المعرفية والفلسفية، والتي بدورها حجمت من سطوة رجال الكنيسة على شؤون الدولة والشأن العام، وحصرت دور رجال الدين في الجانب الروحي والوعظي. ومنذ انتصار العقل العلمي في أوروبا على العقل الكهنوني الفقهي كانت الابداعات والاختراعات العلمية والمعرفية والتكلولوجية تتوالى وتنتشر ليس في أوروبا فقط وإنما على مستوى الكرة الارضية قاطبة، ولعل العاقل الناظر في منتجات العقل العلمي الاوروبي من خلال اختراعاته الطبية أو الهندسية أو الفلكية أو القانونية لا يجد بد من احترام وتقدير العقل العلمي ومنتجاته المعرفية والعلمية والاستكشافية.
وقبل الولوج في صلب الموضوع وطرح الاشكالات المعرفية حول جناية العقل الفقهي على الأمة المسلمة، لابد من التأكيد على أن المعركة بين العقل العلمي والعقل الفقهي في تاريخ الاسلام قد دارت رحاها قبل صراع العقل العلمي والكهنوتي في أوروبا بمئات السنين، حيث اسفرت تلك المعارك الضارية عن انتصار العقل الفقهي ( التسليمي ) على العقل العلمي
( الاستكشافي )، وبالتالي حرمت الأمة والبشرية مبكرا من الاستفادة من نظريات العقل العلمي في عمليات استكشاف سنن الكون وقوانين العلوم الانسانية، ولكن وللآسف الشديد عاشت الأمة ردحا من الزمان بدون معرفة قوانين الجاذبية، ولا موارد الطاقة ... الخ وذلك ببركة انقيادها وتسليمها زمام أمرها للعقل الفقهي !!
ضرورة التفريق بين العلماء والفقهاء.
بادي ذي بدء لابد من التفريق بين مصطلح العالم والفقيه؛ فالعالم هو من يدرس العلم – أيا كان هذا العلم - ثم ينتقده ويضيف إليه الجديد. أما الفقيه أو المدرس هو الذي يدرس المادة ويحفظ عناوينها ومفرداتها ومضامينها دون نقدها والاضافة إليها، وقد أصاب العقل الفقهي حينما اطلق اسم الحافظ على أئمة المذاهب والتخصصات الفروعية كالإمام الحافظ، والحافظ العدل، والحافظ الحجة، وكان رحمه الله يحفظ ألف ألف ألف حديث وفي ذات الوقت لا يعلم الناسخ والمنسوخ من الحديث، ولا العام من الخاص، ولا المطلق من المقيد، ولا المحكم من المتشهابه وهكذا دواليك. ومن هنا صار- ولا زال- الحافظ عند العقل الفقهي يتمتع بلقب العالم والعلماء والائمة، وهذا لمجرد حفظه للمعلومات والمتون والمنظومات واستذكارها كما حفظها بدون نقص ولا زيادة
(عقل حافظ استذكاري). يؤكد الحافظ ابن حجر على ذلك بقوله: للحافظ في عرف المحدثين شروط إذا اجتمعت في الراوي سموه حافظا، وهو الشهرة بالطلب والأخذ من أفواه الرجال لا من الصحف، والمعرفة بطبقات الرواة ومراتبهم، والمعرفة بالتجريح والتعديل.....( النكت، لابن حجر)، وذكر الحافظ السيوطي في مقدمته لتدريب الراوي: أن من جمع هذه الثلاث كان فقيها محدثا كاملا، ومن انفرد باثنين منها كان دونه، إلا أن من اقتصر على الثاني والثالث فهو محدث صرف، لاحظ له في اسم الفقيه، كما أن من انفرد بالأول فلاحظ له في اسم المحدث، ومن انفرد بالأول والثاني فهل يسمى محدثا. فيه بحث؟. ( تدريب الراوي شرح تقريب النووي للسيوطي)
بينما وصف العالم عند العقلاء من الأمم لا تطلق على من يحفظ المعلومة ويستذكرها (= عملية اجترار المعلومة) وإنما على من درس المعلومة ثم وضعها تحت البحث العلمي دون تقديس ولا تدنيس، ثم أضاف إليها الجديد سواء بالحذف أو الزيادة أو التعديل. فمثلا من يدرس مادة الكيمياء أو الفلسفة لمدة أربعين سنة بحيث يحفظ كل مفردات الكيمياء أو الفلسفة ويستذكرها متى طلب منه، فهذا المدرس عند العقلاء من الأمم لا يطلق عليه لقب العالم الكيميائي ولا العالم الفيلسوف، وإنما يتمتع باحترام الجميع ويطلق عليه لقب مدرس الكيمياء أو معلم الفلسفة، ولكن مجرد تحول هذا المدرس أو المعلم من دائرة الحفظ والاستذكار إلى دائرة النقد والاضافة يصبح من حقه التمتع بلقب العالم الكيميائي أو العالم الفيلسوف. كذلك يصدق على من يحفط ويدرس العلوم الدينية من أصول وفقه ومتون وشروح دون نقد وإضافة أنه مدرس أو معلم أو حافظ لذلك الفن أو التخصص ولكنه لا يصدق عليه لقب العالم ولو درس تلك المادة أربعين سنة، ولكن وللاسف أن من يحفظ المعلومة ويستذكرها كما هي يصبح عند المسلمين من العلماء الذين يلجأ إليهم عند الشدائد وسلوك سبل النهضة والتقدم والتجديد !!
