ما كدت أبرح المرحلة الابتدائية، وأدلف إلي مرحلة الإعدادية حتي تعلمت سرقة الصحف والكتب من إخوتي الكبار طلبة الجامعة، وكانت مجلة "روزاليوسف" واحدة من الصحف التي أنتظرها بفارغ الصبر، وما أن يفرغ أخي الكبير من قراءتها مستسلماً للنوم حتي أخطفها وأنفرد بنفسي في غرفة "الجلوس" التي نسميها اليوم الصالون، لألتهم الوجبة الشهية في جوها الهادئ الوثير، كانت قصص إحسان عبدالقدوس فاكهة تلك الوليمة الرائعة، وكثيراً ما كنت أبدأ بالحلو قبل الأطباق الرئيسية، وأظل في غيبوبة عن الواقع، لا أرد علي نداء للعب ولا ألتفت لإغراء بتسلية حتي أفرغ من قراءة الفصل الجديد، وكان أكثر ما يشقيني أن الكاتب لم يكن ينهي القصة في العدد بل يذيلها بعبارة "فإلي الأسبوع القادم". علي قصص هذا الكاتب الرائع تربي جيلي من الكتاب .. بدأت به هو ويوسف السباعي أولا وعشقت الرواية بسببهما، وحلمت بأن يصبح لي بساط سحري يحملني إلي بستان من الخيال أتجول فيه بين بشر من صنع خيالي وعالم غير موجود إلا في عقلي.. متعة الهروب من الواقع والحياة في تجارب لم تعشها ولقاء أشخاص لم تعرفهم، ولا شك أن روايات إحسان الأولي: أنا حرة، أين عمري، الوسادة الخالية، الطريق المسدود، لا أنام، في بيتنا رجل، شيء في صدري، عقلي وقلبي، البنات والصيف، لا تطفئ الشمس، كان لها وقع السحر علي حياتي.. تعلمت منها أن الحب أروع عاطفة في الوجود وأنها تجعل الإنسان نبيلا شفافا محبا للوجود، وبدونها تتحول حياة الإنسان، رجلا كان أو امرأة، إلي شقاء متصل.. تعلمت من قصص إحسان أن الإنسان يمكن أن يفلت من قفص التقاليد والأعراف، وأن المرأة إن لم تقاوم وتصر علي حقها في الاختيار فسيكون مصيرها مثل علية بطلة "أين عمري"، وأن طريق الانحراف مسدود والمرأة التي لا تحقق ذاتها يمكن أن تحول حياة أقرب الناس إليها إلي جحيم من الفشل المتواصل.. علي عكس ما أشيع عن إحسان كنت أتعلم الفضيلة من رواياته التي تصور تعاسة الانحراف، وعدم جدواه.. رغم أني كنت أراه أكثر جرأة مما أحتمل وفقا لتربيتي المحافظة، وعندما كتبت مقالاتي التي نشرت في مجلة "صباح الخير" تحت عنوان : هي في عيونهم، هاجمت كل الكتاب الروائيين ومنهم إحسان واعتبرتهم قد شوهوا صورة المرأة ولطخوا سمعتها عمدا أو بحسن نية.. ضقت ذرعا بأمينة بطلة روايته "أنا حرة" التي تدلهت في حب المحامي عباس وعاشت معه ثماني سنوات دون أن تطالبه بالزواج.. اغتظت منه لأنه جعلها تتخلي عن قضية المرأة وتتراجع عن المطالبة بحصولها علي حقوقها السياسية، وفي بداية مشوار حياتي كنت أتطلع بشغف لأن أتبع خطي الجيل السابق في طلب الحرية والمساواة، ثم صدمني تهور أمينة واستهتارها بكل القيم، لم أغضب من أمينة فقط بل غضبت من مبدعها إحسان واعتبرت الرواية ذروة الافتراء علي المرأة لأنها تروج صورة فاسدة عن المرأة التي تطالب بحريتها، ولا شك أن إحسان كان يعشق المرأة وقد جعلها البطلة الأساسية لأغلب رواياته، بينما البطل يعيش علي هامشها، ولكن الأزمة التي عايشها في بداية حياته أثرت كثيرا علي رؤيته للمرأة.. ثم قرأت لناقد أعتز به هو المرحوم غالي شكري رأيا علي النقيض تماما من رأيي، ففي كتابه "أزمة الجنس في الرواية العربية" يري الدكتور غالي شكري "أن رواية أنا حرة أنضج أعمال إحسان علي الإطلاق، وأنها ستظل إحدي علامات الطريق إلي اقتحام أزمة الفتاة في مجتمعنا بل إشارة جادة إلي أزمة هذا المجتمع بكامله".. والواقع أن كلا منا علي حق، فأسلوب القصة الذي تغلب عليه التقريرية ولم يتعمق كثيرا في تصوير الصراعات الداخلية لأمينة، صورها علي النحو الذي ذكرته: فتاة مستهترة تسيء إلي المرأة المطالبة بحقوقها، وتجعل من الجنس محور حياتها والغاية الأولي التي تسعي إليها.. وقد اعترف غالي بأن إحسان لم