هذا المربي الطلائعي المناضل والكاتب والشاعر الفلسطيني قد تعلم في مدرسة الروم التابعة للكنيسة الأرثوذكسية، ومن ثم في مدرسة صهيون في القدس. شخصيتان، الأب صالح سابا والأستاذ نخلة زريق، قد أثّرتا بشكل خاص على خليل قسطندي السكاكيني، فالأول جسّد العلاقة الطيبة ما بين الأستاذ والتلميذ والثاني غرس في قلوب طلبته حبّ العربية والعزة في الثقافة والقومية العربية. انتهج وطبّق ما نادى به من قيم كالمساواة بين الرجل والمرأة وكان قدوة يحتذى بها وهو الذي قال "خليل السكاكيني-إنسان إن شاء الله" وهذه الكلمات نُقشت على قبره. شارع السكاكيني في القدس سمّي على اسمه شارع ومدرسة، وفي الواقع، نسي السكاكيني إثر مماته إذ أقيمت له ذكرى بعد ذلك بعامين عند إصدار ابنته هالة قسما من يومياته، وقد يرجع هذا الإهمال لكون هذا الانسان مربيا أولا وقبل كل شيء ولأنه لم يكن متدينا. أخذ اسم السكاكيني يتردد في الأوساط الثقافية الفلسطينية في الثمانينات من القرن الماضي وقد أقيمت مؤسسة على اسمه في رام الله حيث كان ينزل الشاعر الفلسطيني المنفي في بلاده، محمود درويش. كان عُمْر خليل خمسةَ عشرَ عاما عندما انخرط في سلك التدريس عام 1893 في المدرسة التي تخرّج منها وعمل فيها خمس سنين. وفي السن ذاتها انكبّ على تدوين يومياته وفيها فوائدُ جمّة في نواحٍ متعددة تاريخية وتربوية وسياسية واجتماعية. وفي عام 1898 سعى مع آخرين وأسسوا "جمعية الآداب الزاهرة" وكانت الأولى من نوعها في فلسطين وترأسها صديقُه، داؤود الصيداوي، أما هو فكان سكرتيرها حتى العام 1903. وقامت الجمعية بنشاطات ثقافية تناولت أهمية التربية القومية الحديثة وإحياء القومية العربية. التسلط اليوناني زار السكاكيني إنجلترا في صيف 1906 واستمع إلى محاضرات في جامعتي أكسفورد وكمبريدج في موضوع التربية، وفي طريق عودته إلى الوطن، عرّج على مصر حيث انكبّ على مطالعة مؤلفات وصحف كان قد حظر دخولها إلى فلسطين. وفي خريف العام 1907 سافر إلى أمريكا ومكث فيها سنة تقريبا حيث عمل مدرّسا في مؤسسة لاهوتية ودرس في جامعة كولومبيا. ولا بد من الإشارة إلى أن حالته المادية كانت صعبة واعتاش على أجر من الدروس الخصوصية التي كان يقوم بها، أضف إلى ذلك قيامه بأعمال شتى مثل بائع متجول وعتّال في مصنع. كما وشارك في تحرير مجلة "الجامعة" التي كان قد أسّسها الكاتب السوري المعروف، فرح أنطون. ومن الممكن تلخيص اهتمامات السكاكيني في ثلاثة مجالات رئيسة وهي: 1) إصلاح حالة الطائفة الأرثوذكسية 2) التربية والتعليم 3) نشاط سياسي وقومي كان السكاكيني من قادة "النهضة الأرثوذكسية" ضد تسلّط البطريرك وكهنته وكلهم يونانيون، على الكنيسة وممتلكاتها. وفي عام 1909 وصل وفد من الكنيسة كان ضمنه السكاكيني إلى استنبول للمطالبة بحقوق أبناء الطائفة العربية. وفي عام 1910 صدر دستور جديد للبطريركية الارثوذكسية في القدس مستجيبا لبعض مطالب العرب مثل إقامة "مجلس مشترك" يشمل الرعايا العرب والكهنة اليونانيين بغية إدارة شؤون الكنيسة وممتلكاتها. والحق يقال إن ذلك الدستور بقي حبرا على ورق وظلّ السكاكيني حتى العام 1914 في طليعة المطالبين