بداية المعركة بين الفقهاء والعلماء.
يحلو للعقل الفقهي( التمجيدي ) بمختلف مذاهبه السنية والشيعية في مناظراته وحواراته مع الغير أن يتترس باغلوطة تاريخية معروفة مفاداها؛ إن علماء المسلمين قد سبقوا الغرب في سباق العلوم والمعارف والتقدم؛ ويستدل العقل التمجيدي على تلك الاغلوطة بابن سينا، والكندي، والفارابي، وابن رشد، وابن الهيثيم، وابن النفيس، وابن مرداس، والرازي، وابن حيان وغيرهم من الاسماء العلمية المعروفة في تاريخ الحضارة الشرقية والغربية، ولكن استدلاله بهذه الاسماء على اعتبار أنها من علماء المسلمين هنا تكمن الاغلوطة والاشكال، لأن هذه الاسماء وغيرها تعد في قاموس العقل الفقهي والإيدلوجي من الزنادقة الكافرين المارقين من ربقة الاسلام، وبالتالى يصبح ضم تلك الاسماء العلمية إلى علماء الاسلام كضم غاليلو وفولتير وغيرهم إلى علماء الكنيسة، ومن المعلوم أن معركة تكفير وقتل العلماء كغاليلو كانت بقيادة الكنيسة وبفتاوى العقل الكنهوتي ولكن العقل العلمي انتصر على العقل الكنهوتي والكنيسة لدرجة تقييد سلطة الكنيسة وحملها على أن تعيد النظر في نصوصها المقدسة وتفتح المجال أمام العقلاء لقراءات متعددة للكتاب المقدس وتأويل تفسيرات رجال الدين القديمة بما يناسب قيم النهضة من حريات وحقوق إنسان، وبتلك الدفعة من قبل العقل العلمي ومفكري عصر الأنوار خرج العقل الأوروبي من الانسداد التاريخي والانسداد الافقي إلى رحابة الحاضر وسعة المستقبل في إطار قيم الحرية والعقلانية واحترام الانسان فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
أدوات العقل الفقهي في معركته مع العلماء.
يعتمد العقل الفقهي في معركته مع العقلاء على الخطاب الوعظي العاطفي، ويتمحور حول تثوير عواطف العوام واستدرار مشاعرهم باسم الدين وحماية الدين من أعدائه خاصة الذين هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، ثم الاستعانة بسيف السلطان، فمثلا العقل الفقهي في معركته مع الفلاسفة والعلماء من أمثال ابن سينا والفارابي والكندي وابن رشد، لا يطرح مناقشة الافكار والنظريات العلمية لهؤلاء – ولعله لا يفهم لغتهم- وإنما يقدم هؤلاء على أساس أنهم كفار أخذوا علوم الكفر واتبعوا الشيطان وعبدوا غير الرحمن. وهذا ما حصل مع ابن سينا الذي استفادت من نظرياته النهضة الأوروبية، فقد قدم للعوام والحفاظ على أساس أنه لا يعبد إلها، ولا يؤمن برسول، ويشرب الخمر، ويزنى، ثم أنه من القرامطة الكفار، ومعلوم أن ابن سينا له كتب عدة في إثبات الإلهيات، ورسالة في إثبات النبوات يثبت فيها النبوة والوحي والملائكة والغيبيات، ويبدو أن هذه الكتب كلها لا قيمة لها في أجواء المعركة والخوف على المصالح وضياع المكانة الاجتماعية، وبالتالى استطاع العقل الفقهي بتلك التوظيفية الانتصار لمصالحه الآنية وتفويت مصلحة الامة من الاستفادة من هؤلاء العلماء وإحداث النقلة النوعية في سبيل النهضة والتحرر. نحاول عرض نموذجين لإثبات جناية العقل الفقهي على مصالح الأمة وتدمير العقل الابداعي فيها- وللآسف لا زال يمارس جنايته إلى الآن-، النموذج الأول ابن سينا، والنموذج الثاني ابن رشد.
