أسوان تستعد لإطلاق حملة «اعرف حقك» يونيو المقبل    القنوات الناقلة لمباراة الأهلي والزمالك في دوري المحترفين لكرة اليد    دعاء اشتداد الحر عن النبي.. اغتنمه في هذه الموجة الحارة    محافظ أسيوط: مواصلة حملات نظافة وصيانة لكشافات الإنارة بحي شرق    برلمانية تطالب بوقف تراخيص تشغيل شركات النقل الذكي لحين التزامها بالضوابط    العاهل الأردني يؤكد ضرورة تحمل المجتمع الدولي مسؤولياته لتكثيف إيصال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة    مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى.. والاحتلال يعتقل 14 فلسطينيا من الضفة    الجيش الإسرائيلى يعلن اغتيال قائد وحدة صواريخ تابعة لحزب الله فى جنوب لبنان    مصدر سعودي للقناة ال12 العبرية: لا تطبيع مع إسرائيل دون حل الدولتين    وزير الري: إيفاد خبراء مصريين في مجال تخطيط وتحسين إدارة المياه إلى زيمبابوي    أبو علي يتسلم تصميم قميص المصري الجديد من بوما    يورو 2024 - رونالدو وبيبي على رأس قائمة البرتغال    مفاجأة مدوية.. راشفورد خارج يورو 2024    «نجم البطولة».. إبراهيم سعيد يسخر من عبدالله السعيد بعد فوز الزمالك بالكونفدرالية    تعرف على تطورات إصابات لاعبى الزمالك قبل مواجهة مودرن فيوتشر    محكمة بورسعيد تقضي بالسجن 5 سنوات مع النفاذ على قاتل 3 شباب وسيدة    ضبط 4 أشخاص بحوزتهم 6 كيلو حشيش فى الدقهلية    زوجة المتهم ساعدته في ارتكاب الجريمة.. تفاصيل جديدة في فاجعة مقتل عروس المنيا    الإعدام لعامل رخام قطع سيدة 7 أجزاء بصاروخ لسرقتها فى الإسكندرية    "السرفيس" أزمة تبحث عن حل ببني سويف.. سيارات دون ترخيص يقودها أطفال وبلطجية    النطق بالحكم على مدرس الفيزياء قاتل طالب الثانوية العامة بعد قليل    جيفرى هينتون: الذكاء الاصطناعى سيزيد ثروة الأغنياء فقط    تأجيل محاكمة 12 متهمًا في قضية رشوة وزارة الري ل25 يونيو المقبل    السيسي يستقبل مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية ويؤكد على دورها في نشر وتعميق المعرفة والعلم    لمواليد برج الثور.. توقعات الأسبوع الأخير من شهر مايو 2024 (تفاصيل)    جهاد الدينارى تشارك فى المحور الفكرى "مبدعات تحت القصف" بمهرجان إيزيس    كيت بلانشيت.. أسترالية بقلب فلسطينى    محافظ الفيوم يترأس اجتماع اللجنة الاستشارية للسلامة والصحة المهنية    أمين الفتوى: قائمة المنقولات الزوجية ليست واجبة    هل يجبُ عليَّ الحجُّ بمجرد استطاعتي، أم يجوزُ لي تأجيلُه؟.. الأزهر للفتوى يوضح    رئيس الوزراء يتابع عددًا من ملفات عمل الهيئة المصرية للشراء الموحد والتموين الطبي    «الرعاية الصحية» تدشن برنامجا تدريبيا بالمستشفيات حول الإصابات الجماعية    أفضل نظام غذائى للأطفال فى موجة الحر.. أطعمة ممنوعة    الجامعة العربية والحصاد المر!    «غرفة الإسكندرية» تستقبل وفد سعودي لبحث سبل التعاون المشترك    السيسي: مكتبة الإسكندرية تكمل رسالة مصر في بناء الجسور بين الثقافات وإرساء السلام والتنمية    تفاصيل حجز أراضي الإسكان المتميز في 5 مدن جديدة (رابط مباشر)    المالية: بدء صرف 8 مليارات جنيه «دعم المصدرين» للمستفيدين بمبادرة «السداد النقدي الفوري»    وزير الأوقاف: انضمام 12 قارئا لإذاعة القرآن لدعم الأصوات الشابة    «بيطري المنيا»: تنفيذ 3 قوافل بيطرية مجانية بالقرى الأكثر احتياجًا    أفعال لا تليق.. وقف القارئ الشيخ "السلكاوي" لمدة 3 سنوات وتجميد عضويته بالنقابة    يوسف زيدان يرد على أسامة الأزهري.. هل وافق على إجراء المناظرة؟ (تفاصيل)    في اليوم العالمي للشاي.. أهم فوائد المشروب الأشهر    «الشراء الموحد»: الشراكة مع «أكياس الدم اليابانية» تشمل التصدير الحصري للشرق الأوسط    الجلسة التحضيرية الرابعة للمؤتمر العام للصحافة مع القيادات الصحفية، اليوم    هالاند.. رقم قياسي جديد مع السيتي    لهذا السبب.. عباس أبو الحسن يتصدر تريند "جوجل" بالسعودية    حفل تأبين الدكتور أحمد فتحي سرور بحضور أسرته.. 21 صورة تكشف التفاصيل    وزير التعليم: مدارس IPS الدولية حازت على ثقة المجتمع المصري    أسعار طن الحديد فى مطروح وسيوة اليوم الثلاثاء 21 مايو 2024    «القومي للمرأة» يوضح حق المرأة في «الكد والسعاية»: تعويض عادل وتقدير شرعي    «ختامها مسك».. طلاب الشهادة الإعدادية في البحيرة يؤدون امتحان اللغة الإنجليزية دون مشاكل أو تسريبات    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى 49570 جنديًا منذ بداية الحرب    اليوم.. «خارجية النواب» تناقش موازنة وزارة الهجرة للعام المالي 2024-2025    مندوب مصر بالأمم المتحدة لأعضاء مجلس الأمن: أوقفوا الحرب في غزة    عمر العرجون: أحمد حمدي أفضل لاعب في الزمالك.. وأندية مصرية كبرى فاوضتني    بوتين: مجمع الوقود والطاقة الروسي يتطور ويلبي احتياجات البلاد رغم العقوبات    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بطرس وفاروق والعصابة التى تحكم العالم

بدا رئيس الوزراء البلغاري (بويكو بوريسوف) مندهشا ومفاجأً وهو يعلق علي فوز مواطنته (إيرينا بوكوفا) بمنصب مدير عام اليونسكو.. وقال وهو يطير من الفرح: هذا اعتراف كبير ببلغاريا. وأضاف في البداية بدت فرصها في الفوز ضئيلة للغاية.. بل إن انتخابها لم يكن متوقعا، وهو نصر كبير لدولة صغيرة مثل بلغاريا.. هذه الحالة التي كان فيها رئيس الوزراء لايصدق نفسه تعبر حقا عن أن (بوكوفا) لم تكن سوي ورقة لعب علي مائدة استخدمت فيها الولايات المتحدة كل الأساليب غير الموصوفة.. بما في ذلك وصول سيدة لم تتوقعها بلدها، ولا هي نفسها توقعت، إلي هذا المنصب الثقافي الرفيع.
إن (بوكوفا) لاتختلف كثيرا عن (كوفي عنان)، إذ مع كامل الاحترام لها وله، كان هو المرشح البديل الذي طرحته الولايات المتحدة لكي تنهي به أسطورة وجود بطرس بطرس غالي، المصري العربي الأفريقي، في موقعه كأمين عام للأمم المتحدة لفترة ثانية.. وقتها.. وقبل 31 عاما.. استخدمت واشنطن كل آلتها الجبارة بقضها وقضيضها؛ لكي تنتزع غالي من الإجماع الدولي الذي كان يحيط به.. وفعلت كل شيء.. تماما كما حدث مع فاروق حسني.. لكي يخرج بطرس من موقعه.