بإحياء نشاط المجلس واستقلالية مدارس الطائفة. وبسبب هذا النشاط المتواصل والعنيد فقد حرمه البطريرك اليوناني ذميانوس من الكنيسة وأبعده عنها وطرده من منزله الذي كان ملكا للبطريركية وعندها أعلن السكاكيني "لست أرثوذكسياً". لقد أعلن السكاكيني حربا بلا هوادة على الكهنوت اليوناني وناشد في طفرته في أواخر العشرينات من القرن العشرين العرب المسيحيين للتأسلم للمحافظة على قوميتهم العربية. وقد أقام له بعد ذلك مما جناه من نشر كتبه بيتا في حي القطمون المقدسي في مجال التربية وفي مجال التربية كان السكاكيني طلائعياً فقد اعتبرها الوسيلة الأولى لليقظة القومية. ففي عام 1908 تعاون مع نشطاء أخرين في الطائفة وأقاموا مدرسة عربية للطائفة وبعدها بعام أقام "المدرسة الدستورية" وهي المدرسة العربية القومية الأولى في البلاد التي لم تكن تحت رعاية طائفة دينية معينة أو مؤسسة أجنبية. شغل السكاكيني منصب مدير المدرسة وشرع ببث آرائه ومبادئه التربوية الأصيلة التي كانت ثورية حقاً في حينه وربما اليوم في بعض الأقطار الشقيقة، رغم معارضة بعض المتزمتين والمحافطين. ففي هذه العجالة لا بدّ من التنويه إلى بعض النقاط الرئيسة في مضمار التعليم والتربية: أ) معارضة أسلوب القصاص ب) عدم إذلال الطالب ج) إلغاء الامتحانات والوظائف البيتية والشهادات د) معارضة الحفظ غيباً ه) تهذيب شخصية الطالب و) منح الطالب الحرية الكاملة ز) علاقات اجتماعية مفتوحة بين المعلم والطالب ح) إلغاء عادة قيام الطلبة عند دخول المعلم للصف وتعليم الدين، عام 1938 في كلية النهضة في القدس. واللغة العربية لا التركية كانت اللغة الرسمية في المدرسة التي فتحت أبوابها أمام كافة أبناء الطوائف عربا ويهودا وحثّ السكاكيني طلابه فأنشأوا ناديا وصحيفة واهتموا بالرياضة، ويشار انه كانت بجانب المدرسة "داخلية" وروضة أطفال فريدة في نوعها. كما وحاول السكاكيني من خلال عضويته في لجنة التربية لقضاء القدس العمل على تحسين نظام التربية ولا سيما بالنسبة للبنات. وفي العامين 1915-1917 درّس العربية في كلية الصلاحية وساهم في الكتابة في الصحف المحلية مثل صحيفة “القدس” وهي الأولى في البلاد إذ أنشئت في أيلول عام 1908 ومجلة "الأصمعي" و"فلسطين" وبالمجلة الشهرية "المنهل" وراسل "لسان الحال" البيروتية باسم مستعار خوفا من المباحث التركية. وفي العام 1925 صدر كتابه "دراسات في اللغة والأدب" وقد دار بين السكاكيني والأمير شكيب أرسلان جدال ثاقب ومستفيض حول اللغة العربية. فمن المعروف أن أرسلان كان من المنادين بالتشبث بالأسلوب القديم المركّب والجاف في حين أن السكاكيني سعى إلى انتهاج أسلوب حديث بسيط سلس وواضح. ومن خلال عمله مفتشا عامّا على تدريس العربية في فلسطين دأب على ترسيخ التربية القومية الليبرالية مؤكداً على ضرورة تنمية الفكر الذاتي بدلا من "البصم". وقد قام بعمل مشكور بغية تبسيط سبل تدريس لغة الضاد لفلذات أكباد بني يعرب. وما كتبه في تدريس العربية إلا خير دليل على ما نرمي إليه وتقديرا على ذلك انتخب عام 1926 عضواً في "المجمع العلمي العربي" في دمشق وفي عام 1948 انتخب عضوا في