«العلاقات التركية - الإسرائيلية».. واحدة من أغرب النماذج التحالفية في المنطقة بل والعالم، ففي الوقت الذي سربت الصحف التركية المقربة للحزب الحاكم في أنقرة أنباء عن عدم استبعاد الخيار العسكري في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية التي قتلت نشطاء قافلة «أسطول الحرية» بدماء باردة ومساندة ضمنية أمريكية بدعوي تورط عناصر من القاعدة والجهاد فيها، نجد وزير الدفاع التركي «وجدي جونول» يكشف عن أن مشروع الطائرة الإسرائيلية «هيرون» لن يتأثر وتركيا تتسلمها من تل أبيب. وتزامنا مع تحذير الصحف الإسرائيلية من أن تصبح بلادها دولة منبوذة و«جرباء».. أدخلت نفسها في حصار دولي. والطائرة الإسرائيلية «هيرون» التي تعمل بدون طيار.. كان الطرفان قد عقدا صفقتها مطلع العام الحالي لشراء عشر طائرات منها مقابل 180 مليون دولار». ما هذا التناقض؟!.. وما حقيقة العلاقات التي تربط أنقرة بتل أبيب؟!.. وعندما حاولنا الإجابة عن مثل هذه الأسئلة توالت المفاجآت.. وكان أكثرها غرابة هو أن الأحداث الدامية، التي شهدها أسطول الحرية في عرض البحر أمام شواطئ غزة، كشف بعض جوانب صدام العثمانية الجديدة بالتهور الإسرائيلي.. وهو صدام يقع في ظل علاقات استراتيجية عميقة تربط تركيا بإسرائيل لا تتأثر كثيرا بتنافس الأدوار.. وتقاطع المصالح المباشرة.. والخلافات السطحية، والتفاصيل الصغيرة للسباقات التي تجري بين البلدين. جذور عميقة والقراءة المتأنية لتاريخ العلاقات التركية - الإسرائيلية تضعنا أمام حقيقة مهمة.. وهي أن هذه العلاقة تتأثر إلي حد كبير بدور كل طرف في خدمة المصالح الغربية عموما والأمريكية علي وجه الخصوص.. كما تتأثر بسعي كل منهما لتحقيق مصالحه الوطنية.. وقد تتلاقي تلك المصالح فتصبح علاقة أنقرة بتل أبيب استراتيجية.. وقد تتباعد فتصبح العلاقة طبيعية.. وقد تتعارض المصالح فتتوتر العلاقات بين البلدين.. وحتي عندما يحدث التصادم بينهما فإن ذلك لا يؤثر في جذور تلك العلاقة العميقة، عموما يذكرنا التاريخ بأن تركيا هي أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل، حيث سارعت حكومة عصمت إينونو عام 1949 بهذا الاعتراف، وتم تبادل السفراء بعد ذلك بعامين، والأهم أن رئيسي الحكومة في البلدين ديفيد بن جوريون وعدنان مندريس وقعا عام 1958 اتفاقا ضد التأثير السوفيتي والراديكالية في الشرق الأوسط.. ورفضت فتح أجوائها للطائرات الحربية الإسرائيلية في حرب .1973 ولكن سرعان ما عادت إلي التحالف مع تل أبيب مع انقلاب 1980 وأعادت سفيرها إلي الدولة العبرية في ظل حكومة تورغوث أوزال عام .1986 ورغم وجود علاقات طيبة بين تل أبيب وأنقرة، فإن هذا لم يمنع رئيس الوزراء التركي بولند أجاويد من استنكار سياسة التطهير العرقي التي مارسها إرييل شارون تجاه الفلسطينيين أثناء الانتفاضة الثانية.. ونظرا لأن العلاقات التركية - الإسرائيلية مرت خلال الستين عاما الماضية بمراحل كثيرة ومتنوعة سنكتفي ببعض جوانبها العسكرية والأمنية.. كما سنقسمها إلي مرحلتين تنتهي الأولي بتولي حزب العدالة والتنمية السلطة في أنقرة عام 2002 وحتي الآن.. ومنذ البداية تطورت العلاقات العسكرية بين البلدين بشكل كبير لدرجة أن تركيا سمحت لإسرائيل عام 1990 بإنشاء