بالصدفة، أو لعلها ليست كذلك، كان الرئيس الأمريكي ديمقراطيا، بيل كلينتون، وهو واحد من أهم أصدقاء مصر علي مر تاريخ العلاقة المصرية الأمريكية، وتكرر السيناريو أيضا في عهد أوباما الديمقراطي الذي كنا نستبشر - ولم نزل - بأنه سيكون من أفضل أصدقاء مصر. وفي الحالتين كان هناك مدير معركة سافر من الجانب الأمريكي يواصل جهوده المكشوفة وغير الدبلوماسية علي مدار الساعة.. ليس لإنجاح بوكوفا أو عنان وإنما أولا: لإسقاط فاروق وبطرس.. في الأولي كانت هناك مادلين أولبرايت مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة ومن خلفها بوضوح منقطع النظير وارين كريستوفر وزير الخارجية.. وفي الثانية: كان هناك ديفيد كيللون مندوب الولايات المتحدة في اليونسكو ومن خلفه توجهات وزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس التي يبدو أن هيلاري كلينتون لم تتخلص منها بعد.
- الديانة ليست مشكلة
إن العودة إلي قصة بطرس تكشف عن معني لاينبغي تغافله.. وهو أن المشكلة ليست في الديانة بالقدر الذي نعتقده.. فاليونسكو كان فيها من قبل مدير عام مسلم من السنغال.. وبطرس قبطي متزوج من يهودية.. وإنما المشكلة في قومية المرشح المصري وجذوره الحضارية وتوجهاته السياسية.. المعضلة في رافده العربي الذي يصب في أفكاره.. سواء كان هو فاروق حسني أو بطرس غالي.. وفي برنامجه المتوقع في حالة فاروق، أو الذي كان قد انتهجه ونفذه بالفعل في حالة بطرس.
ومن المدهش أن الولايات المتحدة في الحالتين لوحت بأنها سوف تنسحب من المنظمة الدولية التي تخوض فيها تلك المعركة لو أن رغبتها لم تنفذ.. هكذا فعلت في اليونسكو وهكذا فعلت في الأمم المتحدة.. وتلك معضلة تثار من حين لآخر وتطرح علي المائدة كيف يمكن أن يكون القرار ديمقراطيا في المنظمات الدولية إذا كان مرهونا بتلويحات وتهديدات القوة العظمي.. التي من سخرية الأقدار تنادي بالديمقراطية في المجتمعات المختلفة.
والمعني في القصتين واضح جدا.. ليس في المؤامرة فحسب.. ولكن في أن الواقعتين تثبتان بما لايدع مجالا للشك أن العلاقة الوطيدة بين مصر والولايات المتحدة لم تتحول يوما إلي تبعية.. وأن الندية تحكم المسار.. والمصالح فيها فوق كل اعتبار.. مصالح الولايات المتحدة التي تبدي استعدادا لأن تخسر الرأي العام المصري والعربي مقابل أن تتخلص من شخص غير مرغوب فيه.. ومصالح مصر التي لاتبدي استعدادا من أي نوع للتنازل عن مرشحها أو مساندته ولو أدي هذا إلي مواجهة مكشوفة مع الصديق المتعنت في واشنطن.
والمعني أيضا - وقد يكون صدفة بدوره - أن الولايات المتحدة حين تمضي في هذا الغي البيروقراطي ذي الأبعاد السياسية لاتنشغل إطلاقا بطبيعة الشخص الذي تواجهه.. وهو في الحالتين - بطرس أو فاروق - كان مستهدفا من الطرفين المصري والعربي.. لا هذا تقبله جماعات الظلام المحلية ولاذاك تقبله جماعات العنف والتخلف الإقليمية.. وقد هوجم كلاهما طوال الوقت من مختلف التيارات السوداء.. وفي الموقفين حققت الولايات المتحدة للتطرف قدرا هائلا من المساندة.. كانت تدري أو لاتدري.
