في كل مرة كنت أشارك فيها في أحد معارض الكتاب العالمية أو حتي العربية، كنت أعود دائما حزينا مهموما، أشاهد التنظيم والمظهر الحضاري، والانضباط في كل شيء ومستوي الخدمات المرتفع، يقابله لدينا فوضي وتسيب، حتي ارتبط اسم معرض القاهرة الدولي للكتاب في العقدين الأخيرين بكل صور الانفلات، وكأن الأمر عصي علي دولة بحجم مصر، دولة عظمي بالمعايير الثقافية، أن تنظم معرضا للكتاب يليق باسمها وبكون معرضها هو الأقدم عربيا، ومن المعارض » الميجا » من حيث عدد من يرتادونه سنويا، ويقدرون بعدة ملايين.. في العقدين الأخيرين تراجعت مصر ثقافيا، في وقت نمت فيه دول الجوار الخليجية وحققت طفرات في تنظيم معارضها علي أسس احترافية، وهيأت لها الظروف والمناخ، حتي أصبح مثلا معرض الشارقة الدولي للكتاب أحد أهم أربعة معارض علي مستوي العالم لتبادل حقوق النشر، كما خطت الشارقة خطوة استثنائية، كانت مصر أولي بها، عندما أنشأت أول مدينة حرة للنشر علي مستوي العالم وقدمت كل التسهيلات وأزالت كل العقبات لجذب دور النشر العالمية لتتخذ من الشارقة منصة حرة للنشر في كل دول المنطقة، لا نعيب علي الأخوة في الشارقة، ولكن نعيب علي أنفسنا عندما نفعل العكس علي طول الخط ونترك صناعة النشر في مصر تواجه مصيرها المحتوم، أمام ارتفاعات قياسية في مستلزمات الطباعة وأسعار الورق، وجمارك، وغيره قد تسمع أحدهم يقول إنها سلعة مثل أي سلعة، وما يسري علي أي منتج يسري عليها من حيث معايير الربح والخسارة، ولكن القراءة الواعية لما مررنا به في العقود الأخيرة تؤكد أن بناء وتشكيل العقول هو الأهم والأولي لكي نستثمر فيه، لأنك إن تركت الساحة خالية دون أن تكون فاعلا بتشكيل عقول الأجيال الجديدة بإتاحة كل نتاج الفكر الإنساني، ستجد آخرين يملأون هذا الفراغ، وساعتها لا تلومنَّ إلا نفسك. المهم أنه أخيرًا حدث ما كنت أتمني، وانتقل معرض الكتاب من زمن الفوضي والتسيب، وعلب الكشري والحلبسة، وتزوير الكتاب، إلي زمن جديد أتمني أكثر رقيًا وتحضرًا في قاعة المنارة بالتجمع الخامس.. قد يكون المكان بعيدًا ولكنني أدعو كل رب أسرة مصرية أن يصطحب أولاده في رحلة ستبقي محفورة في وجدانهم إلي الأبد، بذهابه إلي معرض الكتاب، تجول مع أولادك بين الأجنحة وناقش كل ابن من أبنائك في عنوان كتاب استوقفه، واشتره له، احضر معه ندوة، واجعله يستمع إلي ما قد يغير حياته، اعرج به علي معرض من المعارض المنتشرة في جنبات المعرض، شاهد معه أحد عروض الفنون الشعبية، ازرع في قلب أولادك حب الكتاب والمعرفة، والثقافة، تزرع فيهم الأمل وتضمن مستقبلهم.