نظام الخلافة الرشيدة كان بسيطا حسب متطلبات عصره.. والمشاكل الاجتماعية والإدارية والاقتصادية والسياسية التي تواجه مجتمعاتنا الآن لم يكن من الممكن تخيلها في صدر الإسلام بعد أن استعرضنا في الحلقات السابقة الأفكار المعروضة في الساحة حول نظام الحكم الإسلامي لابد أن ينشأ سؤال مهم: من أين الطريق إذن؟! وفي هذا المجال هناك ثلاثة اتجاهات: الأول يطالب بالعودة إلي الماضي وبالذات إلي عصر الخلافة الرشيدة، وننقل هذا النظام كما كان دون زيادة ولا نقصان. والثاني يري أن نأخذ من تجارب الدول الإسلامية المعاصرة لنا والتي طبقت الإسلام وهي بالتحديد: السعودية وإيران وباكستان والسودان وأفغانستان فنستفيد من تجاربهم ونتلافي بعض أخطائهم فنخرج من ذلك بنظام مجرب يتناسب مع هذا العصر.. والثالث يقول : إن المذاهب الفقهية المختلفة لم تغفل قضية الحكم، بل أوفتها حقها بحيث نستطيع اليوم أن نأخذ من تلك المذاهب الإسلامية نظاما دقيقا مفصلا قامت بوضعه أكبر العقول في تاريخ الإسلام. وقبل أن نجيب برأينا سوف أناقش هذه المقترحات الثلاثة مناقشة حرة وموضوعية: أولا: نظام الخلافة الرشيدة: لقد كانت فترة الخلافة الرشيدة ولاتزال مصدر إلهام وأمل لكل العصور الإسلامية من بعدها، ولكن يجب هنا أن نميز بين المنهج وبين التجارب والتطبيقات، ففي عصرنا هذا لا يمكننا أن نطبق هذا النظام أو ننقله حرفيا كما كان، كما يدعو إلي ذلك بعض غلاة السلفيين، ولابد من وضع بعض الاعتبارات: 1- فرغم ما حققته فترة الخلافة الرشيدة من انتصارات باهرة للأمة ومن عدالة وديمقراطية لم تشهد الدنيا لها مثيلا، إلا أنه كان نظاما بدائيا بسيطا حسب متطلبات ذلك العصر، وإنما يعود هذا النجاح أولا وقبل كل شيء إلي وجود الوازع الديني الذي ربي عليه رسول الله - صلي الله عليه وسلم - جيل الصحابة الذي كان القبس النوري الذي اهتدي به الحكام والولاة واستمتع به الرعية. ولا نستطيع أبدا أن ندعي أن هذا الوازع موجود في عصرنا الحاضر، فهذه المرحلة كانت بكل المقاييس معجزة من الله تعالي ولا يمكن تكرارها أو نقلها إلا أن نبني جيلا جديدا من المسلمين له نفس الوازع الديني الذي كان عند أصحاب رسول الله وتلاميذه. وليس ذلك بالأمر المستحيل.. فتعاليم الرسول مازالت موجودة بيننا، ولكن إلي أن نبني هذا الجيل لابد من إقامة الحكم الإسلامي أولا. 2- وإلي جانب وجود الوازع الديني، فقد كان جيل الصحابة مشغولين بأمر أهم بكثير من قضية الحكم ألا وهو الجهاد والفتوحات الإسلامية ونشر الدعوة، فقد شغلهم الجهاد عن وضع القواعد المناسبة للحكم أو حتي مجرد التفكير فيما يحدث لو انحرف الحاكم أو ظلم.. وكيف يقومونه، فما أن توقفت الموجة الأولي للفتوحات والجهاد.. حتي ظهر الخلاف بينهم أثناء خلافة عثمان. ولم يكن في نظام الحكم بند معين يحل هذه المسألة بالطريق الديمقراطي واضطروا إلي الاقتتال بالسيف وعمت الفوضي والفتن.. وقتل عثمان ثم علي ثم الزبير. 