تلك قد تبدو مقدمة طويلة، ضرورية، وملخصة، لتحليل جديد ومقاربة إضافية لهذه الملحمة التي تابعها العالم كله خلال الأيام الماضية حين أسقط المرشح المصري لمنصب مدير عام اليونسكو.. وهو المنصب الذي لم يكن يشغل الأرض بهذا القدر من الاهتمام.. مقاربة تشير إلي الطريقة التي تخدم بها الولايات المتحدة التطرف الذي تقول أنها تحاربه.. وكيف تخسر الرأي العام الذي تقول أنها تلاطفه وتتودد إليه.. في حين أنها باليقين تخادعه.. وهي أيضا مدخل لكي نناقش ردود أفعال التطرف الديني والسياسي في المنطقة.. حيث أعلن عن أفراحه وشماتته في خسارة فاروق حسني.
من ثم سوف أتطرق في هذا المقال إلي ثلاث نقاط:
- ماذا حدث مع بطرس غالي وما هي علاقته بما حدث مع فاروق حسني؟ باعتباره يتضمن دلالات مهمة جدا في مسار العمل الدولي والعلاقات بين الحضارات.
- موقف التطرف الديني من فاروق حسني قبل وبعد أن خسر؟ باعتباره يعبر عن توجهات غير وطنية ولايمكن تغافلها في تقييم هذا التطرف.
- المستقبل السياسي لفاروق حسني بعد هذه المعركة الشرسة؟ باعتباره سؤالا مطروحا علي الرأي العام.. حتي لو كان الوزير قد قال بعد عودته: لن أستقيل.
- مكالمة من تل أبيب
أعود هنا إلي المذكرات المهمة للغاية التي أصدرها الدكتور بطرس بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، وعنوانها كما هو معروف (خمس سنوات في بيت من زجاج) حيث رصد مجريات إزاحته والمعركة التي خاضها.. وليس مثيرا للتعجب أن نقول إن إحدي أهم الأدوات التي استخدمت في تلك المعركة كانت هي الصحافة الدولية الموجهة.. فبين كل معلومة وأخري يذكرها بطرس غالي كان يشير إلي مقال أو خبر في جريدة كبري يمثل رسالة أو تسريبا أو معلومة أو توجها في إطار الحملة التي تم شنها عليه.. وذلك نفسه ما جري مع فاروق حسني.
كان الرئيس مبارك معضدا ومساندا لبطرس غالي وترشيحه الثاني، كما كان في ترشحه الأول، وكما كان في ترشيح فاروق حسني، ومن المدهش أن فرنسا كانت سندا لمصر في الحالتين.. غير أن الرؤساء لا يتساوون - وبينهم فروق - وإذا كان لميتران وشيراك منهج واضح في حالة بطرس غالي.. فإن لساركوزي منهجاً متمايزاً وقد يكون صادما.
ومن المثير أن الولايات المتحدة حين بدأت في شن حملتها علي فاروق حسني فعلت نفس الشيء الذي فعلته مع غالي.. إذ مضت تعبث بكل ما أُوتيت من قوة وأدوات في الملعب الأفريقي المتقاطع.. إلي أن اخترقته بالإغواء والترهيب.. ووقتها كان بطرس غالي يحظي بدعم الجميع الأفريقي وعلي رأسه نيلسون مانديلا.. لكن الجميع تفرق بين يوم وليلة.. وليس لذلك علاقة علي الإطلاق بمكانة مصر الأفريقية.. وإنما له علاقة بما تقوم باستخدامه الدولة الأقوي من أدوات ومعاول ومجنزرات تصنف للأسف علي أنها من آليات الدبلوماسية.
لقد كان السبب الأهم في أن الولايات المتحدة قررت أن تقف في وجه إعادة ترشيح بطرس غالي هو أنه كان مستقلا.. غير تابع.. ولم يكتف بهذا عمليا، بل إنه أعلن عن ذلك قبيل حملة انتخابية رئاسية أمريكية.. ففي يناير 6991 ألقي بطرس محاضرة في جامعة إكسفورد ركز فيها علي (أهمية استقلال الأمين العام للأمم المتحدة علي النحو المنصوص عليه في ميثاقها وعلي الحاجة الملحة لإيجاد وسائل جديدة لتمويل عمليات الأمم المتحدة نظرا لأن الولايات المتحدة رفضت أن تدفع الاشتراكات المستحقة عليها).
