وزير التنمية المحلية: ختام الأسبوع ال39 بتسليم الشهادات ل159 متدربًا    برلماني: تنسيقية شباب الأحزاب نجوم ساطعة في مصر    بتخفيض50% لأبناء العاملين.. "التعليم" تحدد قيمة المصروفات الدراسية 2025| مستند    الرئيس السيسى يهنئ الملك تشارلز الثالث بذكرى العيد القومى    وزير النقل: المواني المصرية ليست للبيع ونعمل على تطويرها    إعادة 91 حاجا مصريا تائها.. لقاء مع رئيس لجنة التائهين والمفقودات.. فيديو    الرئيس السيسي يوقع قانون فتح اعتماد إضافى بالموازنة بقيمة 320 مليار جنيه    محافظ الغربية يتفقد مشروعات الرصف والتطوير المقترح في جولة ببسيون    إي اف چي هيرميس تنجح في إتمام خدماتها الاستشارية لصفقة الطرح المسوّق بالكامل لشركة «أرامكو» بقيمة 11 مليار دولار في سوق الأسهم السعودية    الهجرة: نسعى لتأهيل وتدريب الشباب للعمل في أوروبا وخلق الفرص البديلة    التحقيقات الأولية بحريق مبنى العمال الكويتي تكشف تفاصيل صادمة    الصحف العالمية.. بايدن بعد إدانة نجله فى قضية حيازة السلاح: فخور به.. أسترالى يعرض خطة إدخال 10 آلاف طن مساعدات يوميا لغزة.. واشنطن ترسل صواريخ باتريوت لأوكرانيا.. ونشطاء يشوهون أول صورة رسمية للملك تشارلز    مراسل القاهرة الإخبارية من معبر رفح: إسرائيل تواصل تعنتها وتمنع دخول المساعدات لغزة    نقيب الصحفيين الفلسطينيين: مصر وإعلامها يساندان شعبنا منذ اليوم الأول للحرب    أوروبا تعتزم فرض رسوم جمركية بمليارات اليورو على السيارات الكهربائية الصينية    العمل العربية: الجرائم التي ترتكب في حق أطفال غزة وصمة على جبين المجتمع الدولي    مدرب جنوب إفريقيا يعلن إصابة بيرسي تاو    مدرب برشلونة يحرض كيميتش ضد بايرن ميونخ    دورة الترقى المؤهلة للدورى تدخل أيامها الحاسمة.. حرس الحدود في ضيافة السويس من أجل الاقتراب خطوة مهمة نحو التأهل.. الترسانة في مواجهة نارية مع سبورتنج للحفاظ على الآمال    تأكد غياب لاعب وسط ألمانيا عن لقاء الافتتاح    يورو 2024 - كليمون توربان حكما للافتتاح بين ألمانيا واسكتلندا    السعودية تمنح 140 حاجًّا تصريحَ حج «وقعوا ضحية لحملة وهمية»    هيئة الدواء المصرية تكشف إجراءاتها لتأمين دواء المصريين فى عيد الأضحى    حتى أبو الهول حران.. الموجة الحارة في كاريكاتير اليوم السابع    السيطرة على حريق مصنع كيماويات فى العاشر من رمضان    افتتاح 6 عروض بالقومي والكوميدي والعرائس خلال العيد    ل برج الأسد والحمل والقوس.. ماذا يخبئ شهر يونيو 2024 لمواليد الأبراج الترابية؟    قبل رفعها من دور العرض.. الإيرادات الإجمالية لأفلام موسم عيد الفطر السينمائي    بدأ مشوار الشهرة ب«شرارة».. الفنان الراحل محمد عوض «فيلسوف» جذبه الفن    حقيقة وفاة طفل أثناء أداء مناسك الحج    رئيس جامعة أسيوط يفتتح صيدلية التأمين الصحي لمرضى أورام الأطفال    الصحة تنظم ورشة عمل لتعزيز قدرات الإتصال المعنية باللوائح الصحية الدولية    الكشف المجانى على 1112 مواطنًا خلال قافلة طبية بقرى حياة كريمة بالإسكندرية    مع اقتراب العيد.. كيف تفرق بين اللحوم الطازجة والفاسدة أثناء الشراء؟    