المجمع اللغوي في القاهرة. كان منزله محط رواد العلم والمعرفة في فلسطين والعالم العربي وحتى الأجانب. وقد أسس السكاكيني إثر تقاعده في عام 1938 وبالتعاون مع ثلاثة معلمين من طائفته "كلية النهضة" في تلپبيوت في القدس وقد أمّتها أفواج الطلاب من مختلف الطوائف . في المجال القومي وفي المجال القومي والسياسي كان السكاكيني من أوائل الذين نادوا بهذا النشاط بعيدا عن التشرذم والطائفية البغيضة. ففي أيلول من العام 1908 تعاون مع الاستاذ نخلة زريق وحسين سليم الحسيني رئيس بلدية القدس والصحفي عيسى العيسى من أجل تأسيس جمعية إسلامية مسيحية للتفاهم بين الطوائف. كما وانضمّ إلى "جمعية الاتحاد والتقدم" التي هدفت إلى حلّ مشكلة القوميات والأقليات في الإمبراطورية العثمانية عن طريق التركيز ومنح الحكم الذاتي في مناطقهم. وفي عام 1908 كان السكاكيني في صفوف مؤسسي الفرع المقدسي ل "جمعية الإخوة العربية العثمانية". وقد عارض السكاكيني مبادرة لبعض المسيحيين اليافويين، رمت إلى إقامة حزب مسيحي يرعى حقوق الأقلية المسيحية في فلسطين. وفي تلك الحقبة تخمّرت في ذهن السكاكيني فكرة جلية في مناهضة الصهيونية وعبّر عن ذلك في شتى الجرائد منادىاً بضم فلسطين لسوريا العظمى. وفي تشرين الأول عام 1908 انضمّ إلى حركة الماسونيين وفي غضون الحرب العالمية الأولى عمل في مستشفى عسكري وفي العام 1913 نادى بتعريب لغة الكنيسة الأرثوذكسية. وفي نهاية العام 1917 اعتقل السكاكيني وسجن في دمشق أربعين يوما بتهمة إعطاء ملجأ في بيته لألتر ليڤين، الشاعر اليهودي. وبعد مكوثه بدمشق عدة شهور هرب منها لينضمّ إلى معسكر الأمير فيصل بن الشريف حسين، زعيم "الثورة العربية". وفي تلك الفترة ألّف "نشيد الثورة العربية" ثم حاول العودة إلى الوطن عبر مصر إلا أن السلطات البريطانية حالت دون ذلك واضطر إلى البقاء في مصر بضعة شهور. وفي بداية العام 1919 عاد إلى القدس وقد اعتاش في بداية الانتداب البريطاني على ما تقاضاه من الدروس الخصوصية بالعربية لليهود وللضباط البريطانيين. وفي خريف العام المذكور أقام السكاكيني وأدار "دار المعلمين" في القدس وفي مستهل العام 1920 عيّن مفتشاً على المدارس العربية في منطقة نابلس إلا أنه استقال في تموز العام ذاته احتجاجا على تعيين يهودي، هربرط صمويل، لمنصب المندوب السامي. ثم عاد إلى مصر ومكث عامين مديرا خلالهما الجناح العربي لمدرسة الطائفة، الروم الأرثوذكس، في القاهرة بالإضافة إلى نشر المقالات في الصحف المصرية مثل "المقطم، المقتطف، السياسة" وكان فعالا في "حزب الاتحاد السوري" أيضا. أرغم في صيف 1922 إلى الرجوع إلى القدس بسبب مرض ابنه بكره الذي أحبه كثيرا "سري" وكان في التاسعة من عمره. وفي العامين 1922-1924كان السكاكيني العضو المسيحي الوحيدَ في "النادي العربي" وكان السكرتير لهذا النادي القومي العربي الفلسطيني. اشترك في المؤتمر الفلسطيني الخامس عام 1922 وفيه انتخب للجنة التنفيذية العربية كممثل المسيحيين كما واشترك في المؤتمر السادس وانتخب عضوا في اللجنة التربوية. وفي عام 1925 وفي إطار الاجتماع العربي ضد مجيء اللورد بلفور لحفل وضع