ويقول بطرس أنه علم أن كلماته أغضبت البيت الأبيض والكونجرس.. وقيل له أنه تجاوز الحدود أصلا في الاستقلال خلال الخمس سنوات الماضية من عمله.. وبالتالي كان أن أبلغ أن الولايات المتحدة لن تدعم إعادة ترشحه مرة أخري.. وصله هذا عبر وسيط (ساريوس فانس).. ومباشرة عبر مكالمة تليفونية من وارين كريستوفر وزير الخارجية الذي - وياللصدف - كان يهاتف الأمين العام تليفونيا من تل أبيب خلال رحلة إلي الشرق الأوسط.. وبعدها نشرت جريدة ال وول ستريت جورنال خبرا قصيرا كان عنوانه هو: باي باي بطرس!.. كان من الواضح أنه من تسريبات الإدارة.
ومادام قد جاء ذكر تل أبيب، فإننا لايمكن أن نغفل وجها للمقارنة بين قصة بطرس وقصة فاروق، فقد كان التقرير الذي أصدره الأمين العام للأمم المتحدة بشأن مذبحة قانا التي ارتكبتها إسرائيل أمراً تريد الولايات المتحدة ألاَّ يصدر.. حتي لا يؤثر علي فرص انتخاب بيريز مرة أخري كرئيس لوزراء إسرائيل.. لكن بطرس أصدر التقرير الذي أزعج بيل كلينتون.. وتلي ذلك انتخاب نتانياهو رئيسا للوزراء.
- عرض بحل وسط
فيما بعد كان أن أصر بطرس غالي مدعوما من مختلف دول العالم علي أن يترشح.. وأن يحصل علي فترة ثانية.. مثل أي أمين عام للمنظمة الدولية.. وتطورت الأمور إلي أن أبلغ بعرض أمريكي مؤداه أنه يمكن أن يبقي بشرط أن يقضي عاما أو عامين فقط.. وبعدها يترك موقعه.. وعلق بطرس قائلا: (لايمكنني أن أرد عليك بنعم أو لا.. إن بلدي هو مصر.. وقد رشحني الرئيس مبارك لكي أكون أمينا عاما.. وأنا أمثل أفريقيا.. ولا أستطيع أن أتخذ قراري وحدي دون إبلاغهم أو التشاور معهم.. أنا أتحمل مسئولية تجاه من طلبوا مني أن أعمل فترة ثانية). واتصل بطرس بالرئيس مبارك.. فقال له: إن جميع من سبقوك كانت لهم فترة ثانية.. فلماذا لاتكون أنت كذلك.. وأضاف أنه سوف يبعث رسالة إلي كلينتون ينقل فيها الطلب الرسمي من مصر بأن تتم مساندة بطرس غالي للحصول علي فترة ثانية كاملة.. أي ليس عاما أو عامين.
وفيما بعد قال نيلسون مانديلا لبطرس غالي: لابد أن تحصل علي فترة ثانية.. مدتها خمس سنوات كاملة.. كل أفريقيا سوف تؤيدك في ذلك.
وقال له الرئيس الفرنسي جاك شيراك: أنا أعارض أي حل وسط.. ولابد أن تحصل علي فترة ثانية.. كاملة.. وأنا أؤيدك تأييدا تاما.. ومستعد للقتال من أجلك.
ومن المدهش، علي سبيل المقارنة، أن مادلين أولبرايت مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة كانت تقوم بكل جهد من أجل أن تكسر الإجماع الأفريقي حول بطرس غالي.. وإذا كان ممثل لإحدي دول أمريكا الوسطي قد قال إنه فوجئ بحجم الضغوط المذهلة التي مورست عليه أمريكيا حتي يوم الثلاثاء الماضي لكي لايتم التصويت لفاروق حسني.. وإذا كانت بعض الدول الأفريقية قد أدهشتها الاتصالات المكثفة من ديفيد كيللون مندوب الولايات المتحدة في اليونسكو طيلة الأيام السابقة علي التصويت.. فإن أولبرايت كانت تقوم بنفس الطريقة باتصالات مكثفة مع جميع ممثلي الدول الأفريقية المشاركين في قمة ياوندي عام 6991 لمنع إصدار بيان بإعادة ترشيح بطرس غالي أفريقيًّا.