-النموذج الأول: ابن سينا: هو الحسين بن عبد الله البلخي ثم البخاري، الطبيب الفيلسوف، ولد
( 370ه) وتوفي (428). ترك مكتبة ضخمة ومتنوعة في مجالات متنوعة في الحكمة، والطب، والمنطق، والرياضيات، والميتافيزيقا، والنبوة، والسياسة. ويعرف في المؤسسات العلمية في الغرب باسم ( Avicenne) .
قال عنه الحافظ ابن القيم الحنبلي في إغاثة اللهفان في المجلد الثاني، إن ابن سينا:...كان من أهل دعوة الحاكم؛ فكان من القرامطة الباطنية الذين لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد ولا رب خالق ولا رسول مبعوث جاء من عند الله تعالى، وكان هؤلاء زنادقة يتسترون بالرفض، ويبطنون الإلحاد المحض، وينتسبون إلى أهل بيت الرسول، وهو وأهل بيته برآء منهم نسبا ودينا، وكانوا يقتلون أهل العلم والإيمان، ويدعون أهل الإلحاد والشرك والكفران، ولا يحرمون حراما، ولا يحلون حلالا....
وبعد هذه المقدمة العاطفية التي تكفي بتنفير الناس من ابن سينا، يصدر ابن القيم حكمه النهائي فيقول: ابن سينا إمام الملحدين. ( انظر إغاثة اللهفان المجلد الثاني) وقد سبقه إلى هذا الحكم شيخه الحافظ ابن تيمية حين قال: ابن سينا وأمثاله هؤلاء قولهم شر من قول اليهود والنصارى ومشركي العرب. (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لابن تيمية)
وأكد الحافظ الذهبي الحنبلي على ذلك بقول: ابن سينا أن له كتاب الشفاء وغيره، وأشياء لا تحتمل، وقد كفره الغزالي في كتاب المنقذ من الضلال.... وهو رأس الفلاسفة الإسلامية، لم يأت بعد الفارابي مثله. فالحمد لله على الإسلام والسنة.
( انظر سير أعلام النبلاء، للذهبي، المجلد السابع عشر)
ولم يفوت الحافظ ابن حجر الشافعي تنفير اتباعه من هؤلاء العلماء بذات الطريقة العاطفية التوظيفية فقال: قال ابن أبي الحموي الفقيه الشافعي... وقد اتفق العلماء على أن ابن سينا كان يقول بِقِدَمِ العالَم ونفي المعاد الجسماني، ونقل عنه أنه قال إن الله لا يعلم الجزئيات بعلم جزئي بل بعلم كلي، فقطع علماء زمانه ومن بعدهم من الأئمة - ممن يعتبر قولهم أصولا وفروعا- بكفره وبكفرِ أبي نصر الفارابي من أجل اعتقاد هذه المسائل وأنها خلاف اعتقاد المسلمين. ( لسان الميزان، لابن حجر ، المجلد الثاني)
أثر ابن سينا في نهضة أوروبا.
بكل وضوح وصراحة فإن العقل الفقهي قد سعى في إلغاء ابن سينا وعلومه، وبالتالي قد حرم الأمة من الاستفادة جهوده العلمية، ولكن بعد مئات السنين يأتي العقل العلمي الحديث الأوروبي ويكتشف كتابات ابن سينا ونظرياته العلمية ويحتفي به إيما احتفاء من حيث الاحترام والتقدير، والاستفادة من تنظيره في الجوانب المعرفية والعلمية، وبلغت مكانته درجة التأثير في مفكري القرون الوسطى خاصة ألبرتو الكبير، وتوما الإكويني، كما ذكر غسان فنيانوس في مقاله تأثير العرب في نهضة الفكر الغربي حيث قال:....وابن سينا الفيلسوف عالم أيضا في الرياضيات والجيولوجيا والنبات والحيوان وعلم النفس والموسيقى. ولعلمه أثره وصداه في تاريخ العلم العربي بعامة والغربي بخاصة. وقد قدّر روجي باكون والبرتو الكبير موقف ابن سينا حق قدره من تلك القضية الخاطئة التي شاعت في التاريخ القديم والمتوسط لدى بعض الكيميائيين الذين كانوا يزعمون أنّ في الإمكان تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة. وقد أنكر ابن سينا هذا إنكارا تاما، واستطاع أن يُصحِّح مسار البحث الكيميائي وأن يُمهِّد لعلم الكيمياء الحديث. وقال ابن سينا أيضا، مع بعض المفكرين السابقين، بكروية الأرض، فمهّد لأمثال كوبرنيك ( المتوفى عام 1543) وجالايلي (المتوفى عام 1642) وحاول في الجيولوجيا أن يوضح كيفية تكوين الصخور والجبال، وساعد على وضع نظرية البراكين التي عرفت في القرن السابع عشر. ولم يفت فيلسوف اللغة العربية أن يستعين في بحوثه العلمية بالملاحظة والتجربة، ويمكن أن يعد بهذا من بناة المنهج التجريبي، وربما كان هذا من عوامل القربى بينه وبين روجي باكون .‏
كما لا يخفى فإن ابن سينا طبيب، وهو يعد من كبار الأطباء العالميين. وكتابه القانون أكبر موسوعة طبية وصلت إلينا من القرون الوسطى. ولم تكن شهرته عظيمة في الشرق فحسب.... بل تجاوزته إلى الغرب فترجم إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر وظل أثره في أوروبة دون منافس حتى في القرن السابع عشر. وقد جاء في المجلة التي يصدرها اليونسكو " بريد اليونسكو " تشرين الأول 1980 أن كتاب القانون بقي يدرس في جامعة بروكسل حتى في عام 1909.
