غادر الخطيبان سيارة الأجرة فى وسط المدينة .. فأتجها إلى محل الحلوى الذى تعرفا فيه لأول مرة وتناولا واقفين بعض قطع الجاتوه وهما يتضاحكان , برنامج الحب كل اسبوعين يبدأ عندهما دائما بهذا المحل الذى جمع بينهما على غير انتظار . غادراه فسارا فى الشارع ببطء وهما يتهامسان وتواصل حديثهما بلا انقطاع ، ثم قررا دخول السينما ولا يختلف الامر كثيرا عن سيرهما فى الشارع .. ففى داخل العرض سوف يتواصل همسهما الخافت إلى مالا نهاية ، وقد يخرجان منها دون أن يعيا شيئا من أحداث الفيلم .. وغادرا السينما فتمشيا سويا ثم ركبا سيارة أجرة فأعادها إلى بيتها وعاد سعيداً منتشيا إلى بيته . سيمضى معها كالعاده ظهر يوم الجمعة ويتناول الغداء عندها ، وستخرج معه إلى محطة القطار ثم تودعه على رصيف القطار حتى يغيب عن الأنظار. الحب شىء ثمين يستحق العناد من أجله ، فلا بأس بأن يتحمل انتقاد أمه وشكواها من أنه يقضى إجازته مع " الهانم " أكثر مما يقضيه مع أبويه ، ولا بأس أيضا بأن يتحمل راضياً سخريتها الخفيفة وتساؤلها الدائم عن سر السحر الذى سحرته به هذه الفتاة ليظل ملهوفا عليها هكذا .. الحب سحر فى حد ذاته يا أمى أما الجمال الذى تلمحين إليه كلما تساءلت هذا التساؤل فليس لى من جواب عليه سوى إنى أراها أجمل الجميلات .. وإن لم تصدقينى فخذى عينى وأنظرى إليها بهما ...استراح لأفكاره ففتح الباب ودخل فوجد أبويه جالسين فى الصاله فى مجلسهما المعهود أمام التلفزيون وتلقى نظره أمه العاتبة وعبارتها الموحيه, ثم دخل إلي غرفته ليغير ملابسه .. قال لنفسه : أمى تحبنى وهى نفسها مثال للحب الذى تتعجب منه , لكن حب الام لأبنائها قد ينسيها أحيانا بعض حقوقهم فى الحب...ويثير حبهم للاخريات غيرتها الغريزية ..كل تصرفاتها تنطق بحبها لأبى وكل تصرفات أبى تؤكد نفس الشىء..حتى أنا لم أفهم مغزى مبادرتها بطلب التقاعد من عملها حين أحيل أبى على المعاش إلا حين شرحته فتأتى وقالت لى أنه أكبر دليل على الحب العميق... طالت غيبته بعض الشىء فى غرفته فقالت الأم لزوجها : لم يسترح من عناء السفر .. وأنهكته " الهانم " بالخروج والنزهه وليتها جميلة بعد كل هذا العناء .ولكنه أعمى ! فداعب الأب مسبحته وقال لها مصطنعاً الجدية : العمى مرض وراثى فى أسرتى ..ألا ترين أننى أحببتك حين خطبتك وظللت على حبك حتى الان برغم أنك لم تكونى جميلة ؟ فلم تتمالك نفسها من الضحك والابتهاج لكلماته وقالت راضيه " سأتجاوز عن طول اللسان مقابل الكلام الحلو الذى سبقه .. ربنا يكرمك " ، فربت على يدها مشجعاً " لقد كنتى جميلة الجميلات وأنت متعة بصرى واطمئنان قلبى ورفيق عمرى .. اختلطت خيوطى بخيوطك فجدلت حبلا واحداً يصعب فصمه ووقفتى إلى جوارى فى كفاح الشباب وفى كل محن حياتى ... وواستنى فى أحزانى وسعدتى بأفراحى وقمت بطلب التقاعد مختارة حتى لا تتدعينى للوحدة و الفراغ حين أحلت للمعاش ، لم أطلب منك ذلك بل وعارضت فيه لكنك غلبتنى بحكمتك .... فقالت له : عملت بما فيه الكفاية ، ومعاشى ومعاشك يكفلان لنا حياة كريمة .. وأبنانا تخرجا وعملا وآن لنا ان نستمتع بصحبتنا وحياتنا معا التى شغلتنا عنها الشواغل والاعباء ..كما أننى لن أسعد إذا تركتك وحيدا فى الشقة فى الصباح .. عاد الابن الى الصالة فنهضت الأم لإحضار بضعة سندوتشات خفيفة مع الشاى .. وتناولوا طعامهم هانئين وهم يتسامرون ويتنقلون بين السمر وبين مشاهدة التليفزيون ..ومضى الوقت رخياً طيبا حتى قطعت الام مشاهدتها بسؤال إبنها فجأه :برضه لن تتناول طعام الغداء معنا غدا ؟ فأحمر وجه هشام ولم يجد ما يقوله واشفق عليه الاب فنظر إلى زوجته من خلف ظهر ابنه منبهاً وأدركت الام ما أثارته من حرج فى نفس أبنها وارتبكت قليلا ثم قالت كأنها تجيب على نظره زوجها : ربنا يعمل اللى فيه الخير! . ونهضت الى غرفه النوم فالتفت الاب الى إبنه وقال له : أمك ذهبت للنوم فأحكى لى يا بطل ماذا فعلت الليلة مع خطيبتك ؟ تورد وجه الشاب وراح يحكى لابيه وهو صديقه الحميم تفاصيل لقائه بخطيبته وما دار بينهما من حديث .. حتى حديث الحب ، والأب يسمع باهتمام وتشجيع إلي أن سمعا صوت الام ينادى الاب : حسين ألن تاتى للنوم بعد ؟ فنهض الاب متثاقلا وهو يقول لابنه باسما : " الهانم " تنادينى من الداخل ..عن إذنك ! فضحك الابن من قلبه وتبادل مع ابيه تحيه المساء .. ثم راقبه وهو يتجه بجسمه الطويل الذى لم يوهنه السن والذى بدا فى مرحله الشيخوخه أكثر مهابة وجلالا .. ونظر إليه طويلا وهو يغيب خلف غرفه النوم .. نظرة ملؤها الحب .. والإعجاب .. والإحترام .. وأقرأ أيضاً : الحكاية الرابعة والعشرين .. الحب الحقيقى ( 1 ) !