دعاء رد العين نقلا عن النبي.. يحمي من الحسد والشر    أبرزهم راقصي السامبا.. مواعيد مباريات اليوم الأربعاء    وكيل «صحة الشيوخ»: الرئيس السيسي وجه تحذير للعالم من مغبة ما يحدث في غزة    مواعيد تشغيل القطار الكهربائي الخفيف ART خلال إجازة عيد الأضحى 2024    رئيس الأركان يشهد مشروع مراكز القيادة الاستراتيجى التعبوي بالمنطقة الشمالية    عاشور يشارك في اجتماع وزراء التعليم لدول البريكس بروسيا    تدريب وبناء قدرات.. تفاصيل بروتوكول تعاون بين مركز التدريب الإقليمي للري والمعهد العالي للهندسة بالعبور    البورصة: مؤشر الشريعة الإسلامية يضم 33 شركة بقطاعات مختلفة    عزيز الشافعي: أغاني الهضبة سبب من أسباب نجاحي و"الطعامة" تحد جديد    عصام السيد يروي ل"الشاهد" كواليس مسيرة المثقفين ب"القباقيب" ضد الإخوان    وزير الدفاع الألماني يعتزم الكشف عن مقترح للخدمة العسكرية الإلزامية    بيان الأولوية بين شعيرة الأضحية والعقيقة    أسامة ربيع لسفير أستراليا: قناة السويس ستظل الطريق الأسرع والأقصر    احتفالًا بعيد الأضحى.. السيسي يقرر العفو عن باقي العقوبة لهؤلاء -تفاصيل القرار    رئيس إنبي: سنحصل على حقنا في صفقة حمدي فتحي "بالدولار"    "لا أفوت أي مباراة".. تريزيجية يكشف حقيقة مفاوضات الأهلي    «متحدث الصحة» يكشف تفاصيل نجاح العمليات الجراحية الأخيرة ضمن «قوائم الانتظار»    «أوقاف شمال سيناء» تقيم نموذج محاكاه لتعليم الأطفال مناسك الحج    أفضل أدعية يوم عرفة.. تغفر ذنوب عامين    غياب أسرة سفاح التجمع الخامس عن جلسة محاكمته    وزير الأوقاف يهنئ الرئيس السيسي بعيد الأضحى المبارك    تفاصيل مشاجرة شقيق كهربا مع رضا البحراوي    زواج شيرين من رجل أعمال خارج الوسط الفني    خلال 3 أشهر.. إجراء عاجل ينتظر المنصات التي تعمل بدون ترخيص    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إحسان.. الرجل الذي اكتشف المرأة

ما كدت أبرح المرحلة الابتدائية، وأدلف إلي مرحلة الإعدادية حتي تعلمت سرقة الصحف والكتب من إخوتي الكبار طلبة الجامعة، وكانت مجلة "روزاليوسف" واحدة من الصحف التي أنتظرها بفارغ الصبر، وما أن يفرغ أخي الكبير من قراءتها مستسلماً للنوم حتي أخطفها وأنفرد بنفسي في غرفة "الجلوس" التي نسميها اليوم الصالون، لألتهم الوجبة الشهية في جوها الهادئ الوثير، كانت قصص إحسان عبدالقدوس فاكهة تلك الوليمة الرائعة، وكثيراً ما كنت أبدأ بالحلو قبل الأطباق الرئيسية، وأظل في غيبوبة عن الواقع، لا أرد علي نداء للعب ولا ألتفت لإغراء بتسلية حتي أفرغ من قراءة الفصل الجديد، وكان أكثر ما يشقيني أن الكاتب لم يكن ينهي القصة في العدد بل يذيلها بعبارة "فإلي الأسبوع القادم".