بل لم تجد الباحثة الفرنسيّة Goichon في ختام كتابها La philosophie d'Avicenne et son . influence en Europe médiévale (فلسفة ابن سينا وأثرها في أوربة الوسيطية) من التأكيد على دور ابن سينا الريادي في نهضة أوروبا حيث قالت: لا توجد أية دراسة حول مفكر من مفكري القرون الوسطى لا تبحث علاقاته مع فلسفة ابن سينا. وبقدر ما تكون هذه الدراسات عميقة، نرى أن ابن سينا لم يكن فقط مصدرا استمد منه مفكرو القرون الوسطى معلوماتهم ومعارفهم، وإنّما هو أيضا أحد مُلهمي أفكارهم. ولو لم يكن ابن سينا موجودا، فلا أحد يدري ما سيكون عليه الفكر في القرون الوسطى.
ولأهمية ابن سينا هذه من الأسباب التي حملت روجي باكون على القول إنّ المعرفة قد انتقلت إلى العالم مرتين بشكل تام باللغة العبريّة، الأولى عن طريق الأنبياء، والثانية عن طريق سليمان الحكيم؛ ومرتين أخريين بشكل غير تام، الأولى عن طريق أرسطو وباللغة اليونانيّة، والثانية عن طريق ابن سينا وباللغة العربيّة.‏ ( للمزيد انظر: موسوعة دهشة، بتصرف لطول المقال)
والمفارقة الغريبة تكمن في هذا الاحتفاء والاحترام والاستفادة من قبل العقل العلمي الأوروبي الذي يؤكد على مركزية فكر ابن سينا في نهضته كما جاء على لسان الباحثة الفرنسية... ولو لم يكن ابن سينا موجودا، فلا أحد يدري ما سيكون عليه الفكر في القرون الوسطى. بينما العقل الفقهي يتنكر لمجهودات ابن سينا المعرفية بالادانة والتجريم والتحريق؛ بل يخر ساجدا شكرا لله على استأصال شفة ابن سينا واضرابه كما قال الذهبي: ....لم يأت بعد الفارابي مثله- أي مثل ابن سينا-. فالحمد لله على الإسلام والسنة. وهكذا تتجلى جناية العقل الفقهي على الأمة مبكرا وللآسف لا زالت جنايته مستمرة إلى يومنا هذا.
النموذج الثاني العالم ابن رشد: ولد عام (520ه) وتوفي سنة(595ه) =(1126-1198م) يقال أنه أخر فلاسفة الاسلام وانتهت الفلسفة بوفاته، واسمه باللاتينية (أفرويس). وقد وصفه أرنست رينان ( المتوفى 1892م) المؤرخ الفرنسي والداعي لنقد المصادر الدينية، بقوله: أخر ممثل لحضارة تنهار. وفي المقابل يصدق وصف توما الاكويني (1225 – 1274م) صاحب التأثير الواسع في نهضة أوروبا، بأنه الممثل الحقيقي لحضارة تنهض، ومعلوم أن الاكويني ممن استفاد من كتب ابن رشد وشروحاته على الفلسفة اليونانية،وقد نقل عن ابن رشد الكثير الكثير في نظرية الأخلاق والقانون الطبيعي.