ينفذ إلي التكوين الداخلي لشخصية أمينة وأن الأسلوب الخبري الذي كتب به إحسان تلك الرواية أجهض التجربة. لقد تجمعت في شخص إحسان ونشأته كل تناقضات المجتمع المصري التي بدأت تتشكل منذ العقد الثاني من القرن العشرين، وتمزق في طفولته مابين تقاليد بيت جده لوالده خريج الأزهر حيث المحافظة علي كل طقوس وشعائر ومظاهر وأوامر الدين وحيث التمسك بالتقاليد، وحيث الزوار والأصدقاء من علماء الأزهر الذين يتحدثون في أمور دينية وتتردد علي ألسنتهم كلمتا الحلال والحرام، ومن ناحية أخري كانت والدته فنانة متحررة تبرز للرجال وتخالطهم وتدعوهم لبيتها حيث تتم نقاشات ثقافية وسياسية، وكانت صديقة لكبار الشعراء والأدباء والسياسيين ورجال الفن في زمانها. ولابد أنه كصبي ومراهق عاني كثيرا من ذلك الاختلاف البين لشريحتين من مجتمع واحد، ولابد أنه جاهد كثيرا كي يستعيد توازنه ويشفي من الدوار الذهني الذي كان يصاب به وهو يتنقل بينهما، بل لعله قرر في النهاية أن ينطلق من القفص الذي أريد له أن يحبس فيه، ووجد في بيت أمه وطبيعتها وروحها بستانه الفسيح الأرجاء الذي راح يرشف من رحيق زهراته ويتذوق ثماره ويخرجها عسلا في قصص راجت وشاعت ووجدت قبولا لدي الشباب وجعلته أشهر روائيي عصره بلا منازع. لعل إحسان اعتمد كثيرا علي عنصر المصادفة في قصصه بسبب طغيان هذا العنصر علي حياته وحياة والديه، فقصة والدته روزاليوسف من القصص التي لا تتكرر كثيرا، بل وتوحي بفيلم رائع لا أعرف لماذا لم تنتجه السينما المصرية حتي اليوم.. قصة فتاة يتيمة تفقد والديها في ظروف غامضة، فتحتضنها أسرة صديقة لوالدها، ثم يقرر هذا الصديق أن يهاجر إلي أمريكا ولسبب ما يركب وعائلته باخرة ترسو في الإسكندرية، وبالصدفة يلتقي ذلك الرجل بصاحب فرقة مسرحية هو إسكندر فرح الذي تعجبه الفتاة اليتيمة ويطلب من أسرتها البديلة أن تتنازل له عنها ليتبناها هو، فيوافق صديق أبيها، ويتغير مسار الطفلة فبدلا من أن تهاجر إلي العالم الجديد وتتأثر به وتفقد كل صلتها بجذورها، إذا بالقدر يسوقها لأن تصبح واحدة من أشهر فنانات المسرح في مصر! وتتحول الفتاة من فاطمة اليوسف إلي "روزاليوسف" ومن لبنانية الأصل إلي مصرية تعشق مصر ولا تقبل عنها بديلا ومن ممثلة إلي مالكة لمجلة جريئة لا تعرف التنازلات. أما حكاية الأب فهي أغرب.. لقد رغبت أسرته المحافظة وأبوه الشيخ أن يتخرج في مدرسة المهندسين ليصبح مهندسا بالطرق والكباري، ولكنه وإن أطاع العائلة وسار علي النهج الذي رسموه له، فقد كان يحمل روحا فنانة ويهفو بكل وجدانه إلي ممارسة التمثيل، وبالصدفة يجد الفرصة في حفل في النادي الأهلي ليصعد علي المسرح ويقدم فاصلاً من المونولوجات المرحة.. وبالصدفة أيضا تكون الفنانة الشابة "روزاليوسف" بين الجمهور الحاضر للحفل، ويحدث التعارف وتتآلف الروحان فيطلب منها الزواج غير عابئ بثورة الأب الذي رفض تلك الزيجة وأعلن التبرؤ منه وطرده من بيته.. لقد ارتكب- في نظر الأب- خطيئتين؛ عشق الفن ومارسه وتزوج من ممثلة! ويتمادي الفنان محمد عبدالقدوس فيخلع عنه رداء الوظيفة الميري ليتفرغ للفن ممثلاً ومؤلفاً للمسرح. لعبت جينات الوراثة دورها في حياة ابنهما إحسان.. ذلك الفتي الهادئ الوسيم، الذي خطط له أن يصبح محاميا فعسي أن يصبح واحدا من وزراء ذلك العهد علي حسب ما كان معهودا، ولكنه ما أن يتخرج في كلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1942 حتي يدرك أنه لم يخلق للمحاماة.. إنه يعشق التفكير والتأمل ولكنه لا يجيد المناقشة والحوار ويشعر أنه لن يحقق لروحه التي ورثت الجسارة والطموح والتطلع للأعالي عن والدته أي نجاح في ذلك المجال، وكان قرار التحول إلي الكتابة الصحفية والروائية حيث حقق أحلامه وصار واحدا من ألمع الأدباء العرب.