" 393.8 ألف شخص يعانون من أشكال العبودية في مصر".. تلك المعلومة كشف عنها تقرير أعدته مؤسسة "ووك فري"، التي يوجد مقرها في أستراليا.. والتي أكدت أن 36 مليون شخص يعانون من أشكال "العبودية الحديثة" في أكثر من 167 دولة.. ويأتي مفهوم العبودية الحديثة من وجهة نظرهم هي الحرمان من الحرية الشخصية بغرض الاستغلال، ويشمل هذا التعريف الواسع العديد من الممارسات المرتبطة بالعبودية، مثل الإتجار بالبشر، والعمل القسري، وعبودية الدين، والزواج القسري، والاستغلال الجنسي لأغراض تجارية، وبيع الأطفال واستغلالهم.. تحقيق: محمد فتحي تصوير: محمود شعبان بصرف النظر عن مدى صدق أو كذب هذا التقرير ولكنه طرح لدينا تساؤلا.. هل مازال في مصر عبيد؟.. وإذا لم يكن هناك وجود لهم فماذا عن نسلهم؟.. بحثنا عن إجابة لتلك الأسئلة من خلال البحث عن القبائل العربية التي جاءت إلى مصر وجلبت هؤلاء العبيد منذ الفتح الإسلامي وحتى القرن التاسع عشر.. ووجدنا لتلك القبائل بقايا.. مثل عرب الطحاوية بقرية جزيرة سعود بمحافظة الشرقية.. والمفاجأة أننا وجدنا أن بقايا العبيد مازالوا موجودين بالفعل لدى تلك القبيلة.. وإن كانوا أحرارا ولكنهم مازالوا محتفظين بالعادات والتقاليد والحياة التي ألفوها وورثوها عن آبائهم وأجدادهم.. ويتميز المجتمع الذي يعيش في جزيرة سعود بعادات مختلفة كثيرة.. ومن خلال زيارتنا لتلك القرية اكتشفنا الكثير من حكايات بقايا عبيد مصر والتي نتعرف عليها في السطور التالية... الجماعة السمر الوصول إلى جزيرة سعود لم يكن سهلا.. فقد استغرقنا أربع ساعات كاملة من القاهرة ووصولا إلى مدينة الحسينية بالشرقية ثم الوصول إلى جزيرة سعود، وكان هدفنا الأول هو البحث عن هؤلاء العبيد، ففكرنا في السؤال عن أحد كبار عائلات الطحاوية حتى يدلنا عليهم، فوجدنا رجلا في الستينيات من عمره أسمر الوجه سألناه عن الطحاوية فوصف لنا الطريق، ثم سألناه عن عائلته هو فأجاب قائلا: لا أنا لست من عائلة أنا من الجماعة السمر"، استفسرنا منه هل يقصد العبيد، فقال: نعم، ولكنه كان حادا جدا في الحديث معنا ومتحفظا في كلامه، لم نحصل منه على كلام سوى أن اسمه مبارك وأنه لديه 60 عاما، واكتفى بالقول: أنا ولدت هنا ويطلقون علينا لقب" الجماعة السمر" أو" الحبة السمراء"، وأنا أمّي ولا أريد أن أتحدث. وأكد لنا أننا سنجد مثله في نفس الشارع، وقد قابلنا آخرين ولكنهم كانوا على نفس تحفظ مبارك في التحدث، ومنهم فتاة كانت تكنس أمام أحد المنازل وأكدت أن والدها في عمله وتركتنا ودخلت منزلها ورفضت التحدث ولكنها أكدت أننا سنجد ما نبحث عنه في بيوت العائلات، وآخرون رفضوا الحديث معنا ولكن بعضهم أكد أنهم يفضلون لقب" الجماعة السمر" عن كلمة عبيد، حتى لا يفهم أى أحد أنهم في استعباد، كما أنهم راضون بوضعهم ويرونه أفضل من الفلاحين، حيث أكد أحدهم أن الفلاح الأبيض يغير من السمر لأن لديهم امتيازات ليست لأحد آخر سواهم، ويؤكد بعضهم أنهم من نسل العبيد الذين كانوا منتشرين في مصر قبل إلغاء العبودية منذ أيام الخديو إسماعيل، وقد تم تحريرهم وإن بقى بعضهم على وضعه ولكن بدون عبودية واستعباد، ويؤكد أحدهم أن المعاملة تغيرت عن زمان، فأجدادهم وآباؤهم كانوا يجدون قسوة