ومضت الولايات المتحدة بعيدا جدا.. وفي ظل إصرار بطرس غالي علي موقفه.. فإنه كان يتلقي من حين لآخر نصائح بأن ينسحب في هدوء.. وأن يخرج محتفظا بكرامته.. يأتيه هذا مكتوبا في صحيفة.. أو من خلال مكالمة هاتفية من أحد الناصحين.. وهو يعلق علي هذا قائلا: كانت هذه النصائح تأتيني من أولئك الذين يزعمون أنهم حريصون علي كرامتي.. والحقيقة أن كرامتهم هي التي كانت معرضة للخطر.. فلو أنني كنت تخليت عن منصبي لتفادوا القيام بهذا العمل القذر للتخلص مني.
وفي المعركة تفاصيل عديدة.. لا داعي لذكرها.. فهي تصل جميعا بنا إلي نفس المعني.. والخلاصة أن التصويت الأول علي اسم بطرس غالي أظهر الولايات المتحدة معزولة وحيدة في مواجهة العالم كله.. إذ وافق مجلس الأمن علي إعادة ترشيحه أمينا عاما.. ووقفت الولايات المتحدة بالفيتو في مواجهة القرار.. وبعد ذلك استمرت الضغوط إلي أن تم الدفع بكوفي عنان أمينا عاما أفريقيا بديلا.
- الشامتون المصريون
لقد كان هذا هو موقف الولايات المتحدة من بطرس غالي، ومن بعده فاروق حسني، ومن المثير - وإن كان من غير المدهش - أن تجد هذا يصب في صالح التطرف الديني.. بخلاف كونه يسبب حساسيات مهولة بين الشعوب.. ولن أذهب بعيدا.. بل أتطرق هنا إلي مقال نشره علي الإنترنت نائب إخواني اسمه حمدي حسن قال فيه حرفيا بعد أقل من ساعتين من إعلان خسارة فاروق حسني:
(لم ألحظ فرحة جماعية قدر فرحة المصريين لخسارة فاروق حسني كمرشح لليونسكو وهو موقف يتناسق مع غضب المصريين من الجرائم التي ارتكبها حسني في حق الكرامة والثقافة والهوية والتاريخ لبلده وبعد تنازلات أكثر من مهينة قدمها حسني علي طبق من ذهب للصهاينة في سبيل مقعد مسلوب ومنزوع الإرادة).
ولست أدري علي وجه اليقين من أين جاء النائب غريب الأفكار بهذه الثقة وهو يؤكد فرحة الشعب المصري بخسران فاروق حسني.. فالحاصل هو العكس تماما.. حتي بين المختلفين مع فاروق حسني.. ولو كان يريد الدليل فإن عليه أن يراجع صحف الأربعاء والخميس في مصر لكي يدرك حجم القرف من هذا التصرف الأمريكي.. والغضب من المؤامرة التي حيكت ضد الوزير. ولكي تعرف الولايات المتحدة إلي أي مدي خدمت التطرف، ولكي تدرك عصابة الإقصاء التي تدير العالم ولا تريد فيه شريكا من أي رافد حضاري آخر.. فإنني أنقل هذه الفقرة التالية من مقال نفس النائب:
(إن المواقف التي اتخذها حسني من أجل تدعيم ترشحه كرئيس لليونسكو ترقي لجريمة الخيانة العظمي ومنها إنكاره لتصريحاته الشهيرة بمجلس الشعب باستعداده لحرق الكتب اليهودية إذا ثبت وجودها بالمكتبات وأنه أدلي بها كسخرية - وهي إهانة للمؤسسة التشريعية لبلاده - ومنها اعتذاره المشين والمهين وغير المسبوق والذي نشره في واحدة من أكبر الصحف الفرنسية يتملق فيه الصهاينة ويعتذر لهم بذلة ومهانة واستكانة طالبا العفو والمغفرة متعهدا - في حالة فوزه بالمنصب - باتخاذ مواقف تقر بها أعينهم مناصرا لتاريخهم وثقافتهم - بينما في أزمة تصريحاته وإهانته للحجاب والثقافة والهوية الإسلامية، بل والشيوخ والمفتين يرفض حتي الاعتذار والاعتراف بالخطأ ومهددا بالاستقالة - وكأننا سنفقد قيمة تحفة تاريخية لا تقدر بثمن!)