3- وبصرف النظر عن كل هذه الحقائق والاعتبارات، فإن نظام الحكم في الخلافة الرشيدة في القرن السابع الميلادي بما فيه من بساطة وبدائية لا يستطيع أن يواجه متطلبات مجتمع القرن العشرين بما فيه من تعقيد.. فقد جدت علي المسلمين الكثير من المشاكل والقضايا الاجتماعية والإدارية والاقتصادية والسياسية مما لم يكن معروفا في ذلك العصر، وتغير الناس والمجتمع والمكان والبيئة.. وأي مخطط سياسي أو خبير دستوري لا يمكنه أن يتصور تطبيق نظام الخلافة الرشيدة كما كان علي عصرنا الحاضر. إن المسألة تحتاج منا إلي تطوير وتجديد وتقنين، وما كان مثاليا بالأمس البعيد ليس بالضرورة صالحا لمجتمع اليوم، وما هو صالح لعصرنا قد لا يصلح لغدنا، فقواعد الحكم ليست ثابتة، ولا دائمة، وإلا لكان نزل بها أمر في القرآن والسنة.. ولكنها تتغير حسب حاجات كل مجتمع وظروفه. ثانيا: التجارب المعاصرة لنا لتطبيق الإسلام: هناك خمس دول إسلامية أعلنت رسميا تطبيق الحكم بالإسلام هي السعودية وإيران وباكستان والسودان وأفغانستان وقد اتخذ تطبيق الإسلام في كل واحدة منها اتجاها مختلفا وأسلوبا مغايرا للأخري، وذلك حسب تصور القادة والمسئولين في كل دولة منها حسب ظروفها السياسية! فماذا كانت النتيجة؟! لقد أصبح الناس جميعا في شتي أنحاء العالم الإسلامي يتساءلون إذا كان هذا الذي طبق هو الإسلام حقا وهو الأسلوب الأمثل لتطبيقه.. فلا حاجة لنا به، وليبق بعيدا عنه مادامت نتيجته الحرمان من الحرية والعدل والديمقراطية، ومادام لا يحقق الرخاء والاستقرار والنهضة الحضارية. أما إذا كان ما طبق بعيدا عن الإسلام ولا يحتسب عليه، فبقي السؤال الحائر: ما هو التطبيق السليم إذن؟! وعلي من يرفعون شعار الإسلام هو الحل أن يبينوا لنا أي إسلام يريدون.. هل هو إسلام الخميني أم النميري أم ضياء الحق أم الملا عمر.. أم لديكم نموذج آخر معد للتطبيق أو أفكار أخري تنتظر دورها؟! ونرد علي ذلك بالحقائق التالية: - إن جميع التجارب المعاصرة لنا لتطبيق الحكم الإسلامي لم تقم علي مبادئ أو دراسات علمية وفقهية مسبقة، ولم يكن لها برنامج عمل مدروس ولا رؤية جاهزة لأسلوب التطبيق كما هو شأن أية ثورة أو حركة ناجحة في العالم، ولكنها قامت علي أفراد وجدوا أنفسهم فجأة أو بضربة حظ في مركز السلطة والحكم. ثم أرادوا تثبيت أنفسهم علي كرسي الحكم وكسب تأييد الشعب بلبس رداء الإسلام. ولم يحدث أن طبق أحدهم الإسلام تطبيقا صادقا لوجه الله تعالي والدليل علي ذلك أنهم اكتفوا بالمظهر وحده دون الجوهر.. طبقوا الإسلام في الحدود علي الرعية ولم يطبقوه في الشوري التي هي ركن رئيسي في الحكم الإسلامي وبغيرها لا يصبح الحكم إسلاميا وحتي في الحدود فقد طبقوها علي فقراء الأمة دون الأغنياء الذين يرتشون بالملايين ويهربونها خارج البلاد فهل هذا هو الإسلام؟! - ومع ذلك فإن هذه التجارب يجب أن تكون موضع دراسة دقيقة جدا من جميع المفكرين الإسلاميين والدعاة إلي تطبيق الإسلام علي الأقل حتي يستفيدوا من أخطاء غيرهم وعليهم أن يعملوا علي كشف هذه الانحرافات للناس وحتي يعرف كل مسلم أين الوجه الصحيح لتطبيق الإسلام، وحتي تعرف الدنيا كلها أن فشل هذه التجارب لا يعود إلي