يا إلهى ! ..ما هذه المتعة الثمينة التى نرتوى بها ونحن نشاهد فقرات هذا العرض الساحر ؟! .. ساعات وساعات ونحن مشدودون إلى هذه الحلبة الدائرية .. نستمتع بمشاهدة الألعاب الغريبة من أكروبات .. ومشى فوق السلك .. ودوران فى الهواء قبل السقوط فى كرسى من الحديد يحمله أكبر أبناء صاحب السيرك فوق رأسه .. وترويض للأسود داخل قفص حديدى يجرى بناؤه أمامنا قبل العرض وإزالته بعده ، والحارس يطوف حول القفص شاهراً مسدسه المخيف تحسباً لأية مفاجأة من جانب الوحوش الضارية .. يتخلل كل ذلك فقرات لنجوم صغار فى مثل أعمارنا .. لكن هيهات أن ننجح نحن فى أداء بعض ما يؤدونه من حركات رياضية صعبة ، أو يقومون به من ركوب للدراجة ذات العجلة الواحدة ولا مقعد لها ! ..فإذا كنت قد غبطت أحداً فى طفولتى وتمنيت لنفسى مثل ما أوتى من حظ سعيد فى الحياة .. فلقد كانوا هؤلاء النجوم الصغار من لاعبى السيرك بملابسهم الفضية الزاهية ، وجرأتهم على مواجهة الجمهور ، .. واستمتاعهم بتصفيقه وإعجابه .. وظللت على انبهارى بهم وإكبارى لهم إلى أن رأيت بعد ذلك أحد هؤلاء النجوم الصغار يؤدى تدريباً نهارياً فى حلبة السيرك ، ولمست كمّ العذاب والمعاناة التى يتكبدها لإتقان هذه الألعاب .. وأبوه لا يتعامل معه كلما أخطأ فى حركة إلا بالعصا الموجعة التى تفجر صرخاته مع السباب الفاحش .. فحمدت الله على خلوى من المواهب ورضيت بأقدارى التى حرمتنى من تصفيق الجماهير ! . كما تتخلله أيضاً فقرات لتدريب الكلاب ، وفقرات غنائية جميلة .. منها فقرة فكاهية برع في أدائها أحد أبناء " الحلو " واسمه " حسن " .. وكان يقوم فيها بغناء أشهر الأغانى العاطفية وقتها بكلمات فكاهية تثير ضحكاتنا وإعجابنا .. ناهيك عن فقرة مهرج السيرك الذى يظهر من حين لآخر فينتزع ضحكاتنا الصافية .. وفقرة الحمار الجامح الذى يأبى أن يركبه أحد .. ويفشل عمال السيرك فى الإمساك به ، ويتطايرون أمامه قافزين فوق المتفرجين لكيلا يدهمهم فى طريقه ويصرع الجميع .. قبل أن يغادر الحلبة منتصراً فى كبرياء ! . ثم يجيء مسك الختام قرب الواحدة بعد منتصف الليل ، ويدخل عمال السيرك فيفرشون على أرضية الحلبة المتربة بساطاً رثاً لا نكاد نعرف لونه من كم التراب الذى يغطيه .. فيكون ذلك إيذاناً ببدء " الرواية " كما كنا نسميها فى ذلك الحين .. وهي مسرحية قصيرة تستغرق نحو الساعة يقوم بأدائها نجوم السيرك الذين أدوا من قبل أخطر الألعاب .. ويحل فيها البساط القديم محل ستارة المسرح .. فإذا فرشت على الأرض فقلد بدأ الفصل الأول .. وإذا طويت فلقد انتهي الفصل ..وهكذا .. ومن هذه " الرواية " سوف تتسلل إلي نفوسنا بذور حب المسرح والأدب والتاريخ .. وفيها سوف نشاهد هارون الرشيد يتداول مع وزيره جعفر البرمكى فى شئون الدولة .. قبل أن يقلب له ظهر المحن وينكبه وينكب معه البرامكة كلهم .. أو نرى ملكاً مهموماً بأمر ابنته الشابة العليلة التي عجز الأطباء عن علاجها ، وتأبى البوح بهمها لأحد ، وترفض كل من يتقدم إليها طالباً يدها لأن قلبها أسير الحب لفتى أمين .. لكنه للأسف من أسرة نازعت أباها فى ملكه ذات يوم ولا أمل فى قبوله إذا تقدم طالباً يدها .. وسواء أكانت أحداث الرواية تجرى في عصر الرشيد أو في العصور الوسطى أو الحديثة فلسوف يختار البطل الشاب الذى يقوم بدوره دائماً أكبر أبناء صاحب السيرك – واسمه محمد كأبيه – لحظة مناسبة لكى يطلق فيها رصاصة من مسدسه فى الأرض فتنخلع لها قلوبنا الصغيرة ويتطاير شررها النارى أمام أعيننا ويثير فينا الرعب ! أما كيف يتسق تاريخياً استخدام المسدس فى نزاع بين هارون الرشيد وأحد خصومه ولم يكن قد أخترع بعد .. فليس ذلك مما كان يعني البطل الذى يهمه فقط أن يحقق أقصى درجة من الانفعال الدرامى بالحدث بين المشاهدين ! . ونغادر عالم السحر والفن والجمال ونفوسنا سعيدة بانتصار الخير وهزيمة الشر .. ومترعة بالبهجة والارتواء .. ولكن يخالطها شيء من الأسى والشجن لانقضاء المتعة التى لا يجود بمثلها الزمان كثيراً ، ولا يتاح لنا أن ننهل من نبعها سوى مرتين أو ثلاث كل عام . وأقرأ أيضاً : الحكاية السابعة عشرة .. موسم الابتهاج ( 1 ) ! الحكاية الثامنة عشرة .. موسم الابتهاج ( 2 ) !