عندما تقودك الصدفة إلى رسالة محددة أو علامة من السماء تساعدك على حل معين لمشكلة طارئة تتعرض لها فى حياتك أو للخلاص من إحساس بقلة الحيلة والعجز أمام سخافات الدنيا والبشر فعليك فورا أن تأخذ بالأسباب وتسلم بأن تلك الرسالة موجهة لك وحدك لربما كان بها اليقين وهذا ما حدث معى بالضبط عندما فتحت الراديو على إذاعة القرآن الكريم بعد صلاة الفجر لأتلقى تلك الرسالة من مولانا الشيخ محمد رفعت والذى قلما يذاع له تسجيلا فى الإذاعة نظرا لندرة تلك التسجيلات وقصر مدتها وكان يقرأ الآية 85 من سورة يوسف " إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون " والتي يؤكد لنا بها المولى عز وجل أننا لسنا وحدنا وإنه عندما يضيق بنا الأمر فعلينا آلا نشكو سوى لله وحده " آليس الله بكاف عبده " ولاسيما لو كانت تلك الرسالة بصوت محمد رفعت هذا الصوت الذى يشق عنان السماء ليخترق قلبك وإحساسك وكإنه منحة من الله تؤكد لك أنك لست وحدك وان الله معك . والحقيقة أنه رغم أننا موروثنا من قارئي القرآن يزخم بأسماء عظيمة إلا أنه تبقى للشيخ محمد رفعت مكانة خاصة وعظيمة عند معظمنا لذا فقد كان تأثير تلاوته للقرآن عابرا للثقافات والديانات فعندما تسمعه يقرأ "الحمدلله رب العالمين " تهفو روحك وكأنها تشكر الله وتحمده على عطائه وعندما يتلو "إهدنا الصراط المستقيم " تشعر بضراعه طلب الهدايه وفى تجويده للآية " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الأخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون " تجد فى صوته الإستبشار بثواب الله لذا لم يكن غريبا أن يصفه الإمام المراغي بأنه منحة من الأقدار حين تهاود وتجود فهو خير من رتل القرآن وخير من تلاه كما قال عنه الشيخ الشعراوى إذا أردت إحكام التلاوة فالشيخ الحصرى وإذا أردت حلاوة الصوت فالشيخ عبد الباسط وإذا أردت العذوبة فالشيخ مصطفى إسماعيل وإذا أردتهم جميعا فالشيخ رفعت .
وللشيخ رفعت قصص وحكايات غريبة فى حياته منذ أن ولد فى 9 مايو عام 1882 فهو مثلا لم يولد كفيف ولكنه كان مبصرا وشديد الجمال وكان والده تاجرا متواضعا لذا وجد نفسه مضطرا لأن يعول أسرته وهو لايتعدى التسع سنوات ولكنه كان قد أصيب بالرمد مما آدى الى فقده للبصر بإحدى عينيه وأصيب بالضعف فى الأخرى ولكن رب ضارة نافعه فعندما رآه والده بتلك الحالة أرسله الى كتاب الشيخ كشك ليتعلم قراءة القرآن إلا أن القدر لم يكتفى بفقده لبصره فقط حيث توفى والده وهو فى العاشرة فلم يكن أمامه مصدر يعول به أسرته سوى قراءة القرآن فى المآتم وليالى الذكر ومن هنا ذاع صيته نظرا لجمال صوته وصغر عمره وضعف أجره وكان عشقه للموسيقى له مكانة أخرى فى حياته لذا قرر أن يتعلم فنونها وأصولها لتهذيب إحساسه وقد قام فعلا بأداء بعض القصائد فى محطات الإذاعة الأهلية مثل "أراك عصى الدمع " و"وحقك أنت المنى " الى أن ألغيت المحطات الأهلية عام 1934 وأنشأت شركة ماركونى الإنجليزية الإذاعة المصرية الأولى وحاول سعيد باشا لطفى مدير الإذاعة وقتها التعاقد معه على قراءة القرأن فى إفتتاحها إلا أنه رفض وعندما أصر الرجل طلب مهلة للتفكير حتى يستشير أستاذه الشيخ السمالوطى حيث كان متحفظا على قراءة القرأن فى الراديو خوفا من أن يكون هذا الجهاز موجودا فى مكان غير طاهر وحينما طمأنه شيخه بأن الراديو ليس حراما بل العكس فقد يكون وسيلة لتسمع الدنيا صوته الجميل والشعور بعظمة القرآن إطمأن قلبه ومن ثم كان أول من قرأ ورتل القرآن فى الإذاعة المصرية حتى أصبحت الناس تنتظر تلاوته يومى الجمعة والثلاثاء ومن شدة إنبهارهم به لقبوه بالأستاذ وكانت الإذاعة نفسها تقدمه بلقب الأستاذ حتى إستاء مقرئى بر مصر مما جعله يطلب عدم تقديمه بلقب الأستاذ حفاظا على مشاعرهم .
