أحمد مكي ليس مجرد ممثل كوميدي متميز ومخرج مجتهد لكنه حالة موسيقية فريدة إذ تمكن من فرض موسيقي "الراب" علي الشارع الموسيقي المصري الذي غالبا ما يتعامل مع هذه الموسيقي بتهميش متعمد حيث لا تبدو مفهومة أو مستساغة من الغالبية. وبداية تعرف قطاع عريض من الشباب عن قرب علي هذا النوع من الموسيقي بدأ مع تقديم مكي عام 2009 لأغنيته "ما تحاولش تبقي حد تاني" في فيلم "طير أنت" والتي تلاها بأغنيات لم تقل عنها نجاحا مثل: الكبير، وناصية الزمان، وقطر الحياة، وألبوم "أصله عربي" ثم أغنية "آخر شقاوة" و"أغلي من الياقوت" اللتان مثلتا حالة نجاح غنائي استثنائي في 2018. ومن خلال هذه الأغنيات وغيرها تمكن مكي من فك شفرات هذه الموسيقي ليحولها من غناء بلا هوية محددة إلي عمل مبدع له رؤية مصرية متكاملة, لاسيما بعد تآكل المضمون السياسي لموسيقي الراب في مصر وتركيز مؤديها علي القضايا الاجتماعية والإنسانية في الفترة الأخيرة. و"الراب" الذي لا يمكن توصيفه كحركة موسيقية فحسب حيث انه إفراز لحراك اجتماعي وثقافي بالأساس يستخدم الموسيقي والقوافي كأدوات لتوصيل رسائل مجتمعية قوية بها الكثير من المعارضة والتمرد علي الأوضاع القائمة أيا ما كانت طبيعتها, يعد صوتا للفوضى التي تعتري بعض الأشخاص أو تموج بها الكثير من المجتمعات. تلك الفوضى التي مرت بها مصر لعدة سنوات أعقبت 25 يناير2011 والتي ولدت حالة من الالتفاف الشبابي الملموس حول هذه الموسيقي التي كانت بمثابة الموسيقي التصويرية للثورات ليس في مصر فقط بل وفي الكثير من البلدان العربية وخلال تلك الفترة ظهر الكثير من مؤدي الراب المصريين المسيسين مثل شاكور ورامي دانجوان وأم سي أمين وفريق الراب السكندري "ريفوليوشن". لكن في السنوات القليلة التي أعقبت هذه الفوضى, انتابت الشارع المصري حالة من الهدوء السياسي نتيجة التشبع والتخمة من التعاطي الدائم مع السياسة لسنوات طويلة مجهدة, وفي ظل هذا التغيير في المزاج الشعبي أصبح الراب الآن في معظم الأحيان يتحدث دوما وبعمق عن الجوانب المظلمة في سلوكيات الأفراد والمجتمع. خاصة مع إحكام قبضة ثقافة الشوارع علي الشباب المصري الذي غالبا ما يترجمها لسلوكيات منحرفة نتيجة اعتقاده بأن هذه السلوكيات قد تعينه علي العيش تحت ظروف منتجة لليأس خالية من العدالة الاجتماعية لاسيما في مناطق الفقراء والمهمشين. هذا اليأس الذي تنقله موسيقي الراب في أغانيها, مستخدمة نغمات غير تقليدية بها الكثير من الترصد لكل ما هو خاطئ وفقا لرؤية موسيقييها الذين لا يمكن بحال أن نطلق عليهم مطربين لأن جمال الصوت ليس جزءا من متطلبات موسيقاهم التي تنتمي جزئيا لثقافة "الهيب هوب" العالمية والمعنية بالأساس بأحاسيس معتنقيها وواقعيتهم في تناول أي قضية يحاولون تغييرها بأصواتهم وكلماتهم. فالأهم من عذوبة الصوت صدق الكلمات التي تخرج عفوية من قلب مؤديين مؤمنين تماما بما يقولونه ويملكون موهبة شعرية غير عادية تجيد التلاعب بالقوافي بإحكام لغوي مذهل في أحيان كثيرة ومهارة وسلاسة تسترعي الانتباه, حيث يبتكرون نوعا من الشعر التلقائي الخارج عن المألوف والذي ليس له مدارس يتم تعلمه فيها. غناء صدامي يقدمه الراب يختلف تماما عن الغناء التقليدي المدجن, هذا الغناء الذي تمرد عليه أيضا مجتمع العشوائيات والمهمشين الذين ابتكروا موسيقاهم الخاصة برموزها الغنائية, تلك الموسيقي التي صار لها امتدادات في مصر كلها. ويعد الغناء الشعبي الممزوج بالمواويل التي تتحدث عن أوجاعهم وقسوة الأيام عليهم صاحب السطوة الغنائية في هذه المناطق بمطربيه الملتحمين معهم حيث لا يخرجون عن كونهم أبناء لهذه المناطق البسيطة وأهمهم في السنوات الأخيرة: عبد الباسط حمودة ومحمود الليثي وأحمد شيبة ودياب وسعد الصغير وطارق الشيخ. أيضا قبل أحد عشر عاما وتحديدا في 2007 ظهرت في الأحياء الشعبية موسيقي المهرجانات وهي خليط من موسيقي الراب والتكنو, وبالرغم من أن تواجد الراب في المناطق الشعبية كان سابقا عليها بسنوات إلا أن أغاني المهرجانات كانت أكثر قوة وانتشارا في الشارع المصري علي يد شحتة كاريكا وأوكا وأورتيجا والسادات وفيفتي وعمرو حاحا والمدفعجية. وقد حاول الراب الاندماج مع هذه الموسيقات الشعبية إلا أن مشكلة مؤديه الأساسية ظلت في عدم قدرتهم علي مخاطبة هذه الشرائح الاجتماعية بصورة بسيطة يستسيغونها, وهنا تكمن معضلة تلك الموسيقي في مصر في كونها موجهة للمهمشين لكنها تصل ويتجاوب معها الفئات الشبابية البعيدة تماما عن التهميش.