في التعامل من سادتهم، ولكن الأوضاع تحسنت بعد ذلك كثيرا. الأدب هو الذي يسيطر على التعامل بين العبد والسيد حسبما أكد أحد هؤلاء السمر الذي تحدث بإيجاز بعد أن أشار إليهم أحدهم ألا يتحدث ولكنه قال: الطحاوية لا يجعلوننا نحتاج إلى شيء، فيوفرون لنا كل طلباتنا ويحموننا ونحميهم، ونخدمهم بعيوننا، ونعمل معهم بدون سخرة، ولكن كل واحد يتقاضى الأجر عن عمله، ولذلك من الممكن أن نضحي بحياتنا من أجلهم لأن فضلهم علينا كبير ، كما أن التعامل معهم بالطبع بكل أدب واحترام، فلا يمكن أن أجلس وكبير العائلة يكون واقفا، أو أن أشرب سجائر أمامه. ..... عادات وتقاليد استكملنا طريقنا حتى وجدنا محمد سعيد يقف أمام منزله.. وهو شخص آخر من الجماعة السمر.. لم يكن بنفس تحفظ مبارك والآخرين.. بل رحب بنا ودعانا لتناول الشاي بمنزله المتواضع وجلسنا على" حصيرة" وتحدث عن حكايات هؤلاء العبيد أو السمر مثلما يفضلون.. فقال: عمري 60 عاما، ولدت في جزيرة سعود، وأصل عائلتي من قرية" الحليلة" بالسودان، وجاء إلى هنا الكثير من السودانيين والأحباش، أيام محمد علي، وفتوحات إبراهيم باشا، فجاءوا مصر وبالتحديد مع عرب الطحاوية الذين كانوا يحاربون في جيش إبراهيم باشا، وأصبح هؤلاء السودانيين والأحباش عبيدا هنا، ولكنهم تحرروا منذ فترة كبيرة، ولكن تبقى تبعيتهم لعائلات العرب، فهم أحرار، ولم يعد أى أحد يقول لأحد يا سيدي، فأنا حر وسيدي ربنا، ولكن بقت الكثير من الطقوس والعادات والتقاليد، ومنها أن الأسود لا يتزوج من العرب، فالعرب يطبقون مثل لديهم وهو" ياكلها التمساح ولا ياخدها فلاح"، فهم يرفضون تزويج بناتهن لشباب الجماعة السمر أو الفلاحين الذين يعيشون معنا في البلد، أو العكس، ولكن لو أحد السمر أو الفلاحين أحب بنتا من العرب فمن الممكن أن يهربوا ويكتب كتابه عليها، وهي تترك المنزل، وهذا حدث من قبل، ولكن بشكل عام العرب يتزوجون من بعضهم ونحن أيضا نفعل ذلك، فنتزوج من بعضنا، فهناك تشدد بالطبع في ذلك، وهذا عُرف اعتدنا عليه، فكما كانوا يقولون زمان" العبد لا يتزوج من بيت سيده والسيد لا يتزوج عبدته"، ويقولون عليها عبدة وليست إماء أو جارية لأننا لسنا في زمن الكفار، كما أن الجماعة السمر في حماية الأسرة التي كانوا عبيدا لديهم، ويتوارثون ذلك، ويبحثون لهم عن عمل، ولكني أنا شخصيا حر وأعمل في أعمال باليومية مثل العمل في مجال الخيل المشهورة به القرية أو رفع الرمال أو غير ذلك، ويوميتي حوالي 70 جنيها ولكنهم يكفوني ويكفون أسرتي الحمد لله. وبعد إعداد الشاي استكمل الرجل الأسمر حديثه وهو يستعيد الذكريات قائلا: كان زمان هناك استعباد ولكن الآن كل واحد يعمل أي شيء بمزاجه، فمنذ أيام جمال عبد الناصر وأصبح هناك حرية، ولو هناك جماعة سمر يخدمون عند أصحابهم في العائلات فبرضائهم، لأن الأسمر مسئول من رب البيت، كما أن من عاداتنا أن نسمي أبناءنا وبناتنا أسماء مفرحة حتى تكون بمثابة فرحة لأهلها، فمعظم أسماء أولادنا تجدها فرحة وبخيتة وفرحانة وسعدية ومسعدة وسرور ومبروك وسعد ، وأنا حفيدتي اسمها فرحة، وهي عادة قديمة جدا، حيث كان العبيد يطلقون تلك الأسماء المفرحة عكس أسماء أبناء أسيادهم والتي كان منها عبد الجبار وعبد القوي