حجر الأساس للجامعة العبرية، وقف السكاكيني المسيحي على منبر المسجد الأقصى وألقى خطبة قومية حماسية. وفي أكتوبر 1925 كان السكاكيني واحدا من أربعين مفوضا عربيا التقوا بالمندوب السامي، اللورد پلومر. وبالرغم من اعتزاله النشاط السياسي في الثلاثينات فإنه بقي على صلة برؤساء المعسكرين الفلسطينيين، الحسيني والنشاشيبي. وفي أواخر آذار 1936 أعلن عن مقاطعة محطة الإذاعة التي أقيمت آنذاك وكان من مرشحي رؤسائها العرب، وذلك لأنها بدأت بثَّها بالإعلان "هنا إذاعة أرض إسرائيل" وعليه فقد بدّل الاسم لاحقاً. كان السكاكيني ضد العنف وضد الاعتداء على أحياء يهودية إلا أنه كره الصهيونية كرها ما بعده كره إلا أنه لم يكره اليهود فقد أقام علاقات صداقة مع ب يهوذا. ليڤ ماچنِس (1877-1948)، رئيس الجامعة العبرية، ويعقوب يهوشوع وأڤينوعم يِلين ويهودا بن أور (بلوم). وفي الثلاثين من نيسان عام 1948 أي يوم واحد قبل احتلال الهاچاناة لحي القطمون المقدسي حيث يقع منزل السكاكيني هربت العائلة إلى مصر وهكذا عاش خليل سنواته الخمس الأخيرة في القاهرة وقد زار القدس عام 1952 وخابت آماله. من مؤلفاته: 1) الاحتذاء بحذاء الغير. القدس 1896. نقد للعرب المقلدين لقشور الغرب دون أخذ المحتوى الإيجابي، قد ضاع. 2) النهضة الأرثوذكسية في فلسطين. القدس 1913. كراس فيه 16ص ضد الكهنة اليونانيين. 3) فلسطين بعد الحرب الكبرى. القدس 1925. مقالات نشرت في الجريدة "السياسة" المصرية ما بين حزيران 1923 - آذار 1925، فيها هجوم على الصهيونية ووعد بلفور. 4) مطالعات في اللغة والأدب. القدس 1925. 5) الجديد في القراءة العربية. القدس 1924-1936، 4 أقسام، ط، جديدة عمان 1977. 6) أسلوب الجملة. القدس 1933، نشرة تجريبية لتحليل الجملة، 7 ص. 7) الدليل الأول في تعليم اللغة العربية. القدس 1934. لإرشاد المعلمين بخصوص أسلوب السكاكيني في التدريس. 8) الدليل الثاني في تعليم اللغة العربية. القدس1936. 9) سَرِي. القدس 1935. تبادل رسائل الوالد مع ابنه خلال دراسة الثاني في أمريكا ما بين 1931-1935. 10) حاشية على تقرير لجنة النظر في تيسير قواعد اللغة العربية. القدس 1938، كراس، 33ص. 11) لذكراك. القدس 1940. لذكرى سلطانة زوجته، فيها أشعار. 12) وعليه قِس، القدس 1943. كتاب لتعليم القواعد العربية من الأمثلة. 13) ما تيسر. القدس ج. 1، 1943. خطابات في كلية النهضة وغيرها في الأربعينات. 14) ما تيسر. القدس ج. 2، 1946. مقالات نشرها منذ 8191 فصاعدا. 15) معالم التاريخ. لندن 1946. لتدريس التاريخ في المدرسة الابتدائية، ترجمه بتصرف السكاكيني ووصفي عنبتاوي وأحمد خليفة. 16) كذا أنا يا دنيا، يوميات خليل السكاكيني. القدس 1955. 17) المجموعة الكاملة. القدس 1962، بعناية عبد الحميد ياسين وفايز الغول وعيسى الناعوري. 18) أعزائي - مختارات ومقتطفات من رسائل ويوميات خليل السكاكيني، القدس 1978، نشر ابنته هالة، قرن على ولادته وربع قرن على مماته. واليوم، بعد حوالي ستة عقود لرحيل السكاكيني إلى دار البقاء يشرأب السؤال: من يعرف من الفلسطينيين خاصة والعرب عامةً ما نادى به وقام به هذا المربي الفذّ؟