عيب في النظام الإسلامي ولكن إلي عيب فيمن طبقوه بهذه الصورة المشوهة. ثالثا: المذاهب الإسلامية المختلفة ونظام الحكم: لقد قام علماء أصول الدين الفقهاء أصحاب المذاهب الإسلامية المختلفة باجتهادات رائعة في وضع نظام مثالي للحكم.. وذلك تحت عنوان الإمامة الكبري وشروطها.. ومع تقديرنا الشديد لجهود هؤلاء الأئمة.. وذكائهم الحاد في الاستنباط والاجتهاد.. إلا أن بعض ما جاء في هذا المجال لا يناسب لغة العصر ولا يسد حاجة المجتمع المعاصر.. فمن ذلك شرط أن يكون رئيس الدولة الإسلامية من قريش وأن يكون ذكرا بحيث لا تصلح المرأة لتولي هذا المنصب. والخليفة عند بعضهم غير قابل للعزل أو الإقالة إلا إذا كفر وأقر بكفره أو إذا لم يقم الصلاة.. أما إذا ظلم الرعية أو حرمهم حقوقهم، أو أهمل في تنمية موارد الدولة، وإصلاح الاقتصاد فهذا ليس مبررا للعزل، وفي ذلك يقول الفقيه الإسلامي الدسوقي يحرم الخروج علي الإمام الجائر لأنه لا يعزل السلطان بالظلم والفسق وتعطيل الحقوق بعد انعقاد إمامته، وإنما يجب وعظه وعدم الخروج عليه (1) كذلك في بيعة الخليفة، لم يعرف الأقدمون نظام المنافسة والتسابق بين أكثر من مرشح واحد حتي يكون لدي الشعب فرصة لاختيار الأفضل.. كذلك نظام البيعة نفسه حدث فيه خلاف كبير.. فمنهم من يري أن الإمامة يمكن أن تنعقد بخمسة فقط يجتمعون علي عقدها أو بعقد أحدهم برضا الباقين وذلك أسوة بما حدث في خلافة أبي بكر، ومنهم من يري عقدها بستة كما فعل عمر في خلافة عثمان، ومنهم من يري أن أقل عدد أربعون شخصا.. ولكنهم لم يشترطوا الرجوع إلي القاعدة الشعبية كلها أي يكون الانتخاب عاما بأصوات جميع الرعية وهو ما تفعله الدول الديمقراطية اليوم. ومن المذاهب ما يسمح بنظام الوراثة في الحكم، وللخليفة أن يستخلف ابنه أو أباه من بعده وعلي الرعية إعطاء البيعة للمستخلف ومن حجبها فهو آثم، ويعلل أصحاب هذا الرأي ذلك بقولهم إن الخليفة أمير الأمة نافذ الأمر لهم وعليهم. فغلب حكم المنصب علي حكم النسب ولم يجعل للتهمة طريقا علي إمامته، ولا سبيلا إلي معارضته، وصار فيها كعهده بها إلي غير ولده ووالده الموسوعة الفقهية ص 223، كذلك أجاز بعض الفقهاء خلافة من يستولي علي الحكم بالقوة والسلاح، أي بانقلاب عسكري وقالوا بثبوت ولايته وانعقاد إمامته، ويحمل الأمة علي طاعته وإن لم يعقد هذه الولاية أهل الاختيار أي وإن لم يكن بانتخاب حر برضا الشعب، وقد عللوا ذلك بأن المقصود بالاختيار هو تمييز المولي وقد تميز هذا بصفته. فيلزم أهل الاختيار عقد الإمامة له فإن توقفوا أثموا لأن الإمامة عقد لا يتم إلا بعاقد. وقال آخر: من غلب عليهم بالسيف حتي صار خليفة وسمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما برا كان أو فاجرا. كانت هذه لمحة سريعة وخاطفة عن نظام الحكم في الشريعة الإسلامية، ومن هنا نري أن الأئمة والفقهاء الذين اجتهدوا في وضع هذه المذاهب والآراء هم بشر مثلنا.. يعتريهم الصواب والخطأ.. وأن اجتهاداتهم هذه لا تصبح ملزمة لكل عصر وزمان.. فهي ليست قرآنا منزلا ولا سنة مفروضة.