علي قصص هذا الكاتب الرائع تربي جيلي من الكتاب .. بدأت به هو ويوسف السباعي أولا وعشقت الرواية بسببهما، وحلمت بأن يصبح لي بساط سحري يحملني إلي بستان من الخيال أتجول فيه بين بشر من صنع خيالي وعالم غير موجود إلا في عقلي.. متعة الهروب من الواقع والحياة في تجارب لم تعشها ولقاء أشخاص لم تعرفهم، ولا شك أن روايات إحسان الأولي: أنا حرة، أين عمري، الوسادة الخالية، الطريق المسدود، لا أنام، في بيتنا رجل، شيء في صدري، عقلي وقلبي، البنات والصيف، لا تطفئ الشمس، كان لها وقع السحر علي حياتي.. تعلمت منها أن الحب أروع عاطفة في الوجود وأنها تجعل الإنسان نبيلا شفافا محبا للوجود، وبدونها تتحول حياة الإنسان، رجلا كان أو امرأة، إلي شقاء متصل.. تعلمت من قصص إحسان أن الإنسان يمكن أن يفلت من قفص التقاليد والأعراف، وأن المرأة إن لم تقاوم وتصر علي حقها في الاختيار فسيكون مصيرها مثل علية بطلة "أين عمري"، وأن طريق الانحراف مسدود والمرأة التي لا تحقق ذاتها يمكن أن تحول حياة أقرب الناس إليها إلي جحيم من الفشل المتواصل.. علي عكس ما أشيع عن إحسان كنت أتعلم الفضيلة من رواياته التي تصور تعاسة الانحراف، وعدم جدواه.. رغم أني كنت أراه أكثر جرأة مما أحتمل وفقا لتربيتي المحافظة، وعندما كتبت مقالاتي التي نشرت في مجلة "صباح الخير" تحت عنوان : هي في عيونهم، هاجمت كل الكتاب الروائيين ومنهم إحسان واعتبرتهم قد شوهوا صورة المرأة ولطخوا سمعتها عمدا أو بحسن نية.. ضقت ذرعا بأمينة بطلة روايته "أنا حرة" التي تدلهت في حب المحامي عباس وعاشت معه ثماني سنوات دون أن تطالبه بالزواج.. اغتظت منه لأنه جعلها تتخلي عن قضية المرأة وتتراجع عن المطالبة بحصولها علي حقوقها السياسية، وفي بداية مشوار حياتي كنت أتطلع بشغف لأن أتبع خطي الجيل السابق في طلب الحرية والمساواة، ثم صدمني تهور أمينة واستهتارها بكل القيم، لم أغضب من أمينة فقط بل غضبت من مبدعها إحسان واعتبرت الرواية ذروة الافتراء علي المرأة لأنها تروج صورة فاسدة عن المرأة التي تطالب بحريتها، ولا شك أن إحسان كان يعشق المرأة وقد جعلها البطلة الأساسية لأغلب رواياته، بينما البطل يعيش علي هامشها، ولكن الأزمة التي عايشها في بداية حياته أثرت كثيرا علي رؤيته للمرأة.. ثم قرأت لناقد أعتز به هو المرحوم غالي شكري رأيا علي النقيض تماما من رأيي، ففي كتابه "أزمة الجنس في الرواية العربية" يري الدكتور غالي شكري "أن رواية أنا حرة أنضج أعمال إحسان علي الإطلاق، وأنها ستظل إحدي علامات الطريق إلي اقتحام أزمة الفتاة في مجتمعنا بل إشارة جادة إلي أزمة هذا المجتمع بكامله".. والواقع أن كلا منا علي حق، فأسلوب القصة الذي تغلب عليه التقريرية ولم يتعمق كثيرا في تصوير الصراعات الداخلية لأمينة، صورها علي النحو الذي ذكرته: فتاة مستهترة تسيء إلي المرأة المطالبة بحقوقها، وتجعل من الجنس محور حياتها والغاية الأولي التي تسعي إليها.. وقد اعترف غالي بأن إحسان لم ينفذ إلي التكوين الداخلي لشخصية أمينة وأن الأسلوب الخبري الذي كتب به إحسان تلك الرواية أجهض التجربة.
لقد تجمعت في شخص إحسان ونشأته كل تناقضات المجتمع المصري التي بدأت تتشكل منذ العقد الثاني من القرن العشرين، وتمزق في طفولته مابين تقاليد بيت جده لوالده خريج الأزهر حيث المحافظة علي كل طقوس وشعائر ومظاهر وأوامر الدين وحيث التمسك بالتقاليد، وحيث الزوار والأصدقاء من علماء الأزهر الذين يتحدثون في أمور دينية وتتردد علي ألسنتهم كلمتا الحلال والحرام، ومن ناحية أخري كانت والدته فنانة متحررة تبرز للرجال وتخالطهم وتدعوهم لبيتها حيث تتم نقاشات ثقافية وسياسية، وكانت صديقة لكبار الشعراء والأدباء والسياسيين ورجال الفن في زمانها.