وفزاع، فكان من لديه عبيد يطلق عليهم أسماء مفرحة من أجل التفاؤل، ويقولون" نسمي عبيدنا لنا ونسمي أبناءنا لأعدائنا"، حتى يخاف أعداءهم من أسماء أبنائهم. ...... قعدة المصطبة الجماعة السمر لا يعرفون المشاكل وعندما تحدث مشكلة لا يلجأون إلى الشرطة بل لديهم قانونهم العرفي الخاص بهم.. فيقول محمد سالم- أحد أفراد الجماعة السمر 60 عاما-: نحن دائما نحب السلام مع بعضنا ولا ندخل في مشاكل مع بعضنا، ولكن إذا حدث ذلك فنعقد" قعدة مصطبة" لحل مشاكلنا، ونختار كبير لنا ليحكم بيننا، ومن يخطئ يقبل رأس من له حق، فكل شيء يتم بالتراضي، ولكن لو كان الخطأ كبيرا يكون الحكم بالفلوس، ونقللها بعد ذلك، فنحن أهم شيء لدينا الطيبة والتسامح، والأهم من كل ذلك أن كل واحد فينا حر نفسه، فأنا أعمل سائق حر، وكان أهلنا يعملون عند العرب، والآن كل واحد يعمل لديهم برغبته فليس هناك إجبار، ولكنهم ورث يرثونه من جد الجد، كما يوجد لهؤلاء العبيد وجود أكثر في محافظات الصعيد، سواء أسوان أو أسيوط أو بني سويف أو سوهاج، وكانت تتباهى كل عائلة بعدد العبيد لديهم، ولكن يجب أن أوضح أنه إن كان هناك عبيد فلا يوجد بيع للرقيق، فهؤلاء فقط أسر معينة رضوا بوضعهم واستمروا فيه بسبب استفادتهم من هذا الوضع، وأبناؤهم ولدوا وجدوا أنفسهم هكذا، والحمد لله لا يوجد ظلم، ولا يشعر أحد من الجماعة السمر أن كبار العائلات أسيادهم، فالعلاقة بينهم ليست علاقة عبيد وسيد مثل زمان، ولكنها علاقة محبة وتقاليد توارثناها، كما أن رب الأسرة مسئول عن عبيده ويتكفل بتربية أبنائهم ويكون مسئولا عن مصاريف الزواج وتوفير كل ما يحتاجه وتوفير السكن والكسوة، بجانب حمايته لأنه ينظر إلى العبد على أنه واحد من عائلته فإذا اعتدى عليه أحد يعتبر بذلك اعتدى على كرامة العائلة ومن الممكن أن تحدث معارك بسبب ذلك. الولاء والاحترام العبيد يدينون بالولاء والاحترام لعائلات الطحاوية، فهم يعتبرون جزءا من العائلة مثلما يؤكد محمد عبد الجواد.. والذي يقول: العبيد يخدمون في منازل العائلات، ويعتبرون ولاءهم واحترامهم لهم أهم شيء، والعائلات أيضا يعاملون الجماعة السمر باحترام شديد ويعتبرونهم جزءا منهم، ولا يتخلون عنهم أبدا، فلا تجد عبدا لا يعمل أو لا يجد ما يحتاجه من أكل أو ملبس، لأن ذلك يقلل من العائلة نفسها، ولذلك فالعبيد مرتاحون في حياتهم الحمد لله ويصرون على الأعراف السائدة في القرية، كما أن من الأصول لدينا أن العبد يربي أبناء سيده لو توفى ويعلمهم التعامل مع الخيل والقنص، ويكون مسئولا عنهم، وهذا يحدث أيضا في حالة سفر أبناء العائلة للعمل أو التعليم فمن الممكن أن يرسل والدهم معهم أحد العبيد لرعايتهم، بجانب الاهتمام بالمنزل والأراضي الزراعية وكل ممتلكات العائلة، وهناك مهام أخرى للجماعة السمر، مثل المشاركة والمساعدة في قنص الصقور التي تشتهر بها جزيرة سعود وتربية الخيل، وكبيرة السن منهم لقبها" حنة" وهي كلمة جاءت من" حنيّتها" على الأولاد حيث إنها تربي أبناء وبنات العائلات، وهناك من الجماعة السمر من يعمل في الزراعة أيضا، كما أن المرأة العبدة تعامل بكل احترام وليس كما يصور البعض في الأفلام أنها مهانة أو يعتدي عليها أحد، بل تعيش كالحرة ويحترم الجميع كرامتها