لقد وصل الأمر حد اتهام الوزير بالخيانة العظمي.. وهو أمر ليس بجديد علي تعامل مثل هذا التيار مع الوزير فاروق حسني.. فمن قبل خاض الإخوان المتطرفون ضده معارك متنوعة.. واجهت ميوله الفكرية وتوجهاته الثقافية.. وله في هذا تاريخ طويل.. لايبدأ من أحداث رواية وليمة لأعشاب البحر.. ولاينتهي بالضجة التي أثيرت حول احتفالات الألفية ولايقف عند أزمة تصريحاته حول الحجاب الشهيرة.
ولكن الأمر لا يقتصر عليه من جانب مثل هذا التطرف.. فكما شملته لعنات هؤلاء الشامتين.. شملت أيضا بطرس غالي.. وليس عجيبا أن أقول أن نفس المقال تضمن هجاء في الأمين العام السابق للأمم المتحدة.. لأنه يمثل رافدا مناقضا لقيم التطرف.. وقد قال حمدي حسن: (وما حدث يذكرني بتولي بطرس غالي منصب الأمين العام للأمم المتحدة حيث لم تجن مصر ولا العرب خيرا، بل اتخذت أسوأ القرارات ضد الأمة في عهده الأسود).
والمعني في الحالتين واضح جدا.. وهو أن هذا الفصيل المنتمي زورا إلي مصريتنا إنما يرفض أي تواجد أو تمثيل مصري مشرف للبلد في الساحات الدولية.. لأن مثل هذا يمكن أن يكشف عن نماذج قدوة تأسر الشباب وتقدم لهم أشخاصا ملهمين بعيدا عن الغياب الذي يقودهم إليه الإخوان.. ويمنحهم الثقة في بلدهم ومكانتها.. وتأثيرها.. ولعل حمدي حسن هذا الشامت في ابن بلده ووزيرها سارع إلي كتابة هذا المقال المنحط مضمونا وفكرا لكي ينسف لدي تابعيه أي اقتناع بأن ما تعرض له فاروق حسني هو مؤامرة.. ولكي يذيب من داخلهم أي إحساس بالالتفاف حول القيمة التي يمثلها والموقف المشرف الذي يمكن استخلاصه من معركته والمعركة التي خاضها البلد من أجله.
شخص مثل هذا إنما يريد أن ينفي ما استوعبه هو شخصيا من الموقف برمته.. وهو أن المعركه كان عنوانها الاستقلال المصري عما تروجه جماعته طيلة الوقت بأن مصر تابعة للولايات المتحدة.. وفي مضمون هذا كله ما يجب أن تدرسه الولايات المتحدة بدقة.. إذ بمثل هذه الأفعال تخدم كثيرا جماعات تطرف مثيلة.
- مؤسسة القدس
نأتي الآن إلي إحدي المسائل المتداولة بين قطاعات من الرأي العام.. خاصة النخبة المثقفة.. حول مستقبل فاروق حسني السياسي بعد هذه المعركة الطاحنة.
لقد سارع الوزير نفسه بعد أن عاد إلي مصر من باريس وقال إنه لن يستقيل من منصبه.. وعلق الأستاذ صلاح عيسي الكاتب الصحفي الكبير وقال: لو طالبناه بالاستقالة من منصبه نكون كمن نسلم رقبته للوبي اليهودي الدولي.. والتصريح مفهوم والتعليق عليه أيضا مفهوم.. ولكن هذا لايضع حلا للمعضلة التي تواجه فاروق حسني ليس فقط بعد وصوله إلي بلده عائدا من تلك المعركة وإنما منذ أعلن عن ترشيحه لمنصب مدير عام اليونسكو.