محطات للتجسس الأمني علي الدول المجاورة لها.. وبخاصة العراق وسوريا وإيران.. وفي أثناء أزمة الخليج عام 1991 سمحت تركيا للطائرات الإسرائيلية باستخدام مطاراتها العسكرية لأغراض التجسس علي العراق.. وخلال هذه الفترة قامت إسرائيل بتحديث مختلف أسلحة الجيش التركي وأجرت المناورات الجوية والبحرية المشتركة، بالإضافة إلي التنسيق الأمني والاستراتيجي فيما بينهما.. وتبادل الزيارات العسكرية علي مختلف المستويات وفي مختلف الأفرع العسكرية.. وتوجت هذه المرحلة بتوقيع تركيا وإسرائيل علي اتفاقية للتعاون العسكري في 24/2/1996. مكاسب وبموازاة هذه السياسة نشأت علاقات قوية بين أنقرة وتل أبيب توجت بالاتفاق العسكري النوعي بينهما عام .1996 وهو الاتفاق الذي حقق للطرفين العديد من المكاسب.. فتركيا استفادت منه في تحجيم النشاطات الإسلامية داخلها خصوصا بعد تسلم نجم الدين أربيكان - صاحب التوجه الإسلامي - رئاسة الوزراء.. ورأت المؤسسات العلمانية التركية - خاصة الجيش - في ذلك تهديدا للتوجهات العلمانية للدولة.. وخطرا يهدد علاقات تركيا بإسرائيل والغرب.. وحاولت أنقرة مواجهة هذا الخطر بتحالفها مع إسرائيل.. كما استعانت أنقرة بهذا التحالف في مواجهة حزب العمال الكردستاني، واستعانت تركيا بتحالفها مع إسرائيل في ممارسة الضغوط علي جيرانها، خاصة اليونان وروسيا وسوريا.. عن طريق تطوير جيشها بإنفاق 150 مليار دولار علي 25 عاما في إمداد الجيش التركي بأحدث الأسلحة الأمريكية.. ونتيجة لصعوبة حصول تركيا عليها مباشرة من الترسانة الأمريكية نظرا لمعارضة جماعات الضغط اليونانية واليهودية والأرمينية، وبفضل علاقة تركيا المريبة بتل أبيب استعادت أنقرة مكانتها في السياسة الأمريكية في المنطقة، باعتبارها خط الدفاع الأول أمام الخطر الشيوعي.. ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وزوال الخطر الشيوعي.. شعرت النخبة العسكرية التركية بأن أهمية دور بلادهم قد تتراجع في واشنطن.. لذلك سعت أنقرة إلي دعم علاقاتها بإسرائيل بدرجة أكبر علي أمل الانضمام للاتحاد الأوروبي وزيادة دورها الإقليمي. .. وعلي الجانب الآخر حققت تل أبيب مكاسب كثيرة من تحالفها مع أنقرة، حيث باعت إسرائيل لتركيا كما هائلا من مختلف الأسلحة ما بين عامي 1996و.1998 فمثلا تم توريد أنواع مختلفة من الصواريخ الإسرائيلية الصنع للجيش التركي بما قيمته 400 مليون دولار منها صواريخ بوبا «جو - أرض» وصواريخ بايثون - 4 «جو - جو» وقنابل تال.. وغيرها، ودبابات ميركفاه، وتم الاتفاق علي صفقة بين الجانبين لتطوير سلاح المدرعات التركي بما قيمته خمسة مليارات دولار.. وأدت هذه الصفقات إلي إنعاش الاقتصاد الإسرائيلي.. وساعد هذا التحالف الإسرائيلي علي ممارسة ضغوطها علي إيران وسوريا وحماس.. كما ساعد إسرائيل في دعم علاقاتها العسكرية والأمنية بدول آسيا الوسطي وبعض دول الشرق الأوسط. التحول تغيرت تركيا الآن.. ولم تعد كما كانت خلال الحرب الباردة، حيث اختفي التهديد السوفيتي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.. واختفي صدام حسين بعد الغزو الأمريكي للعراق.. وتراجع تهديد حزب العمال الكردستاني بعد تحوله إلي العمل السياسي.. وتراجعت بعض الشيء الآمال التركية في