ولابد أنه كصبي ومراهق عاني كثيرا من ذلك الاختلاف البين لشريحتين من مجتمع واحد، ولابد أنه جاهد كثيرا كي يستعيد توازنه ويشفي من الدوار الذهني الذي كان يصاب به وهو يتنقل بينهما، بل لعله قرر في النهاية أن ينطلق من القفص الذي أريد له أن يحبس فيه، ووجد في بيت أمه وطبيعتها وروحها بستانه الفسيح الأرجاء الذي راح يرشف من رحيق زهراته ويتذوق ثماره ويخرجها عسلا في قصص راجت وشاعت ووجدت قبولا لدي الشباب وجعلته أشهر روائيي عصره بلا منازع.
لعل إحسان اعتمد كثيرا علي عنصر المصادفة في قصصه بسبب طغيان هذا العنصر علي حياته وحياة والديه، فقصة والدته روزاليوسف من القصص التي لا تتكرر كثيرا، بل وتوحي بفيلم رائع لا أعرف لماذا لم تنتجه السينما المصرية حتي اليوم.. قصة فتاة يتيمة تفقد والديها في ظروف غامضة، فتحتضنها أسرة صديقة لوالدها، ثم يقرر هذا الصديق أن يهاجر إلي أمريكا ولسبب ما يركب وعائلته باخرة ترسو في الإسكندرية، وبالصدفة يلتقي ذلك الرجل بصاحب فرقة مسرحية هو إسكندر فرح الذي تعجبه الفتاة اليتيمة ويطلب من أسرتها البديلة أن تتنازل له عنها ليتبناها هو، فيوافق صديق أبيها، ويتغير مسار الطفلة فبدلا من أن تهاجر إلي العالم الجديد وتتأثر به وتفقد كل صلتها بجذورها، إذا بالقدر يسوقها لأن تصبح واحدة من أشهر فنانات المسرح في مصر!
وتتحول الفتاة من فاطمة اليوسف إلي "روزاليوسف" ومن لبنانية الأصل إلي مصرية تعشق مصر ولا تقبل عنها بديلا ومن ممثلة إلي مالكة لمجلة جريئة لا تعرف التنازلات.
أما حكاية الأب فهي أغرب.. لقد رغبت أسرته المحافظة وأبوه الشيخ أن يتخرج في مدرسة المهندسين ليصبح مهندسا بالطرق والكباري، ولكنه وإن أطاع العائلة وسار علي النهج الذي رسموه له، فقد كان يحمل روحا فنانة ويهفو بكل وجدانه إلي ممارسة التمثيل، وبالصدفة يجد الفرصة في حفل في النادي الأهلي ليصعد علي المسرح ويقدم فاصلاً من المونولوجات المرحة.. وبالصدفة أيضا تكون الفنانة الشابة "روزاليوسف" بين الجمهور الحاضر للحفل، ويحدث التعارف وتتآلف الروحان فيطلب منها الزواج غير عابئ بثورة الأب الذي رفض تلك الزيجة وأعلن التبرؤ منه وطرده من بيته.. لقد ارتكب- في نظر الأب- خطيئتين؛ عشق الفن ومارسه وتزوج من ممثلة! ويتمادي الفنان محمد عبدالقدوس فيخلع عنه رداء الوظيفة الميري ليتفرغ للفن ممثلاً ومؤلفاً للمسرح.
لعبت جينات الوراثة دورها في حياة ابنهما إحسان.. ذلك الفتي الهادئ الوسيم، الذي خطط له أن يصبح محاميا فعسي أن يصبح واحدا من وزراء ذلك العهد علي حسب ما كان معهودا، ولكنه ما أن يتخرج في كلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1942 حتي يدرك أنه لم يخلق للمحاماة.. إنه يعشق التفكير والتأمل ولكنه لا يجيد المناقشة والحوار ويشعر أنه لن يحقق لروحه التي ورثت الجسارة والطموح والتطلع للأعالي عن والدته أي نجاح في ذلك المجال، وكان قرار التحول إلي الكتابة الصحفية والروائية حيث حقق أحلامه وصار واحدا من ألمع الأدباء العرب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.