بغض النظر عن كونه مرشحا مصريا عربيا أفريقيا مسلما للمنصب.. فإن وصوله إلي هذا الموقع الدولي الرفيع لاشك أنه كان سيمثل ختاما مميزا لمسيرة ممتدة.. علي الرغم من أنني أعتقد شخصيا أن الوزير أكبر من منصب مدير عام اليونسكو الموصوف مجازا بأنه وزير ثقافة العالم.
وعمليا أصبح الوزير خلال الفترة الماضية متفرغا للمعركة الانتخابية بحيث يمكن القول أنه قد تباعد عن عمله الروتيني لما يزيد علي عام.. لأسباب تتعلق بجهد واجب القيام به خلال الاتصالات الدولية.. وواقعيا فإن السمعة الدولية التي اكتسبها والمكانة الرفيعة التي بلغها بدون أن يحصل علي المنصب قد تكون بينها وبين مهامه التنفيذية فجوة ملموسة.
ومن الطبيعي أن تكون الوزارة قد تعرضت خلال الفترة الماضية إلي قدر من الصراعات والتنافسات ما بين أطراف اعتقدوا أن من حقهم أن يصبحوا وزراء للثقافة.. وهذا طموح مشروع.. بغض النظر عن قبولنا لمنطقية الصراعات.. وتلك الحالة في حد ذاتها توجب علي فاروق حسني جهدا خارقا لكي يعيد التئام الوزارة ومؤسساتها.. وأن يعيد اللحمة إلي ما تقطع وبرز بينه وبين الآخرين من شقاق. وإذا كان الوزير يتحدث عن أنه سيكون مشغولا في الفترة المقبلة بالمشروعات الثلاثة الكبري (المتحف المصري الجديد باعتباره أكبر متحف في العالم - ومتحف الحضارة - وتطوير القاهرة التاريخية).. فإن تلك مشروعات سبق أن بدأها.. وهي تصب إجمالا في العمل الأثري.. ولكن المطلوب قد يكون أكبر من هذا.. أو من الاستمرار في مسيرة بدأت وتعمل بالفعل.
وهنا أقدم اقتراحا شخصيا للسيد الوزير.. يكون بمثابة نقلة نوعية في مسار عمله الثقافي الشخصي ومسار عمله كشخصية مصرية خرجت من هذه المعركة.. وهو أن يعمل فورا علي تأسيس منظمة مدنية دولية لحماية القدس.. والحفاظ علي الموروث الثقافي المتنوع فيها.. باعتبارها مدينة الأديان.. وبحيث يكون أحد أهم أدوارها هو القيام بدور فاعل في حوار الحضارات.. فالقدس كما أنها ملتقي الصراع بين تلك الحضارات فإنها هي الموقع الذي نسعي إلي أن يكون مكانا للقاء.
ويجوز لهذه المؤسسة أن تحصل علي تمويلات من مهتمين عرب ومسلمين، بل وربما أصدقاء غربيين قد لايكونون في باريس وواشنطن.. وبحيث لاتبدو هذه المنظمة باعتبارها ذات طابع ديني.. وإنما ذات طابع إنساني.. ويكون هدفها ثقافيا حضاريا.. وتعمل علي ترسيخ الصفات الثقافية للقدس التي تتعرض لعملية تهويد مستمرة.. وتعقد المؤتمرات والندوات وتبقي موضوع القدس ملحا.
ولا أشك أن فاروق حسني نفسه قادر علي أن يقوم بالحشد لتأسيس هذه المنظمة التي سوف تمثل نوعا من المواجهة السلمية لكل ما تعرضت له القدس.. وكل ما تعرض له حوار الحضارات من انتكاسات.. وأن تعمل علي إعلان موقف إنساني مصري وعربي ودولي من المسائل المختلفة التي تطرحها تلك المعضلة في صراع الشرق الأوسط.
عبدالله كمال
يمكنكم مناقشة الكاتب وطرح الاراء المتنوعة على موقعه الشخصي
www.abkmal.net
www.rosaonline.net
أو على المدونة على العنوان التالي :
http//:alsiasy.blogspot.com
Email: [email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.