الانضمام للاتحاد الأوروبي، فاتجهت إلي الشرق العربي والإسلامي.. كما تغيرت تركيا من الداخل بوصول حزب العدالة والتنمية - صاحب التوجه الإسلامي - إلي الحكم.. ونجحت حكومته في تحقيق تسويات لقضايا الأرمن وقبرص والأكراد.. كما تمكنت من إيجاد بدائل أوسع للانطلاق في علاقاتها مع أوروبا وأمريكا.. وحل العديد من القضايا في هذا المجال بعيدا عن إسرائيل والتحالف معها.. وذلك بعد أن تأكد الأتراك أنه ليس بمقدور تل أبيب إجبار أو حتي إقناع الاتحاد الأوروبي بقبول عضوية تركيا في الاتحاد.. وفهم الأتراك أن أوروبا تريد منهم بالطبع أن يكونوا علي علاقة طيبة مع حليفتها إسرائيل.. لكن ليس من الضروري أن يكون ذلك - أبدا - علي حساب علاقة أنقرة ببقية دول العالم.. أيضا اقتنع الأتراك بأن إسرائيل ليست صادقة فيما يخص تزويدهم بالتكنولوجيا المتقدمة في المجالين المدني والعسكري.. ووجدوا الحل في الحصول علي هذه التكنولوجيا - التي كثيرا ما حرص الغرب علي أن تكون إسرائيل هي مصدرها الوحيد في الشرق الأوسط - من الصين وروسيا أو غيرهما.. الأهم من ذلك أن لغة المال أقنعت تركيا بالمزيد من التحول.. حيث وجدت أن إجمالي حجم تجارتها مع إسرائيل يقترب من 3 مليارات دولار سنويا.. بينما تجارتها مع إيران تزيد علي تسعة مليارات دولار سنويا.. وتجارتها مع العرب خاصة الخليج تزيد علي هذا الرقم.. وساعد علي تعمق هذا التحول سياسة حزب العدالة الحاكم في تركيا صاحب الأبعاد الأيديولوجية الإسلامية الممزوجة بروح القومية التركية التي يسميها البعض «العثمانية الجديدة». الصدام وبدأت مرحلة الصدامات بين العثمانية الجديدة والتهور الإسرائيلي.. في ظل حرص الطرفين علي استمرار العلاقات العسكرية بينهما بشكل أو بآخر.. وكان من أشهر هذه الصدامات الملاسنة الحادة التي حدثت في منتدي دافوس يناير ,2009 عندما قال رجب طيب أردوغان - رئيس الوزراء التركي - لشيمون بيريز أمام كاميرات الإعلام «أنتم يجب أن تحاكموا بتهمة القتل».. وترك القاعة وخرج.. بعدها وجهت إسرائيل عدة إهانات دبلوماسية لتركيا كان أشهرها ظهور أفيدور ليبرمان وزير خارجية إسرائيل في مؤتمر صحفي مشترك في تل أبيب، وقد أجلسوه علي كرسي منخفض جدا.. وجاء الصدام الأكبر عندما نجحت تركيا والبرازيل في التوصل إلي اتفاق مع إيران حول تبادل اليورانيوم المخصب بمباركة أمريكية.. مما أغضب إسرائيل وزاد غضبها مع تنامي علاقات تركيا مع طهران وسوريا وحزب الله وحماس وقبرص وأرمينيا وروسيا والصين.. وبأسلوب لا يضر بعلاقات الأتراك مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدةالأمريكية، بالإضافة إلي نمو علاقات تركيا بالعديد من التحالفات العالمية والمنظمات الدولية متعددة الأطراف.. مما أدي إلي تعزيز مكانة تركيا كفاعل دولي يمتلك مصادر متعددة للقوة الرخوة التي يستخدمها في مد نفوذه الإقليمي. ولعل أغرب ما في مرحلة الصدام الإعلامي بين أنقرة وتل أبيب.. أن المواجهات الدبلوماسية العنيفة بين الطرفين تخفي في الحقيقة علاقات عسكرية حميمة جدا، يتبادلها الطرفان بعيدا عن الأنظار.. ويبدو أن ما هو معروف ومعلن من العلاقات التركية - الإسرائيلية التي تنمو برعاية أمريكية.. ليست إلا قمة جبل الجليد الذي يختفي تحت سطح الماء.