ترجم الحافظ الذهبي لابن رشد بقوله: العلامة فيلسوف الوقت، أبو الوليد بن رشد القرطبي. أخذ عن ابي مروان وجماعة، وبرع في الفقه، وأخذ الطب عن ابن حزبول، ثم أقبل على علوم الأوائل وبلاياهم حتى صار يضرب به المثل في ذلك. قال شيخ الشيوخ ابن حمويه: لما دخلت البلاد، سألت عن ابن رشد، فقيل: إنه مهجور في بيته من جهة الخليفة يعقوب، لا يدخل إليه أحد، لأنه رفعت عنه أقوال ردية، ونسبت إليه العلوم المهجورة، ومات محبوسا بداره بمراكش. وقال الذهبي: لا ينبغي أن يروى عنه
.(سير إعلام النبلاء مجلد الواحد والعشرون)
ويبدو أن أبا يوسف يعقوب المنصور(الخليفة) رفعت إليه فتاوى من قبل فقهاء الدولة آنذاك بكفر ابن رشد وضلاله ومروقه من ربقة الاسلام، فقام الخليفة استجابة لخطاب العقل الفقهي بإبعاد ابن رشد إلى بلدة اليهود (إليسانه)، واصدر قراره بحرق جميع كتب ابن رشد الفلسفية، وقد بلغت مؤلفات ابن رشد ما يقرب من المائة، وقد شملت شتى العلوم والمعارف من منطق، وميتافيزقيا، وفلسفة، وطب، ورياضيات، ومناهج الادلة، والنفس، والاخلاق، والطبيعيات، والإلهيات، والتوفيق بين الفلسفة والوحي كما في كتابه المشهور؛ فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، ومعلوم أن ابن رشد كان يؤمن بكروية الارض منذ ذآك الزمان.
والمفارقة الغريبة والعجيبة أن تحرق كتب ابن رشد ويكفر ويطرد من بلاده بينما في الطرف الآخر من بحر المتوسط تنتشر كتبه وتعد سلاحا من الاسلحة الاستراتيجية لدول أوروبا الناهضة، فقد أمر فريدريك الثاني في ايطاليا بتدريس كتب ارسطو بشرح ابن رشد في جامعة نابولي عام (1224)، كذلك فعل ملك فرنسا لويس الحادي عشر بإصلاح التعليم (عام 1473) فكانت كتب ابن رشد في مقدمة الكتب المختارة والمقررة.
أما في مسقط رأسه وبين أهله ومجالس الفقهاء في دار الإسلام! فالأمر مختلف تماما، فقد روى الأنصاري أنه لما قرئت (فلسفة ابن رشد) بالمجلس وتُدُولت أغراضها ومعانيها وقواعدها ومبانيها خرجت بما دلت عليه أسوأ مخرج... وأمر الخليفة طلبة مجلسه وفقهاء دولته بالحضور بجامع المسلمين، وتعريف الملأ بأن ابن رشد مرق من الدين وأنه استوجب لعنة الضالين..
ويبدو أن اعتداء العقل الفقهي على ابن رشد قد تجاوز حدود التكفير إلى مقتضياته من حرق الكتب والتهجير من الأوطان، إلى الطعن في الانساب بغية التشفي والانتقام لتحقيق الانتصار للذات، والحفاظ على مكانته الاجتماعية، والمصالح الذاتية، ومن ثم تخويف الناس من مغبة استعمال عقولهم والخروج على سلطان الفقهاء، وإمكانية تحريض وتثوير الناس على ذوي العقول والمفكرين، فقد ذكر الانصاري أنه، أُمر أبو الوليد (ابن رشد بعد المحاكمة الجائرة من قبل فقهاء السلطة) بسكنى اليسانة ( بلدة صغيرة يقطنها اليهود) لقول من قال، إنّه ينسب في بني إسرائيل وأنه لا يعرف له نسبة في قبائل الأندلس..
بل وصل الأمر بالعقل الفقهي إلى منع ابن رشد ومن على شاكلته من أرتياد إماكن العبادة، فقد روى الأنصاري عن أبي الحسن بن قطرال عن ابن رشد أنه قال: أعظم ما طرأ عليَّ في النكبة أني دخلت أنا وولدي عبد الله مسجدا بقرطبة، وقد حانت صلاة العصر، فثار لنا بعض سفلة العامة فأخرجونا منه. (انظر:المنشور الذي نشره الخليفة في الأندلس والمغرب لمنع الفلسفة)
واللافت للنظر أن عمليات حرق كتب المفكرين وإفساد مصادر المخالفين للخطاب الديني الكلاسكي كانت من المسالك المؤدلجة لدى فقهاء المغرب والمشرق على حد سواء، فهذا الحافظ ابن تيمية يذكر أنه أمر بإفساد كتب خطيب أحد جوامع زمانه كان من قراء كتب الحكمة والكيمياء، فقد ذكر في مجموع الفتاوى: ثم أنه مات هذا الرجل وكان خطيبا بجامع، فلم يشهد جنازته من جيرانه وغيرهم من المسلمين إلا أقل من عشرة، وكان يعاني السحر والسيميا، وكان يشتري كتبا كثيرة من كتب العلم، فشهدت بيع كتبه لذلك، فقام المنادي ينادي على ( كتب الصنعة) وكانت كثيرة يعني كتب الكيمياء؛ فانهم يقولون: هي علم الحجر المكرم، وهي علم الحكمة، ويعرفونها بانواع من العبارات، وكان المتولى لذلك من أهل السيف والديوان شهودا، فقلت لولي الأمر لا يحل بيع هذه الكتب؛ فإن الناس يشترونها فيعملون بما فيها، فيقولون: هؤلاء زغلية(= الزغلية تعني الذين يزيفون العملة) فيقطعون أيديهم، وإذا بعتم هذه الكتب تكونون قد مكنتموهم من ذلك، وأمرت المنادي فالقاها ببركة كانت هناك، فألقيت حتى أفسدها الماء، ولم يبق يعرف ما فيها. (مجموع الفتاوى لابن تيمة29/378)
