بعد أسابيع (تحديدا في 27 يوليو المقبل) تحل الذكري العاشرة لرحيل واحد من أهم صناع القوة الناعمة في هذا الوطن، المخرج السينمائي الكبير يوسف شاهين، وبهذه المناسبة التي قررت الاحتفال بها مبكرا قليلا، أذكر القرّاء الأعزاء بواحدة من أهم وأغرب المغامرات الإبداعية لهذا الرجل، ففي مطلع تسعينيات القرن الماضي عرضت عليه إدارة مسرح »الكوميدي فرانسيز»في باريس أن يغادر مؤقتا مملكته السينمائية ويختار نصا مسرحيا يتولي هو إخراجه ليعرض ضمن برنامج عروض هذا المسرح الفرنسي العتيد، وقتها حسب ما أظن لم يتردد شاهين كثيرا قبل أن يوافق ويبلغ إدارة المسرح بأنه اختار مسرحية »كاليجولا»بالذات التي يعتبرها كثيرون واحدة من أبرز وأقوي إبداعات الكاتب والروائي والمسرحي الفرنسي ألبير كامو (1913 1960) لكي تكون موضوع مغامرته المسرحية. لقد كان كامو نفسه انتقي، وهو بعد في بداية بواكير إبداعه وشبابه، سيرة الامبراطور »كاليجولا»الذي حكم روما أربع سنوات (من سنة 41 إلي 37 ق.م) متوسلا بطغيان وجنون ديكتاتوري مطلق، لكي تكون هذه السيرة ذريعته لاقتحام العوالم النفسية المعقدة للحكام الذين يأخذهم غرور السلطة المطلقة إلي درجة الخبل العقلي الكامل. وعند العبد لله فإن الأسباب التي وقفت وراء اختيار كل من يوسف شاهين وألبير كامو، قصة هذا الامبراطور الروماني الذي صار اسمه، بالزمن، دالا بذاته علي أنماط حكم وحشي سادر في العبث واللامعقول، هي أسباب متشابهة تماما.. فالبنسبة لكامو نجده قد كتب هذه المسرحية في العام 1938 بينما كانت أوروبا في قلب العواصف النازية والفاشية التي أطلقتها جماعات وقادة ممسوسون بجنون دموي دفعت شعوبهم والبشرية كلها ثمنا باهظا له، من أمثال هتلر وموسوليني أساسا ومن خلفهما اتباع مخلصون من شاكلة فرانكو (أسبانيا) وسالازار (البرتغال). أما شاهين فالأسباب التي أرجحها، لاختياره نص »كاليجولا»، تبدو أوضح من أن تحتاج لأي شرح، إذ يكفي أنه كان يعيش معنا في المنطقة الوحيدة من هذا العالم التي دخلت القرن الواحد والعشرين بينما هي مازالت (وقتها علي الأقل) تحتفظ بناد ضخم يتجمع فيه أغلب الحكام الطغاة والمجانين الباقين علي سطح كوكب الأرض. وأعود إلي »كاليجولا»وأساطير القسوة والشذوذ التي تنسب له، ومنها أنه اعتبر نفسه إلها تمتد سلطته من البشر الذين يحكمهم ويتحكم فيهم إلي نواميس الكون والطبيعة، فمرة يطلب أن يأتونه بالقمر من مرقده في السماء، ومرة أخري يصدر قرارا بتغيير مسار الشمس ويحزن ويبكي بحرقة عندما يجد أنها لم تستجب لقراره وظلت علي عادتها الأبدية، تشرق من الشرق، رغم أنه أمرها أن تولد كل صباح من الغرب!! ومن آيات جنونه وساديته الدموية أنه كان يقول : »عندما لا أقتل أشعر بوحدة قاتلة» و»أرتاح وتستقر نفسي وأنا بين جثث الموتي». كما اعتبر نفسه مميزا بين خلق الله بكونه الوحيد الذي يسرق علنا ومتباهيا، ومن ثم أضحت العبارة المنسوبة له »أما أنا فأسرق بصراحة»، حكمة ومأثرة مستقرة تقال في كبار النهابين واللصوص. ويقال إن من نوادر شذوذ كاليجولا وخبله، أنه لما لاحظ خلو عهده من المجاعات والأوبئة وأن ذلك قد يكون سببا لئلا تتذكره الأجيال المقبلة، قرر أن يصنع بنفسه مجاعة تاريخية لشعبه فأمر بإغلاق مخازن غلال الإمبراطورية وراح يستمتع بصرخات أهل روما من قرص الجوع في أحشائهم!! لقد استفاد »كاليجولا» ككل الطغاة من استسلام شعبه وجميع المحيطين به للخوف وراح يتمادي ويغوص أكثر وأكثر في جنون العظمة حتي ارتكب حماقة، لم تكن الأسوأ بين حماقاته لكنها تفاعلت وتفاقمت نتائجها حتي أودت بحياته في النهاية.. ففي ذات يوم فاجأ الإمبراطور المجنون أعضاء مجلس الشيوخ من أعيان روما بدخوله عليهم قاعة المجلس وهو ممتطيا حصانه، فلما أبدي أحد الأعيان شئ من الدهشة والامتعاض، علق كاليجولا ساخرا : لماذا يبدو هذا العضو الموقر معترضا علي دخول حصاني إلي مجلسكم؟ّ ألا ترون يا سادة أن هذا الحصان يحملني فوق ظهره، وهو شرف يكفيه ليكون موقرا ومبجلا أكثر من السيد العضو الموقر المعترض؟! لم ينتظر كاليجولا جوابا من أحد، بل أجاب هو جوابه المدوي بأن أعلن في التو واللحظة ووسط تهليل واستحسان جيش المنافقين، قراره بتعيين حصانه عضوا في مجلس الشيوخ الموقر!!