مهما حاول أن يخرج الساخر المخضرم "عاطف بشاي" عن جموع المصريين الذين وصفهم بالحزن، ومهما حاول أن يقدم عملا رمضانيا يسوق لنا فيه السعادة.. يبدو أنه غلبه الحزن ولم يتحمله قلبه الرقيق.. ففي الوقت الذي ذهبنا إليه نبحث عن السعادة المنشودة، وبعد ساعات من حوارنا معه الذي اكتشفنا فيه أن "تاجر السعادة" هو أكثرنا حزنا أصيب "عاطف بشاي" بجلطة في القلب نقل علي أثرها إلي العناية المركزة، فهل كان يكتب رائعته الدرامية من وراء قلبه؟ كل شخصيات مسلسل "تاجر السعادة" في رحلة تبحث عن السعادة.. فالجار المسيحي يبحث عنها في الطلاق والزواج من جديد وهو ما ترفضه الكنيسة.. وزوجة البطل تري سعادتها في ممارسة مهنة العديد علي الموتي!، وهو ما يرفضه زوجها.. وحتي البطل نفسه يبحث عن سعادته الخاصة في الزواج من شابة تحلم بأن تصبح نجمة مشهورة، لكنها تخونه فنعرف أن حلمه - هو الآخر- زائف. كل الشخصيات في العمل تبحث عن السعادة التي يهبها لها بائع الأمل بكلماته.. هذه هي تيمة المسلسل الذي نحاور كاتبه عاطف بشاي حول تحليله للسعادة في وجدان المصريين في 2009 .الذي يقول: المسلسل مأخوذ عن قصة قصيرة من صفحة ونصف الصفحة للراحل محسن زايد، تحكي عن رجل كفيف يقرأ الفنجان مازحا، لكن يصدقه الناس لأن بعض ما قاله تحقق بالمصادفة، فيذيع صيته ويصبح مشهورا فتقبض عليه الشرطة بتهمة الدجل! وأثناء التحقيق معه، يدعي أنه يبيع الأمل للناس كي يعطيهم السعادة، ويتساءل: لو كانت هذه تهمة فلماذا لا يقبضون علي محمد عبد الوهاب وأم كلثوم لأنهما يسعدان الناس؟ يتعاطف المحقق مع هذا المنطق، إلا أنه قال إن أوضاع الناس مؤلمة وإنه يساعدهم علي تخطيها، فيثور المحقق قائلا: أنت شيوعي؟ ويأمر بالقبض عليه لأنه يتكلم في السياسة! تنتهي القصة إلي هذا الحد، لكن في المسلسل هناك الكثير من الشخصيات المركبة والأحداث والظواهر المعاصرة مثل البطالة ومأساة الدويقة والفوارق الطبقية.. وتستمر القصة بعد خروجه من السجن ليصبح تاجرا للأحلام علي الفضائيات. * ناقش محمود أبو زيد في فيلم (البيضة والحجر) الفكرة نفسها، فما الجديد؟ - "البيضة والحجر" ناقش فكرة استغلال الدجل من أجل المال.. لكن في "تاجر السعادة" ناقشت بيع الوهم الديني والسياسي والاجتماعي واستغلال الثقافة الشعبية للبسطاء والتي تجعلهم يتعلقون بالغيبيات ويسهل خداعهم ومداعبة أحلامهم. * من هو الشيخ "مصباح" الحقيقي في مصر اليوم؟ - الشيخ "مصباح" هو المتاجر بالدين، وهو مفسر الأحلام والمعالج بالأعشاب، وهو السياسي الذي يكذب علي الناس، وهو النصاب الذي يداعب حلم الثراء عند الناس.. هناك عشرات من الشيخ مصباح يطلون علي البسطاء ويبثون أوهامهم فيعيش الناس في هذا الحلم كي ينسوا آلامهم الحقيقية. ما السعادة من وجهة نظرك؟ - هي الرضا بالوضع الذي يعيشه الإنسان وأن يستشعر الإيجابيات الموجودة في حياته، وأيضا كما يقول علماء النفس: القدرة علي التكيف مع المجتمع والظروف المحيطة. * هل تري أن المجتمع سوي، كي يتكيف الإنسان معه ؟ - لا طبعا.. فالمشكلة الحقيقية هي أننا أصبحنا نعيش في (اللامجتمع المصري)! المفروض أن المجتمع هو مجموعة من البشر يجتمعون حول أشياء مشتركة، ويجمعهم طموح واحد، وهو مالا نراه اليوم. فمثلا: في الأربعينيات كان الطموح هو مشروع التحرر من المستعمر، وفي الخمسينيات كان الحلم هو العدالة الاجتماعية ومبادئ الثورة، ثم حلم القومية العربية والجلاء.. أما في الستينيات فكانت الاشتراكية وتحالف قوي الشعب العاملة.. وفي السبعينيات كان حلم العبور وتحرير الأرض. أما اليوم فلا يوجد شيء يوحد المصريين، ولم يعد هناك حلم قومي.. وأصبح كل شخص في وادٍ وله أحلامه الخاصة. * في مجتمع مثل المجتمع الأمريكي، هناك أيديولوجيات وأديان وطوائف وثقافات متناقضة، وعلي الرغم من هذا فمجتمع المهاجرين متماسك لأن هناك مبدأ واحدا يؤمنون به جميعا وهو الحرية. - بالضبط.. هذا المبدأ الواحد غير موجود، ليس علي مستوي المجتمع، بل في الأسرة الواحدة! هناك مشهد رأيته وظننت أنه حالة فردية، إلا أنني اكتشفت أنها ظاهرة موجودة بكثرة، ففي إحدي القري السياحية رأيت رجلا يرتدي "تي - شيرت" أمريكيا وسلسلة وبنطلونا جينز وحذاء رياضيا، وتمشي خلفه بعدة أمتار زوجة ترتدي النقاب.. وليس من حقها أن تفعل شيئا إلا حين يأمرها هو.. فمن أين جاءت هذه الفرنجة وأنت لا تعطي زوجتك حقوقا تعطيها لنفسك.. هذه الازدواجية والتفرقة في داخل الأسرة الواحدة فما بالك بالمجتمع نفسه؟! * لماذا تفترض أن المجتمع تراجع.. أليس هذا هو حاله أصلا؟ - المجتمع المصري تراجع ما لا يقل عن قرن للخلف.. فكريا وثقافيا ودينيا.. قارن حالنا اليوم بعصر التنوير في العشرينيات، كان هناك ما يجمع المصريين وكانت هناك ديموقراطية وحرية وليبرالية عظيمة.. تأمل مثلا صالون مي زيادة (وهي امرأة ومسيحية متشددة) الذي كان يحضره رجال الدين الإسلامي مثل الشيخ زكي مبارك والشيخ علي عبد الرازق (مؤلف كتاب الإسلام وأصول الحكم) ومفكرون وأدباء مثل طه حسين والعقاد، وفي الوقت نفسه كان يجالسهم شبلي شميل (مترجم كتاب أصل الأنواع لدارون) وهو ملحد يجهر بإلحاده! وعلي الرغم من هذا كان الصالون الثقافي بعيدا كل البعد عن فكر التكفير والتطرف، وكانت حرية الرأي مكفولة وتعالج بنوع من المرح وليس التشنج والتعصب.. ففي يوم من الأيام ثار شبلي شميل حين قال له الأدباء إن الأدب أبقي من العلم، فانصرف وهو يلوح بعصاه قائلا: يا أدباتية يا أولاد الكلب! لتداعبه مي زيادة قائلة: لماذا أولاد الكلب؟ وليس أولاد القرد ؟ في إشارة ساخرة إلي نظرية دارون في التطور! حين يموت شبلي شميل يقام له حفل تأبين كبير وينعاه رجال الدين ويرثيه حافظ إبراهيم بقصيدة عن علمه وفكره وخلقه، هذا هو المجتمع الذي يمكن أن تجد فيه السعادة، وليس مجتمع 2009 . * في (تاجر السعادة) لعب البطل دور رجل الدين والسياسي والمصلح، فهل تعني أن هؤلاء كلهم زائفون في مجتمعنا؟ ألا يوجد صوت حقيقي وصادق؟! - كيف يظهر هذا الصوت في مثل هذا المناخ؟ لا يوجد أمل علي الإطلاق، بل نحن نتدهور والشخصية المصرية تكتسب صفات سلبية بمرور الوقت.. منها انعدام الأمل والأمان.. وهو ما يجعله يجري وراء الوهم الذي لا يمكنه تحقيقه. * هل الحكومة هي السبب ؟ - الطبقية اليوم تراها حولك بمنتهي الفجاجة، فالعشوائيات تحيط بالقاهرة، جامعة الدول العربية شارع الأثرياء ومن حققوا ثروات كثير منها مريب ويفد عليها العرب لينفقوا المال، وفي الوقت نفسه يمكنك أن تجد منطقة شعبية هي أرض اللواء بجوار هذا المكان بخطوات، فلا تتعجب من ظواهر كالتحرش الجماعي، حين يعبر العشوائي قضيب القطار بخطوات قليلة يجد نفسه في عالم آخر.. عالم يعلم جيدا أنه لن يكون أبدا جزءا منه، إلا بطريق غير مشروع. هذه الطبقية أكثر بشاعة من طبقية ما قبل الثورة، فقد كانت الطبقية (حتمية) بمعني أن الباشا غني لأنه ابن باشا، أما اليوم فالفساد جعل الثراء الفاحش متاحا لغير الشرفاء، بينما لا يوجد طريق واضح مشروع يحقق هذا للشخص العادي. * هل نحن شعب ابن نكتة؟ - لا، نحن شعب ميلودرامي حزين.. ففي السينما يبقي في وجدان الناس يوسف وهبي، وليس نجيب الريحاني.. يبقي حسن الإمام وليس فطين عبد الوهاب. الحزن متأصل فينا فنحن شعب نقدس الموت منذ أيام الفراعنة والأهرامات شاهدة علي هذا.. لكن النكتة مجرد وسيلة دفاعية لمواجهة الاستعمار والظلم، والنكتة المصرية جارحة فجة تعتمد غالبا علي الجنس، ففي زمن الحملة الفرنسية كان المصريون يسخرون من نابليون من خلال شخصية (علي كاكا) الذي كان يقف وقد ربط علي وسطه عمودا ضخما من الجبس ويلوح به في الهواء وسط ضحكات المارة.. في إشارة ساخرة لعجز نابليون الجنسي، فقد كان لا يفضل المصريات (لأنهن سمينات ورائحتهن مثل الحلبة!) فاعتبروه عاجزا بينما هو ليس كذلك! * هل الإنسان هو صانع السعادة أم أنها وليدة الظروف؟ - لو كنت أنت صاحب فكر تكفيري، وكنت أنا صاحب فكر تكفيري، فكيف نعيش معا في سعادة؟! من أين تأتي السعادة بين سمّاك يحاول قتل نجيب محفوظ وبين رقي فكر نجيب محفوظ؟ لقد حدثت ردة حضارية واختفت فكرة التعددية وقبول الآخر.. ففي مجتمع التكفير والمصادرة والتربص كيف يمكن أن يكون الإنسان سعيدا وهو غير حر في أفكاره؟! * هل التطرف الديني هو السبب؟ - التدين الشكلي هو ما يسيطر علي المجتمع المصري.. فكرة "تاجر السعادة" هو شخص يتاجر بأحلام البشر ويصبح بالمصادفة زعيما سياسيا، وهناك الكثيرون ممن يلعبون هذه اللعبة وهم دجالون في الأساس. ثم استثمر تراخي المصريين ووصولهم إلي درجة من التدين الشكلي وتسليم عقولهم لأي نصاب يتحدث باسم الدين، هناك إحصائية تقول إن هناك دجالا لكل 200 ألف مواطن في مجتمعنا اليوم، وهي نسبة مرعبة.. أصبحت الغيبيات تحكم المجتمع المصري أكثر من أي عصر مضي. * كيف؟ - في فترة التحذير من أنفلونزا "ب1خ1" رأيت رجلا يعطس في وجه آخر.. فنهره قائلا: لماذا لا تضع منديلا أو تغطي فمك؟ فأجابه الرجل باستغراب واستنكار: يا أخي بدل ما تقولّي يرحمكم الله؟! وفي يوم آخر، كنت أصلح سيارتي عند الميكانيكي.. وشكوت من كثرة تعطلها، وطلبت منه أن يصلحها جيدا هذه المرة، فأجاب بإيمان عميق: يجب أن تدرك أن السيارة يجب أن تتعطل باستمرار.. لأنها من صنع البشر! هذه شخصيات شائعة لا تؤمن بأسباب العلم والتفوق وترجع كل شيء إلي أسباب غيبية فقط.. فالمجتمعات الغربية متقدمة عنا رغم أنها ليست أكثر تدينا منا.. ليس التدين الشكلي هو المقياس إذن. انتشار ثقافة الحلال والحرام.. هذا ما يلتف حوله المصريون اليوم، وإن لم تتوافق معهم في تدين شكلي أجوف.. فلو كان التدين حقيقيا، لكان المجتمع اليوم أكثر تقدما.. * ولأصلح المهندس سيارتك ! يضحك ويتابع: بالضبط.. ولاختفي الفساد والدعارة والانحلال الخلقي والسرقة.. هناك أناس فاسدون يشعرون براحة ضمير كاملة لمجرد أنهم يؤدون عبادات شكلية ينخدع بها الناس. * هل اعترضت الكنيسة علي بعض المشاهد؟ - لقد رفضت الكنائس تصوير أي مشاهد بها، رغم أننا أرسلنا السيناريو لعدد كبير من الكنائس في القاهرة والإسكندرية دون جدوي، فاضطررنا لبناء ديكور كنيسة كي نصور فيه المشاهد. وآلمني أن بعض الشباب هاجموني علي الإنترنت، وقال أحدهم: مادمتم تستطيعون بناء ديكور كنيسة، فلماذا أردتم تدنيس دار العبادة الحقيقية بهذا العمل؟ * هل السعادة وهم عند المصريين؟ - الإنسان في العالم كله يبحث عن السعادة.. لكنها في مجتمعنا صعبة المنال، لذلك فكثير من الناس يفنون حياتهم وراء سعادة زائفة ووهم جميل لأنهم يعرفون أنهم لن يستطيعوا تحقيق أحلامهم، فيكتفون بالمسكنات التي يعطيها لهم باعة الأمل.. لذلك تنتعش سوقهم في مجتمعنا. * ....................؟ - هل تذكر خبر احتراق قطار الصعيد؟! عرفت الخبر حين استيقظت، وكان خبرا صادما لدرجة أنني أصبت بالإعياء من مشاهد المصريين المحترقين وشعرت بهم وضيق وحزن شديد لما حدث.. وفي هذه الأثناء جاءني تليفون من فتاة رقيقة ناعمة الصوت، وقالت إنها مندوبة من إحدي الشركات تعلن عن عرض (تايم شير) في إحدي القري السياحية! المجتمع المصري تحلل وتفكك ولم يعد له حلم واحد، لذلك تراجعت فكرة السعادة .. فنحن - في رأيي- شعب تعيس.