وتتجلى عبقرية العقل الفقهي في كونه استطاع أن يدرج علم الكيميا والجبر والفلك ضمن دهاليز السحر والشعوذة والتنجيم، بل بأقناع السواد الاعظم من الناس بأن تعلم الكيميا، والتعاطي مع الجبر، واعتماد الفلك، تعد أكبر جرما وإثما عند الله من الربا؛ أخذا وعطاء، وهذا ما أكده ابن تيمية وهو بصدد حديثه عن الكيمياء، فقال: ولم يكن في أهل الكيمياء أحد من الأنبياء، ولا من علماء الدين، ولا من مشايخ المسلمين، ولا من الصحابة، ولا من التابعين لهم بأحسان. واقدم من رأينا، ويحكى عنه شيء في الكيمياء خالد بن يزيد ابن معاوية وليس هو ممن يقتدي به المسلمون في دينهم، ولا يرجعون إلى رأيه، فإن ثبت النقل عنه فقد دلس عليه. كما دلس على غيره. وأما جابر بن حيان صاحب المصنفات المشهورة عند الكيماوية، فمجهول لا يعرف، وليس له ذكر بين أهل العلم، ولا بين أهل الدين.
إلى أن قال: والكيمياء أشد تحريما من الربا، قال القاضي أبو يوسف، من طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب غرائب الحديث كذب. ويروى هذا الكلام عن مالك، والشافعي رضي الله عنهم أجمعين. (المجموع الفتاوى لابن تيمية: 29/373-374)
ومعلوم أن جابر بن حيان الكوفي ( 737-813م تقريبا) المجهول عند ابن تيمية، والذي ليس له ذكر بين أهل العلم والدين، هو من قال فيه مارسلن برتلو (1828م) العالم الفرنسي: أن لجابر في الكيمياء ما لارسطو طاليس قبله في المنطق(تاريخ العلوم عند العرب، لعمر فروح). كما لا تخفى منجزات جابر بن حيان العلمية لدى العقلاء، فهو مكتشف الصودا الكاوية، وحمض النتريك، وحمض الهيدرو كلوريك، وحمض الكبريتيك، والسموم، وغيرها، كذلك اعتماده على العمل المخبري والتجارب وعدم الاكتفاء بالفرضيات النظرية في علم الكيمياء كالتبخير والتقطير وغير ذلك، ويكفي أن اشهر مواد الدراسة تحمل اسمه؛ وهي مادة ( الجبر) والتي تدرس بكل اللغات في العالم.
وبعد كل ذلك يبقى جابر بن حيان عند العقل الفقهي نكرة ومجهول، ومجالس تدريس علومه لا تحفها الملائكة ولا تتنزل عليها الرحمة. نعود إلى ضيفنا في هذا المقال الفليسوف ابن رشد وجناية العقل الفقهي على علومه المتقدمة في إطار الزمان والمكان، وبالتالي جنايته على الأمة والبشرية جمعاء، من حيث حرمانها من الاستفادة المبكرة من أدوات مناهج البحث العلمي الحر، ومن إنتاج المعرفة ومنظومات الفكر الانساني والعقل الابداعي والاختراعات والصناعات المتطورة في كل مناشط الحياة.
ولعل نظرة خاطفة إلى أسلوب ابن تيمية في نقده لفكر وطرح ابن رشد، تكفي لوضع النقاط على الحروف في مدى جناية العقل الفقهي على العلم والابداع والتفكير الحر، ودوره في تخلف الأمة. فإذا كان كلام ابن تيمية على الكيمياء والكيميائيين كخالد ابن يزيد وعالم الجبر؛ جابر ابن حيان بتلك الطريقة سالفة الذكر، فإن كلامه على ابن رشد كان أشد وأنكى، حيث أنه كان يقدمه للناس على أساس أنه ملحد باطني، بل اليهود والنصارى خير منه، وتكفي هذه الديباجة لرفض فكره وكتبه، وهذا نص كلامه في نقده لابن رشد في مناهج الادلة عن صفة الارادة، فقال: ولما كان ابن رشد هذا يعتقد في الباطن ما يعتقده من مقالات المتفلسفة كانت غايته فيما أثبته من كلام الله، هو من جنس الإعلام العام، الذي يشترك فيه نوع الانسان. ولهذا كانت اليهود والنصارى أعظم إيمانا بالله وأنبيائه ودينه وبالآخرة من الفلاسفة، لكن في اليهود والنصارى من يسلك مسلك هؤلاء المتفلسفة فيجتمع فيه الضلالان.