ومع الوقت أصبح الشيخ رفعت هو المقرىء الأول لدى المسلمين فى كل أرجاء الدنيا وقد جاء مهراجا هندى الى مصر مخصوص من أجل أن يعرض عليه إحياء 30 ليلة فى رمضان فى الهند نظير 100 جنيه فى الليلة وهو مبلغ يعادل مليون جنيه الأن ولكنه رفض رغم فقره الشديد حتى لايتخلى عن القرأة فى سرادقات عابدين فى رمضان ومن هنا بدأ مستشار الحكومة الإنجليزية يضطهده خاصة أنه كان صديقا للمهراجا الهندى مما إضطرهلترك التلاوة فى الإذاعة فإشتعلت ثورة الشعب وعم السخط الجميع والمفارقة أن الأقباط كانوا الأكثر غضبا وطالبوا بعودته وبالفعل أصدر الملك فاروق قرار بعودته للإذاعة ليقدم تلاوته صوته ثلاث مرات فى الإسبوع بدلا من مرتين ويؤذن لصلاة المغرب وهو الأذان الذى نسمعه حتى الأن وقد كان صوته الساحر سببا فى أن يعتنق الكثيرون الإسلام مثل قائد القوات الجوية الكندية الذى تأثر بصوته وجاء الى مصر مخصوص ليبحث عن صاحب هذا الصوت الجميل وذهب اليه فى مسجد فاضل باشا ليشهر إسلامه بين يديه. كان مريدى الشيخ رفعت من نجوم الفن وقتها لاحصر لهم ولكن تبقى أم كلثوم وزكريا أحمد وليلى مراد رغم كونها كانت يهودية ولم تشهر إسلامها بعد من أهم مسمتعيه أما عبد الوهاب فقد كان صديقه المقرب لدرجة أنه كان يجلس تحت قدميه وهو يرتل القرآن ويبكى بشدة وعندما سئل عن سبب هذا البكاء أجاب بأنه يستمع الى قيثارة السماء وأن صوت الشيخ رفعت آلة ربانية لامثيل لها فى الكون وكان الشيخ رفعت يستمع الى موسيقى موتسارت وبيتهوفن وفاجنر بإستمتاع شديد وعندما علم بذلك أحد الأزهريين ثار وكتب عنه فى إحدى المجلات "يا سادة أن الشيخ الذى تعشقون صوته يستمع الى موسيقى نصرانية " وبعدها قرر مولانا أن يستمع الى تلك الموسيقى سرا وعندما علمت منيرة المهدية أنه معجب بصوتها ذهبت إليه لتهاديه بإحدى إسطوانتها فقال لها "صوتك جميل يا ست بس بلاش أغانى زى إرخى الستارة اللى فى ريحنا الصوت الحلو نعمة ننشر بها الخير" .
وبقى صوته يملأ الدنيا الى أن جاء يوما كان يقرأ فيه سورة الكهف وتحديدا الآية 22"وأضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لإحدهما جنتين من أعناب وحففنهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا " شعر بغصة فى صوته وكانت تلك اللحظة على حسب ما وصف من أصعب لحظات حياته والتى شعر فيها بالإنكسار لأنه أيقن أن تلك هى أخر مرة سيقرأ فيها القرآن فقام من مكانه وأنكس رأسه وهنا إنفجر كل من كان يستمع إليه فى البكاء وقرر الأطباء إصابته بورم حبيث فى الحنجرة ولأنه لم يكن يملك ثمن علاجه قام صحفى بالأهرام بعمل حملة تبرع له لكنه رفض كل التبرعات وطالب بردها وكان يبيع أثاث بيته لينفق على أسرته وعلاجه وعندما علم طبيب ألمانى من عشاق صوته بحالته جاء الى مصر مخصوص لعلاجه إلا أن المرض كان قد تمكن منه حتى توفى عام 1950 تاركا لنا تلك المنحة الربانية التى تتجلى فى صوته حتى وإن كانت فى تسجيلات محدودة لأن أغلب تسجيلات الشيخ رفعت للأسف منزلية حيث سجلها له زكريا باشا مهران ولكن نظرا لضعف التقنية إنذاك فإن أغلب تلك التسجيلات مشوشة وضعيفة وقد قام هو بنفسه بتنقيتها وإهدائها للإذاعة وأظن أن تلك هى التى نستمع إليها الأن والتى رغم ندرتها وضعفها إلا إنها تبقى دائما ملاذا لمحبيه وعشاقه الذين يشعرون بروح القرآن من صوته .