تفرغ البنات من ألعابهن الخاصة , ويسأم الصبية منافساتهم الخشنة , فيجتمع شمل الجميع في دائرة واحدة , ويتصل الحديث وتبدأ الألعاب المشتركة ... ويجمع الود بيننا وبين فريق البنات . فنشعر تجاههن بما نشعر به تجاه رفاق الشارع من الحب والثقة والمودة , ونتصدي للدفاع عنهن إذا تعرضت إحداهن للعدوان أو الإساءة من عابر غريب , ونلحظ بسهولة أن قانون الانتخاب الطبيعي يؤدي دوره المألوف لديهن , فتنعقد الزعامة بينهن لكبري البنات سنا ويكون لها ما " لرئيس الشارع " لدينا من الغلمان من سطوة وتأثيرة علي سائر الأتباع , وهي سطوة طبيعية يفرضها السن والمهارة في اللعب والقوة البدنية التي يدفع بها عنا أذي الغرباء من أبناء الشوارع الأخري . وبمضي الأيام تتعمق العلاقة بيننا وبين فريق البنات ... وتنال زعيمتهن أكبر قسط من حبنا ومشاعرنا , اتساقا مع مكانتها البارزة في مجتمعها الأنثوي ... ثم نفاجأ ذات يوم بغياب الزعيمة عن الشلة , واختفائها المريب من ملاعبنا ونتساءل حائرين عما يعوقها عن الانضمام إلينا , وقد كانت درة الشلة وواسطة العقد فيها , ويجيئنا الجواب مضيفا إلي حيرتنا مزيدا من الغموض , ويقال لنا إنها قد " تخضرت "... ولم يعد مسموحا لها باللعب في الشارع مع الصبيان , ونعجب لهذه الكلمة الغريبة التي تفيد دائماً حرماننا من صحبة كبرى الببنات سناً وأجدرهن بالحب والصداقة ، ونتساءل عن سر العلاقة غير المفهومة بين اللون الأخضر وبين احتجاب زعيمة البنات عنا إلي الأبد ، ونسأل : لماذا لا يقال فى كل مرة عن فتاة غابت عن شلتنا أنها قد " اصفرت " أو " احمرت " ..ولماذا تقال لنا دائماً هذه الكلمة الكريهة عن الاخضرار والاحتجاب عن الرفاق المخلصين ، ونسأل الأمهات عن معنى الكلمة اللعينة ..ويشرحن لنا أن الفتيات لسن كالصبيان ، وأنهن عند سن معينة ينبغى أن يتوقفن عن مشاركة الأولاد اللعب فى الشارع ويقرن في بيوتهن لتعلم أشياء أخرى جديرة باهتمامهن كالطهى والحياكة وأشغال الإبرة ومساعدة الأمهات فى شئون البيوت استعداداً لأداء دورهن الخالد فى الحياة . ونأسف كثيرا لظلم الآباء والأمهات وعدوانهم الطاغي علي حقوق الطفولة , لكن أسفنا يتضاعف أكثر حين نلحظ ما طرأ علي الفتاة نفسها من تغيرات غريبة بعد قليل من اختفائها عنا , إذ نراها ذات يوم عابرة للطريق مع أمها فنتهلل لرؤيتها ونندفع إليها لنحييها بحرارة ونسألها عن سر غيابها عنا , فنفاجأ ببرودها الغريب معنا وتحفظها في الحديث إلينا , ثم تمضي إلي طريقها سائرة في رزانة كريهة غير عابئة بنا وبمشاعرنا الجريحة , ونشعر نحن بأن خيوطنا معها قد انقطعت للأبد , ونأسف لذلك كثيرا ثم تشغلنا مشاغل الطفولة عن الزعيمة السابقة ... وتنضم للشلة فتيات جديدات , ونتوجه بمشاعرنا واحترامنا للزعيمة الجديدة التي خلفت علي العرش الخالي تلك التي خانت عهد الطفولة معنا ولم نعد نراها بعد ذلك إلا في صحبة أمها ... فإن صادفناها ذات مرة ... نظرت إلينا في تعال كريه وكأنها " سيدة " تعامل أطفالا لم يشبوا بعد عن الطوق ... ونندمج في حياتنا وشئون شلتنا إلي أن نفاجأ ذات يوم آخر باختفاء الزعيمة الجديدة عن الشلة , ونسمع من جديد تلك الكلمة العجيبة عن " الاخضرار " والاحتجاب في البيت ... وتحتاج العقول الصغيرة بعد ذلك إلي سنوات طويلة لكي تعرف المعني الصحيح للكلمة , ومغزاها الخطير , وتفهم بعد فوات الأوان أن الوصف السليم للفتاة التي احتجبت عن ملاعبنا هو أنها قد " تخدرت " أي دخلت خدرها وبيتها ولم يعد مسموحا لها بمصاحبة الصبيان في ملاعبهم وملاهيهم , وأن الفتاة " المخدرة " هي تلك التي ألزمت الخدر أو البيت وليست تلك التي أصبح لونها يميل للاخضرار ! لكن القلوب الغضة تتلقي الإشارة قبل أن تفهم العقول بوقت طويل وتدرك بحسها الفطري أنها قد تعاملت من حيث لا تفهم مع إحدي حقائق الحياة ! وأقرأ أيضاً : الحكاية الحادية والعشرين .. القدم العارية !