إلى أن قال: لكن اولئك آمنوا ببعض الكتب والرسل وكفروا ببعض، وهؤلاء المتفلسفة قد يقرون بجميع الانبياء والكتب، لكن هم في إيمانهم بجنس الأنبياء والكتب، يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، فخيارهم يؤمنون بدرجة من درجات إعلام الله وإيحائه إلى عباده، كما ذكر ابن سينا وابن رشد وأمثالهما، ولا يؤمنون بما فوق ذلك. ولهذا قد يكون اليهود والنصارى خيرا منهم، وقد يكون خيارهم أقرب إلى الإسلام من اليهود والنصارى من بعض الوجوه، ويكونون من هذا الوجه خيرا من اليهود والنصارى. ومعلوم أن المنافقين الداخلين في الإسلام فيهم من هو شر من اليهود والنصارى، وفيهم من يكون نفاقه أخف من كفر اليهود والنصارى. إلى أن قال: هذا كله على أصله إخوانه الفلاسفة كما تقدم....... وهذا مما يبين ضلاله. (درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية : 5/314-315-319)
وبعد وصفه بتلك الأوصاف صرح ابن تيمية بأن ابن رشد ملحد من الملاحدة، فقال وهو بصدد رده على ابن رشد عن صفة الكلام: ثم يقال له: بتقدير تسليم ما قدمته، قولك في القرآن باطل، وذلك لأنه لا يمكنك أن تقول فيه ما قلته في تكليم موسى، فإن موسى كلمه الله تكليما، فزعمت أنت وأمثالك من الملاحدة أن معنى ذلك خلق كلام مسموع في مسامع موسى، كما زعم المعتزلة- الذين هم خير منكم- أن ذلك كلام مسموع خلقه في جسم من الاجسام فسمعه موسى...(المرجع السابق: 5/ 320)
وقال في موضع أخر: هذا الرجل – يقصد ابن رشد !- يرى رأي ابن سينا ونحوه من المتفلسفة والباطنية، الذين يقولون إن الرسل أظهرت للناس في الايمان بالله واليوم الآخر خلاف ما هو الأمر عليه في نفسه، لينتفع الجمهور بذلك...(المرجع السابق:5/347) إلى أن قال: وهذا منتهى هؤلاء المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من المتصوفة؛ أهل الوحدة والحلول والاتحاد، ومن ضاهاهم من أصناف أهل الالحاد.(المرجع السابق: 5/354)
وقريب من هذه الاوصاف جاء ذكرها في مجموع الفتاوى، حيث قال: ولهذا اضطرب متأخروهم، فابو البركات صاحب المعتبر أبطل هذا القول ورده غاية الرد، وابن رشد الحفيد زعم أن الفلك بما فيه صادر عن الأول، والطوسي وزير الملاحدة يقرب من هذا.... ، وهم مشتركون في الضلال وهو إثبات جواهر قائمة بنفسها أزلية مع الرب لم تزل ولا تزال معه، لم تكن مسبوقة بعدم، وجعل الفلك أيضا أزليا، وهذا وحده فيه من مخالفة صريح المعقول والكفر بما جاءت به الرسل ما فيه كفاية ، فكيف إذا ضم إليه غير ذلك من أقاويلهم المخالفة للعقل والنقل؟! (مجموع الفتاوى لابن تيمية:17/288-289)
ويبدو أن سلاح العقل الفقهي في معركته مع العلماء يدور على ثلاثة محاور، المحور الأول: توظيف نصوص الدين ضد خصومهم من العقلاء، والمحور الثاني: تحريض العوام وتثويرهم ضد من يستعمل عقله، والمحور الثالث: الاستعانة بسيف السلطة لقطع دابر المفكرين أو من تسول له نفسه أن يفكر. فقد مر معنا اساليب توظيف نصوص الدين، وتحريض العوام، والآن يقدم لنا الحافظ ابن الصلاح الاسلوب الثالث في إدارة المعركة مع العلماء وأصحاب الفكر والنظر، وذلك من خلال الاستعانة بسيف السلطان، فقد ذكر ابن الصلاح المتوفى (643 ه) وهو بصدد حديثه عن المنطق والفلسفة، فقال: وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع، ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالحين وسائر من يقتدي به من أعلام الأئمة وسادتها وأركان الأمة وقادتها، وقد برأ الله الجميع من مغرة ذلك وأدناسه وطهرهم من أوضاره
وأما استعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية فمن المنكرات المستبشعة والرقاعات المستحدثة وليس بالأحكام الشرعية والحمد الله؛ فالافتقار إلى المنطق أصلا وما يزعمه المنطقي للمنطق من أمر الحد والبرهان فقعاقع قد أغنى الله عنها بالطريق الأقوم والسبيل الأسلم الأطهر لكل صحيح الذهن، لا سيما من خدم نظريات العلوم الشرعية، لقد تمت الشريعة وعلومها وخاض في بحر الحقائق والدقائق علماؤها حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة. ومن زعم أنه يشتغل مع نفسه بالمنطق والفلسفة لفائدة يزعمها، فقد خدعه الشيطان ومكر به. فالواجب على السلطان أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المشائيم، ويخرجهم عن المدارس، ويبعدهم، ويعاقب على الاشتغال بفنهم، ويعرض من ظهر منه اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف أو الإسلام لتخمد نارهم وتمحى آثارها وآثارهم، يسر الله ذلك وعجله.
ومن أوجب هذا الواجب عزل من كان مدرس مدرسة من أهل الفلسفة والتصنيف فيها والإقراء لها، ثم سجنه وإلزامه منزله ومن زعم أنه غير معتقد لعقائدهم فإن حاله يكذبه والطريق في قلع الشر قلع أصوله وانتصاب مثله مدرسا من العظائم جملة والله تبارك وتعالى ولي التوفيق والعصمة وهو أعلم. ( فتاوى ابن الصلاح،المجلد الأول، للحافظ عثمان بن عبد الرحمن المعروف بابن الصلاح).
وهكذا يصر العقل الفقهي ويثابر على قلع الفكر والمفكرين أمثال ابن رشد وغيره من المدارس ومراكز التوجيه في أرض الاسلام، والغريب أن يجد الفكر المضطهد في بلاده وبين أهله أعوانا وانصارا واتباعا في غير أرضه وأهله ودينه
( وحقيقة أن المعرفة لا تعرف جهة ولا لونا ولا دينا)، وهذا الذي حصل تماما مع فكر ابن رشد، حيث انتقل فكره إلى الطرف الأخر من حوض البحر الابيض المتوسط وانتشر بين أناس يحترمون العلم والفكر والنقد ومنطق العقل. وقد ساهم ابن رشد في نهضة أوروبا بصورة من الصور، بينما يرتكس الطرف الأخر الذي سيطر عليه الخطاب الكلاسيكي، ورضي بتسليم زمام أمره إلى العقل الفقهي الذي يؤمن بالحفظ والاستذكار، والتسليم وعدم النقد والاستقصاء، والعفوية والارتجال.
وقد أصاب الجاحظ (ت 255ه) حين ربط بين انتاج الثقافات الواعية ومدى اعتماد البحث العلمي عند الأمم، فوصف تشكل الثقافة الفارسية واليونانية بأنها تشكلت بالقراءة والنقد واستفادة اللاحق من السابق، والانفتاح على تجارب الغير، بينما وصف المنتج الثقافي للعرب بأنه يعتمد الارتجال والعفوية وعدم القراءة والنقد منهجا، فقال: وجملة القول أنا لا نعرف الخطب إلا للعرب والفرس، فأما الهند فإنما لهم معان مدونة، وكتب مخلدة، لا تضاف إلى رجل معروف، ولا إلى عالم موصوف، وإنما هي كتب متوارثة، وآداب على وجه الدهر سائرة مذكورة.
ولليونانيين فلسفة وصناعة ومنطق ..... وإلا أن كل كلام للفرس، وكل معنى للعجم، فإنما هو عن طول فكرة وعن اجتهاد رأي، وطول خلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طول التفكر ودراسة الكتب، وحكاية الثاني علم الأول، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم.
وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخصام؛ أو حين يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة أو المناقلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب؛ وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالا، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحدا من ولده.....(البيان والتبيين لابي عثمان عمرو الجاحظ، المجلد الثاني: 3/17-18)
وببركة العفوية والارتجالية وسيطرة العقل الفقهي على زمام الأمور تم حرمان البشرية من الاستفادة من أفكار أمثال هؤلاء العلماء واختراعاتهم وابداعاتهم المبكرة. فهل آن الأوان للتمرد على سلطة رجل الدين، والتخلص من الخطاب الارتجالي والعفوية الذي يتبناه العقل الفقهي، والمضي قدما في اكتشاف سنن الكون ونواميس الحياة، والمشاركة الفاعلة والايجابية في النهضة الانسانية، فضلا عن حفظ المتون، وفك رموزها، واستذكارها؟!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.